فُسَيْفِسَاءُ الْمَعَانِي.. دِرَاسَاتٌ فِي الشِّعْرِيّةِ الْمَغْرِبِيِّةِ الرّاهِنَةِ
عبد الحق ميفراني
يمثل كتاب الناقد نصر الدين شردال “فسيفساء المعاني.. دراسات في الشعرية المغربية المعاصرة”، العاشر في سلسلة “نقد” لمنشورات دار الشعر بمراكش والمتوج بالمرتبة الثانية مناصفة لجائزة النقد الشعري للنقاد والباحثين الشباب في دورتها الخامسة، نموذجا خلاقا للإنصات لراهن الشعرية المغربية دون تعصب لرؤية قبلية، بل الرهان يظل محكوما بأسئلة الخطاب النقدي وقضاياه، ومحكوما باستراتيجية استقرائية تلامس سمات هذه الشعرية المغربية اليوم.
استنادا لنماذج التحليل والتي استقاها الناقد شردال، من هذا التعدد اللساني والتعدد الثقافي المغربي، والذي يعرف غنى وإخصابا مضاعفا في مستويات القول الشعري (فصيحا، زجلا، أمازيغية، حسانية)، بل وضمن أنماط الكتابة الإبداعية الشعرية (العمودي، التفعيلي، قصيدة النثر، الهايكو..)، ناهيك عن التراكم الذي تعرفه النصوص المرجعية لثقافتنا الشعبية (الملحون، العيطة، الروايس،…).
سمة التعدد في الشعرية المغربية المعاصرة، “أشبه بلوحة فسيفسائيّة متعدّدة الأحجام والألوان والأشكال والأبعاد، وهذا ما يضمن لها خصوصيتها، وراهنتيها، ووعدها المُستقبليِّ..”، يؤكد الناقد شردال، بل و”تتآلف كلّ الأنماط والأنواع الشّعريّة فيما بينها، دون أن يلغي أيُّ نوع النّوع الآخر..” في سعي حثيث “نحوَ الأفقِ الثّقَافيِّ الإنْسَانيِّ المُنْفَتِحِ”.
وبالحديث عن هذه “المدونةُ الشّعريّةُ المغربيّةُ الحديثةُ والمعاصرةُ”، والتي يقاربها الكتاب في أشكال فنونِ الكتابةِ الشّعريّةِ، بدءا من القصيدةِ العموديةِ، ومرورا بقصيدةِ التّفعيلةِ، ثمّ قصيدة النّثر وقصيدة الهايكو وقصيدة الومضة والشّذرة، وشعر الملحون والزّجل، وغيره من أشكال الشّعر الأمازيغيّ والحسّانيّ، وفنون القول الشّعبيّ الّذي يختلف من منطقة إلى أخرى… يظهر جليا “إنّنا إزاء مدونة شعريّة؛ أو فسيفساءٌ من الأشكالِ والأنواعِ تتعايشُ فيما بينها في زمن ثقافي متجدد باستمرار.
وما يبرر هذه السمة، هو ما يعتبره الناقد شردال تموقعا للمغرب “في فضاءٍ استراتيجيٍّ فعّالٍ، يربطُ بين جغرافياتٍ وثقافاتٍ إنسانيّةٍ متعدّدة، مما جعله بلدا أصيلا ومعاصرا، يستجيبُ لاشتراطاتِ التّنوّعِ والاختلافِ، ومنفتحا على الثّقافات الأوروبيّة والإفريقيّة والمحليّة، وَيَتَمَيَّزُ بثَقَافَةٍ مُرَكَبَّةٍ مُتَآلِفَةٍ؛ مَا بَيْنَ عَرَبِيَّةٍ وَأَنْدَلُسِيَّةٍ وَأَمَازِيغِيَّةٍ وَحَسَانِيَّةٍ وَصَحْرَاوِيَّةٍ وَفْرَنْكُوفُونِيَّةٍ وَأَنْجُلُوسَكْسُونِيَّةٍ وَعِرْقِيَّةٍ أُخْرَى، جَعَلَتهُ فَضَاءً للتّعايشِ الإِنْسَانِيِّ الْكَوْنِيّ، وَمَشْتَلا لِتَلاَقُحِ الأَفْكَارِ وَالإِبْدَاعِ، وَمَجَالا خِصْبًا لِتَعَايُشِ كُلِّ الحساسيّاتِ والتّوجهاتِ فِي مَا بَيْنهَا، بلْ إِنَّ التَّعَايش هو سِمَةُ الثَّقَافَةِ الْمَغْرِبِيَّةِ في وقتها الرَّاهِن”.
طبعا لا يمكن استثناء هنا، الشّعر العربيّ المعاصر من كلُّ الإبداعِ المغربيِّ الحديثِ والمعاصرِ، “لأنّه كان دائمًا الكلام السّامي، والدرّ النّاصع العالق بنياطِ الذّائقةِ والذّاكرةِ العربيتين، ولا يزال وجها مشرقا من وجوهِ الثّقافةِ المغربيّةِ المتنوعةِ، وأحدُ أهمِّ مقوماتِ هوّيتها الثّقافيّةِ، والمساهم في تشكيلها وصياغتها والحفاظ عليها معتدلةً ومتميّزةً ومستمرةً”، بهذا التوصيف يؤشر الناقد نصر الدين شردال، أثناء الحديث عن مدونة شعرية؛ “أو فسيفساءٌ من الأشكالِ والأنواعِ تتعايشُ دون أن يُلغي أيُّ نوعٍ النّوعَ الآخر”.
في سياق كرونولوجيا القراءة والمقاربة، يسعى هذا الكتاب إلى دراسة نماذج مختلفة في الحساسيّات والرّؤى والتّجارب من فِي “حَدَاثَةِ شِعْرِيَّتِنَا المَغْرِبِيَّةِ المُعَاصِرَةِ، تختلف في الجيل والجغرافيا، لكن يجمعها الشّعر والتّعلّقُ بالهويةِ المغربيّةِ في سمتها العربيِّ والعالميِّ المنفتحِ.. هذه اللّوحةُ الفسيفسائيّةُ تتداخل فيها الأنواع والأشكال الشّعريّة العربيّة بالمغرب: (القصيدة العموديّة، القصيدة التّفعيليّة، قصيدة النّثر، قصيدة الهايكو، قصيدة الشذرة…) كما يختلف الشّعراء، ويجتهدُ كلّ واحدٍ منهم في إبراز لونه وأسلوبه الشّعريّ الخاص به، لكنّه عنصر ضمن تشكيلة كاملة أشبه بلوحةٍ فسيفسائيّةٍ تتضامُ عناصرها من أجلِ تحقيقِ المتعةِ والفائدةِ والأثرِ الشّعريّ”.
يضمر عنوان الكتاب: “فُسَيْفِسَاءُ الْمَعَانِي: دِرَاسَاتٌ فِي الشِّعْرِيّةِ الْمَغْرِبِيِّةِ الْمُعَاصِرِة”، إشكالات راهنة ومهمّة تتعلّق بالشّعر والنّقد الأدبيّ، هذه الإشكالات تقوم عليها أطروحة الكتاب، ويفرضها البناءُ المنطقيُّ والمنهجيُّ له، وهي: كيفَ يبني الشّاعرُ المغربيُّ المعاصرُ المعنى الشّعريّ، وما أثر ذلكَ في إنتاجِ الدّلالةِ وتأويلها؟ هذه الإشكالية الكبرى تتفرع إلى أسئلة صغرى تابعة لها، ومرتبطة بها:
كيف تتبدى أنساق المغايرة والاختلاف في الشّعرية المغربيّة المعاصرة؟ ما هي المضامين الجمالية للشعرية المغربية المعاصرة من خلال: القصيدة العمودية، والقصيدة التّفعيلية، وقصيدة النثر؟ ما الرّهانات المنتظرة من تجربة الشّباب في الألفية الثالثة، وآفاقها المستقبليّة؟
إن سمة الفسيفساءِ له ما يبرره منهجيا، ضمن التناول النقدي الوارد في كتاب الناقد نصر الدين شردال، إذ يسعى الى “قراءة فسيفساء شعريتنا المغربيّة ودراسة نماذج مختلفة في الحساسيّات والرّؤى والتّجارب من فِي حَدَاثَةِ شِعْرِيَّتِنَا المَغْرِبِيَّةِ المُعَاصِرَةِ، تختلف في الجيل والجغرافيا، لكن يجمعها الشّعر والتّعلّقُ بالهويةِ المغربيّةِ في سمتها العربيِّ والعالميِّ المنفتحِ”.
يبرز السؤال الإشكالي في قدرته هذه الفسيفساء على إبراز خصوصية، متفردة، للنص الشعري المغربي، ضمن فسيفساء أعم هي الشعريات العربية والعالمية. خصوصية تستند من مرجعيات متعددة ومركبة، وما تفتحه من إخصاب المعاني والدلالات، وما تحققه من جماليات للنص الشعري.. من علامات وإشارات ورسائل وأنساقا، وما يظهر منه، بتعبير الناقد شردال، من “علامات سيميائيّة بارزة، وما لا يظهر هو أنساقٌ مضمرةٌ، ولا يمكنُ الوصول إليها إلّا عبر التّأويل، وبذل مجهودٍ مضاعفٍ بالقراءةِ والمشاهدةِ، والتّفسيرِ والتّحليلِ”، وهذا ما حتّمُ على الناقد شردال “الجمعَ بينَ نظريّة التّلقيّ والسّيمائيات التّأويليّة والنّقد الثّقافيّ”، منهجيا.
فهل استطاعت هذه التّوليفةُ النّقديّةُ والتي هي من صميم المعاصرة النّقديّة العربيّة والعالميّة، مقاربةِ الشّعريّةِ المغربيّة المنفتحةِ في راهنها الفوّار، وما تزخرُ بهِ من مرجعياتٍ وفنونٍ وأنساق ثقافيّةٍ تحتاجُ إلى قارئٍ مؤولٍ لفكِّ ألغازها، واستكناهِ جماليّةِ ما وراء الظّاهرِ، إلى المضمرِ والباطنِ..؟
ليبقى البحثُ عَن نَموذجٍ شِعريٍّ جَديدٍ غير مُستهلكٍ وغير مُستعادٍ هو رِهانُ شعريّتنا المَغربيّة المعاصرة، وذلك لن يتأتى لنا إلاَّ بالحفر عميقا في تربة المنسيِّ والرّاهنِ والمُختلفِ، والكونيّ.