العملية الأوكرانية في كورسك.. 1- تحليل الجانب التكتيكي
نضال آل رشي
تقترب العملية الأوكرانية في إقليم كورسك الروسي من إتمام أسبوعها الثالث وسط ضبابية متعمّدة من الجانب الأوكراني في الإفصاح عن تفاصيلها وأهدافها الحقيقية، وتخبط في الجانب الروسي حول ما يجري على الأرض وكيفية التعامل معه.
في أحدث التقارير الرسمية من الجانب الأوكراني وعلى لسان القائد “أولكسندر سيرسكي” فإن القوات الأوكرانية باتت تسيطر على أكثر من 1300 كم مربع من الأراضي الروسية ولازالت تتقدم بعمق يبلغ أكثر من ثلاثين كيلومتراً.
(كما هو موضح بالصورة: المناطق الخضراء جنوباً هي الأراضي الأوكرانية، المناطق الزرقاء هي مناطق السيطرة الأوكرانية داخل إقليم كورسك الروسي والحمراء هي مناطق السيطرة الروسية في الداخل الروسي).
أضف إليه أن القوات الأوكرانية تمكنت في اليومين الأخيريين من عزل ما يقارب 700 كيلو متراً مربعاً إضافية بعد أن دمرت الجسور التي تربط هذه البقعة الجغرافية مع روسيا الأُم (كما هو موضح بالصورة: المنطقة أصبحت معزولة وتحدّها الأراضي الأوكرانية غرباً وجنوباً باللون الأخضر ومناطق السيطرة الأوكرانية داخل كورسك الروسية بالأزرق شرقاً، ونهر السن الروسي شمالاً بعد تدمير الجسور الثابتة وضرب كل الجسور الاصطناعية التي حاولت ولا زالت تحاول القوات الروسية تشييدها)
هذه المنطقة فيها ما يقارب الـ 3000 إلى 5000 جندي روسي لم يبق أمامهم إلا الانسحاب كأفراد (إعادة التموضع وفقاً للخطاب الرسمي الروسي) وترك كل المعدّات الثقيلة ومخازن الأسلحة الموجودة في المنطقة أو انتظار معجزة إلهيّة بتمكن القوات الروسية من إرسال الامدادات اللازمة للصمود وإمّا الموت ببطء بهدف تأخير تقدّم القوات الأوكرانية.
كيف نجحت القوات الأوكرانيين
وفقاً لتقرير أعدته “قناة RT الروسية” في نوفمبر من العام الماضي، فإنّ العدد التقريبي للقوات الروسية الموجودة في إقليم كورسك يبلغ حوالي ال 70 ألف جندي، فكيف استطاعت القوات الأوكرانية اقتحام الدفاعات الروسية؟
هنا يبرز أحد أهم مفاهيم العمليات الخاصة، حيث قام الأوكرانيين بجمع قرابة 8000 عنصر من مختلف الاختصاصات وحوالي ال 2000 عنصر من قوات النخبة واعتمدوا في هجومهم ما يسمى في العلوم العسكرية “مجموعة المناورة التشغيلية”.
شرح طريقة العمل وفق هذا التكتيك العسكري يحتاج إلى مقال خاص، اختصاراً يرجع أصل هذا المفهوم إلى التكتيكات الهجومية الألمانية في الحرب العالمية الثانية (البليتزكريغ) والتي قام بابتكارها الضابط “هانز غودريان”. الهجوم وفقاً لهذا التكتيك يعتمد على السرعة ومفاجئة العدو وتركيز الهجوم في نقطة واحدة عن طريق هجوم منَّسق من الدبابات والمدفعية الثقيلة والتي تقوم بفتح ثغرة في خطوط العدو (كما هو موضح في الصورة أدناه حيث الخطوط البيضاء تمثل دفاعات العدو والسوداء القوات المهاجمة).
يبدأ المشاة والمدفعية الدخول من الثغرة ويقومون بإحاطة العدو من الخلف بمساعدة القوات الجوية في القضاء على الحصون العميقة. قام الاتحاد السوفييتي لاحقاً باستنساخ وتطوير هذا المفهوم وتسميته “المجموعات المتنقلة السوفييتية”. تطوّر هذا المفهوم خلال الحرب الباردة ليصبح مجموعات تهدف إلى استباق الضربات النووية التكتيكية للناتو من خلال تشكيل فرق قتالية مختلطة وتركيز قوات النخبة في منتصف ومقدمة القوات الهجومية لتكوّن تشكيلاً قتالياً مرناً في الحجم والتنظيم، وقادراً على العمل بعيداً عن القوات الصديقة للجيوش السوفيتية على أمل تحقيق عنصر المفاجأة ضد قوات الناتو.
الخيارات المتاحة لأوكرانيا في المرحلة التالية
مثل جميع العمليات العسكرية، تم التخطيط لهذه العملية الأوكرانية في كورسك كعملية متعددة المراحل، بما في ذلك العمليات التحضيرية. تشمل هذه العمليات جميع جوانب جمع المعلومات الاستخباراتية، وإعداد القوات، والتضليل، والأمن التشغيلي، واللوجستيات وغيرها من الجوانب الضرورية لإعداد مجموعة المناورة التشغيلية الأوكرانية للمعركة.
في الوقت الحالي، أكملت القوات الأوكرانية أول مرحلتين: “الدخول” و”الاختراق”، وهم الآن في مرحلة “الاستغلال”. وفيما تقترب القوات الروسية ببطء ولكن بثبات من إعادة نشر قواتها لسد الفجوة في حدودها ومحاولة دفع الأوكرانيين إلى داخل أوكرانيا، سيكون لدى أوكرانيا ثلاث خيارات.
الخيار الأول هو تعزيز الأراضي التي استولوا عليها والدفاع عنها حتى يتم التوصل إلى نوع من المفاوضات. هذا الخيار يحمل أعلى درجة من المخاطرة بسبب انتشار القوات الأوكرانية في مناطق صغيرة يسهل على القادة الروس قطعها وتدميرها.
يبدو أنّ هذا الخيار هو الخيار الأوكراني حالياً، خاصةً أنهم لم يواجهوا أي تبعات مؤلمة أو غير محتملة حتى الآن. هناك بعض التقارير التي تشير إلى أن الأوكرانيين بدأوا بالفعل في تحصين مواقعهم، ولكن لا ينبغي أن نقفز إلى استنتاجات بشأن هذا الأمر حيث تتضمن العقيدة العسكرية حفر مواقع مؤقتة للجنود كلّما توقفوا لفترة أطول من ست ساعات في أي مكان، لذلك ليس بالضرورة أن يكون حفر الجنود دليلاً على نية احتلال طويل الأمد.
بمجرد وصول القوات الأوكرانية إلى حدها الأقصى للاستغلال، يتطلب هذا الخيار أعداداً هائلة من القوات القتالية والدعم للدفاع عن الأراضي الروسية التي تم الاستيلاء عليها وجهداً كبيراً من المهندسين لبناء حقول الألغام، والخطوط الدفاعية، والمخابئ العميقة، ومواقع تخزين اللوجستيات. كما ستحتاج القوات على الأرض إلى الدفاعات الجوية وفرق الحرب الإلكترونية والدعم الجوي والدعم الطبي واللوجستي.
إنّ احتمال فقدان عدد كبير من القوات في هذا السيناريو يجعله مخاطرة استراتيجية وسياسية. قد تفقد أوكرانيا كتائب وألوية، وكذلك وحدات مدفعية وحرب إلكترونية ودفاع جوي لا يمكنها تحمل خسارتها. والأهم أنّ هذا الخيار في حال فشله سوف يُهدر الرسائل الاستراتيجية الإيجابية التي تم إيصالها إلى موسكو والحلفاء في آنٍ معاً.
الخيار الثاني هو أن تقوم القوات الأوكرانية بانسحاب جزئي من الأراضي التي استولت عليها، والعودة إلى مواقع أكثر قابلية للدفاع. ربما يتم الرجوع إلى خطوط الدفاع الروسي التي تم تجاوزها وتحويلها إلى خطوط دفاع أوكرانية للدفاع عن الأراضي التي تم الاستيلاء عليها.
يعتبر هذا الخيار مخاطرة متوسطة، حيث يقلل من المخاطر المرتبطة بالخيار الأول ويتيح لأوكرانيا إعادة توزيع القوات بعد العملية على أنشطة أخرى عندما تتاح الفرصة ويسمح لأوكرانيا بتحقيق أقصى استفادة على المستويين السياسي والاستراتيجي، بينما يقلل من مخاطر فقدان القوات القتالية.
الهدف من هذا الخيار سيكون إهانة المسؤولين في موسكو، والاستمرار في تهديد السيادة الروسية، وتشكيل عامل استهلاك مستمر للقوات الروسية بعيداً عن أوكرانيا، ومنح أوكرانيا بعض النفوذ إذا أجبرت على الدخول في مفاوضات في المستقبل القريب.
الخيار الثالث هو الانسحاب الكامل إلى الحدود الدولية بين روسيا وأوكرانيا
نظراً لسلوك الإدارة الأمريكية وبعض الدول الأوروبيّة خلال الحرب، قد يكون الخيار الثالث هو ما يشجعون عليه أوكرانيا خلف الكواليس ،حيث يمكّن هذا الخيار أوكرانيا من تحقيق أكبر فائدة سياسية واستراتيجية ويمنح زيلينسكي أفضل دفعة سياسية داخلية وتحسناً في معنويات الأوكرانيين، وذلك من خلال الحفاظ على قوة قتالية كبيرة قد تُستخدم في عمليات هجومية أو دفاعية مستقبلية مع إرسال رسالة استراتيجية إلى داعمي أوكرانيا بأنهم يستطيعون القيام بعمليات هجومية بطريقة لا تشكل خطراً وجودياً على القوات البرية المنفذة أو على معدّاتهم العسكرية.
وبينما قد تكون هذه العملية أثبتت للمشككين بأن هناك تهديد من قبل الناتو للأراضي الروسية، إلا أنّ الانسحاب سوف يظهر موسكو ضعيفة لأنّها لم تتمكن من معاقبة أولئك الذين تجرأوا على الأرض الروسية.
ختاماً، إذا كان أحد أهداف هذه العملية توجيه إهانة لموسكو فالإهانة قد وقعت، ولكن الحروب لا تربح بالإهانات وإنما بالقتال في الميدان وهذه الحرب بالذات مليئة بالمفاجآت وسيكون من المثير تقييم “الإيجابيات والسلبيات” الاستراتيجية لمثل هذه العملية بعد نهايتها.
بناءً عليه، لا أستبعد أن تتمكن أوكرانيا من تنفيذ الخيار الأول دون أي آثار جانبية عميقة، أو أن يكون هذا الخيار مقدّمة لهجوم أوكراني في مكان آخر على القوات الروسية في داخل أوكرانيا وأن تكون عملية كورسك مجرد إلهاء لروسيا وهو الخيار الذي سنقوم بالحديث عنه مطولاً في الجزء الثاني لهذا المقال حين نقوم بتحليل الجانب الاستراتيجي للعملية.