العملية الأوكرانية في كورسك (2).. تحليل الجانب الاستراتيجي
نضال آل رشي
في الجزء الأول لهذه المقالة حاولنا تحليل الجوانب التكتيكية للعملية العسكرية الأوكرانية في إقليم كورسك الروسي. كشفنا من خلال الخرائط المتاحة كيف استطاعت القوات الأوكرانية تنفيذ المرحلتين الأوليتين من العملية “الدخول” و”الاختراق” وباتت تستكشف المرحلة الثالثة ألا وهي “الاستغلال”. كما وحاولنا رسم تصور تكتيكي لأبرز الخيارات التي تنتظر الأوكرانيين في المرحلة المقبلة.
بعيداً عن تكتيكات العمل الحربي القابلة للتغيّر بين تقدم وتراجع أو استعصاء، ينبغي التركيز على الصورة الأكبر ومحاولة استكشاف مفاعيل وتداعيات ما حدث في كورسك من حيث الأهداف الاستراتيجية على المديين القريب والبعيد، وهو ما سنحاول القيام به من خلال هذه المقالة التحليلية.
- العبء التاريخي:
في عام 1812، شن نابليون بونابرت حملة عسكرية كبيرة ضد الإمبراطورية الروسية، فيما يعرف بالغزو الفرنسي لروسيا. نجحت القوات الفرنسية في التقدم والوصول إلى موسكو، لكن بسبب نقص الإمدادات والشتاء الروسي القاسي، تراجعت القوات الفرنسية بشكل كبير، وتكبدت خسائر فادحة، مما أدى الانسحاب من روسيا وتدهور قوة نابليون في أوروبا واحتلال باريس من قبل قوات التحالف الروسية، حيث دخل القيصر الروسي ألكسندر الأول باريس في العام 1814 وانتزع نابليون من على العرش وارسله إلى المنفى وقام بإعادة النظام الملكي وتنصيب لويس الثامن عشر.
بعد الثورة البلشفية في 1917، اندلعت الحرب الأهلية الروسية بين القوات البلشفية (الحمر) والمعارضة القيصرية (البيض). تدخلت عدة دول أجنبية لدعم القوات البيضاء ضد البلاشفة لمحاولة الإطاحة بالنظام البلشفي الجديد. على الرغم من الدعم الأجنبي، انتصر البلاشفة بقيادة فلاديمير لينين وسيطروا على روسيا بحلول عام 1920، ما أدى إلى تأسيس الاتحاد السوفيتي.
لم تدعو الحاجة لينين إلى ملاحقة القوات الأجنبية واحتلال عواصمها كما فعل ألكسندر الأول، فتبعات الهزيمة ما لبثت أن وصلت إلى كل من باريس ولندن، حيث تم تجميد عمل ديفيد لويد جورج رئيس الوزراء في المملكة المتحدة وسقوط وانتهاء الدور السياسي لواحد من أهم الشخصيات السياسية في التاريخ الفرنسي الحديث ألا وهو رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو “أب النصر” كما كان يحلو للفرنسيين أن يلقبوه لدوره الكبير في قيادة فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى والمفاوضات التي أعقبتها.
في العام 1941، شنت ألمانيا النازية عملية بارباروسا، وهي الغزو العسكري للاتحاد السوفيتي. تمكنت القوات الألمانية من احتلال أجزاء كبيرة، وحدثت معارك كبرى مثل معركة ستالينغراد ومعركة موسكو.
في العام 1942 بدأ الجيش الأحمر عملية أورانوس في هجوم مضاد قوي لم تستطع القوات الألمانية النازية الصمود أمامه، وتمكنوا من دحر القوات الألمانية واستعادة الأراضي المحتلة وانتهت الحرب في 1945 بانتصار الحلفاء ودخول جوزيف ستالين إلى برلين وموت أدولف هيتلر وتقسيم ألمانيا بي الشرق والغرب.
لا شك أنّ قيام القوات الأوكرانية بدخول الأراضي الروسية في العام 2024 واحتلال جزء منها (على صغره) يُعدُّ حدثاً ثقيلاً في الميزان التاريخي. لا شك أيضاً في أن هذا الاعتداء قد وضع الرئيس فلاديمير بوتن شخصياً في مقارنة مع من سبقوه من قادة روسيا أثناء تعرضها لأحداث مشابهة عبر التاريخ، الأمر الذي سيجبره على اتخاذ خطوات من نوع خاص تتناسب مع حدثٍ من نوعٍ خاص.
فهل يدفع هذا العبء التاريخي صاحب ” العقل البارد والقلب الناري” كما وصفته المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، للتهور أو اتخاذ خطوات غير محسوبة قد يدفع ثمنها مستقبلاً؟
في ظل الظروف الحالية من التراجع العسكري الأوكراني شرقاً وتقدم القوات الروسية على جبهتي “دونييتسك” و “لوغانسك”، دعت الحاجة إلى خلط الأوراق وإرباك الجانب المتقدم وحشره في زاوية ضيّقة على أمل أن يتخذ قرارات متهورة قد تغير مسار المجريات على الأرض.
على أي حال يبدو أن كييف وحلفائها اخذوا قرارهم بمعزلٍ عن التاريخ أو لعلهم أخذوه نكايةً بالتاريخ مما يطرح تساؤلاً كبيراً حول ما ستؤول إليه الأمور في المستقبل وهل سينتهي الحال بكييف كما انتهى بعواصم أخرى وهل سيتعرض زيلينسكي للإذلال الذي تعرضت له شخصيات تاريخية أخرى، أم أنّ التاريخ سيكتب بطريقة مختلفة هذه المرة؟
- السيادة الوطنية:
من الجدير بالذكر وسط ما يجري؛ أن الوظيفة الأساسية للدول وجيوشها هي الدفاع عن أراضي الدولة والحفاظ على سلامة مواطنيها، وبعد تمكين هذا المفهوم تبدأ التطلعات إلى الخارج واستكشاف فرص التوسع والردع وبسط السيطرة على الجوار بطرق عسكرية أو غير عسكرية.
هذا تحديداً ما فشلت به الدولة الروسية منذ بدء الحرب، فسماء روسيا مستباحة أمام المسيرات الأوكرانية التي تضرب يومياً ما تستطيع الوصول إليه من البنى التحتية العسكرية والاقتصادية وقد تكون مخازن الوقود في إقليم روستوف التي لازالت تحترق منذ أيام شاهداً حيّاً على هذه الاستباحة. مع الأخذ بعين الاعتبار أن حلفاء أوكرانيا لم يسمحوا لها حتى الآن باستخدام الصواريخ بعيدة المدى ضد الأهداف غير التشغيلية في العمق الروسي، مما يطرح سؤال ماذا لو؟ وكيف ستكون الأوضاع في روسيا آن ذاك؟
على اخلاف تداعيات كل منهما، يبدو أن حال الأرض الروسية بعد العملية الأوكرانية أصبح كحال سمائها، وهو ما لن تقبل به موسكو تحت أي ظرف من الظروف، ما يستدعي تدعيماً بريّاً بدءاً بالتحصينات الدفاعية العميقة وانتهاءً بزيادة الكثافة العددية للجنود على طول الحدود الروسية الأوكرانية.
وفقاً للمعهد العالي لدراسات الحرب فإنّ “التقديرات الأولية للموارد البشرية اللازمة لإنجاز هذا المشروع تفوق ال 300 ألف جندي إضافي” والسؤال هنا من أين تأتي روسيا بهذه القوات؟
حملة تجنيد جديدة في روسيا وبغض النظر عن عدم شعبيتها والغضب الجماهيري الذي قد تواجهه، إلا أنها قد توجّه ضربة قويّة للاقتصاد. ففي حين أن الاقتصاد الروسي نجح في تجاوز تداعيات العقوبات الأمريكية الأوروبية على المدى القريب والمتوسط، فإنّ نقص العمالة هو أبرز ما يعاني منه وهنا نجحت الحكومة الروسية فيما فشلت به العقوبات الغربية، حيث أن العقلية العسكرية الروسية المعتمدة على التفوق العددي وإرسال الموجات البشرية واحدة تلو الأخرى حتى النجاح في اختراق دفاعات العدو تحتاج أعداد هائلة من الشباب المجندين ما انعكس سلباً على سوق العمالة الداخلي.
الخيار الثاني سيكون سحب قوات من خطوط المواجهة في الداخل الأوكراني ما سيضعف الزخم الروسي الحالي لا بل وقد يؤدي إلى فجوات لطالما انتظرتها كييف بفارغ الصبر. هذا تحديداً السيناريو الذي أرادت كييف وضع موسكو أمامه، فالموضوع أصبح يتعدى إيقاف الأوكرانيين في إقليم كورسك أو حمايته وبات يدعو إلى تعزيز كامل الخط الحدودي لردع الأوكرانيين عن القيام بعملية شبيهة في مكان آخر ما يتطلب موارد غير متوفرة في الوقت الراهن.
- الخداع الاستراتيجي:
في العام 1944 بدأ الحلفاء تنفيذ عملية الحارس الشخصي ((Operation Bodyguard وهدفها الأساسي كان تضليل القيادة الألمانية وإقناعها بأنّ الغزو الرئيسي سيحدث في أماكن أخرى غير منطقة النورماندي وإبقاء توقيت الغزو غامضاً، مما يجبرهم على إبقاء قواتهم موزّعة على نطاقٍ واسع.
عملية الحارس الشخصي تضمنت عدة عمليات فرعية، منها عملية “فورتتيود نورث” التي كانت تهدف إلى إيهام الألمان بأن الحلفاء يخططون لغزو النرويج، بينما عملية “فورتتيود ساوث” ركزت على تضليل الألمان وجعلهم يعتقدون أن الغزو سيكون في منطقة “باس دي كاليه” في فرنسا. جزء من هذه الخطة كان إنشاء وحدات عسكرية وإرسال إشارات لاسلكية مزيفة، إرسال قوات للاستطلاع بأعداد محدودة وشن ضربات تمهيدية إضافةً إلى استخدام الجيش الوهمي بقيادة الجنرال جورج باتون، الذي اعتبره الألمان حينها قائداً رئيسياً للمعركة المنتظرة.
الخداع الاستراتيجي ليس جديداً ويعدُّ جزءاً من العقيدة العسكرية للجيوش ولكنه لازال فعالاً حتى يومنا هذا والسبب في أنّه حتى ولو كان الطرف الآخر متيقظاً لمثل هذه الاستراتيجيات قد يقع فريسة عدم وجود مهرب من القيام برد فعل تجاه “الخدعة” لأنّه خاسر إن استجاب وإن لم يستجب.
هنالك عدة مؤشرات على احتمالية حدوث المثل في أوكرانيا وأن تكون عملية كورسك مجرد إلهاء فيما ستكون الضربة الحقيقية في مكانٍ آخر، وأبرز هذه المؤشرات هي:
أين هي المعدات الغربية الثقيلة؟ بالرغم من أن الأوكرانيين جمعوا جزءاً من خيرة المقاتلين للقيام بهذه العملية إلا أنهم لم يستخدموا المعدات الغربية الحديثة. حتى المعدات الخفيفة لم تستخدم بشكل مكثف، أمّا المعدات الثقيلة فيكاد يكون استخدامها معدوماً. إضافةً الى أنها غير موجودة على الخطوط الدفاعية لأنّها غير ذات أهمية أصلاً في حالات الدفاع العميقة. الأمر الذي يوحي بأن القوات الأوكرانية تدّخر هذا المعدات لشيء أكثر اهميةً مما يجري على الأرض الآن. ساشا كوتس (Sasha Kots) أحد المحللين العسكريين الروس ومراسل عسكري لقناة تلفزيونية روسية قال التالي “نعلم أنّ الأوكرانيين نشروا تقريباً جزءاً لا يستهان به من قوات النخبة في كورسك، لكن لدينا شعور بأننا لم نرَ كل شيء بعد هناك. معظم المركبات المدرعة خفيفة، بالإضافة إلى دبابات ومدافع سوفيتية. لم نرَ بعد دبابات ليوبارد، ولم نرَ بعد دبابات أبرامز التي لا تزال في مخازن أوكرانيا.
ساشا كوتس ليس هو الوحيد الذي يعتقد ذلك. إيغور جيريكن، الذي كان أحد أكثر المحللين العسكريين دقة من الجانب الروسي والذي هو مجرم حرب مُدان وقومي متطرف، دخل السجن العام الماضي ولازال فيه بسبب خلافات مع بعض النافذين في موسكو ورفضه التراجع عن بعض الانتقادات التي وجهها للمسؤولين، قال بخصوص الوضع على الجبهة: “أنا أراقب عن كثب. أعتبر الهجوم الأوكراني في منطقة كورسك إلهاء. يجب أن نتوقع هجوماً ثانياً، الهجوم الرئيسي، حيث سيستخدمون فيه معظم احتياطياتهم وربما الطائرات F16.”
المؤشر الثاني هو أين هم المجندون الجدد؟ وفقًا لمعظم التقديرات، أقل من 10,000 جندي أوكراني شاركوا حتى الآن في القتال في كورسك، أغلبهم من المقاتلين القدامى الذين تم سحبهم من الجبهات الأخرى. وبما أن عمليات التدوير تتطلب أعداد إضافية لذا فمن المنطقي أن يكون هناك احتياطيات. لذا دعونا نكون كرماء ونقول إن هناك 20,000 يدعمون الهجوم على كورسك.
دخل قانون التجنيد الجديد في أوكرانيا حيز التنفيذ في 18 مايو من هذا العام أي قبل ثلاثة أشهر. لذا من المفترض أن يكون لدى الأوكرانيين في الظروف العادية عدد كبير من الجنود الجدد وفقاً لتقديرات الخبراء تتراوح هذه الأعداد من مئات الآلاف إلى حدود المليون رجل. كما أنّهم قلصوا التدريب الأساسي إلى ستة أسابيع فقط بحيث يتم متابعة بقية التدريب في الألوية. لذلك، يجب أن يكون عدد كبير منهم قادراً بالفعل على الانتشار بطريقة ما. وفقاً لصحيفة “وول ستريت جورنال” فإن جبهة الشرق في أوكرانيا تعاني من نقص شديد في الجنود بمقدار النصف أو أكثر. كما أوضحت الصحيفة عدم وجود تقارير تشير على سبيل المثال إلى أنّ ” إيغور” الذي تم تجنيده قبل ثلاث أشهر موجود الآن في المكان الفلاني أو أي شيء من هذا القبيل. لذا بدأت الصحيفة بالتساؤل أين هم المجندون الجدد؟
المؤشر الثالث هو تقبل الهزيمة في الشرق والانضباط الاستراتيجي. هذا التقبل للهزيمة ليس جديداً على الأوكرانيين، فقد فعلوا المثل في بداية الحرب حين سلموا بعدم قدرتهم على إيقاف القوات الروسية التي احتلت في ذلك الحين ضعف ما تحتله حالياً من أوكرانيا. كل هذا كان في سبيل أمر واحد فقط، ألا وهو عدم سقوط العاصمة كييف في أيدي الروس.
قد يكون الجانب الأوكراني سلّم بعدم إمكانية إيقاف التقدم الروسي في شرق أوكرانيا، وأنّ إرساله المزيد من الجنود ما هو إلا تغذية للمحرقة بالمزيد من الجثث التي اتضح أن الجانب الروسي يمتلك أعداداً أكبر منها ولا يبالي في تقديمها كقرابين على مذبح التقدم على الأرض، وأنه من الأجدر توفير الجنود والقذائف والدبابات والطائرات لإحداث تغيير في مكانٍ آخر يمتلك أهمية استراتيجية أكبر لروسيا مثل شبه جزيرة القرم ولأولئك الذين يستبعدونها بناءً على التهديدات الروسية سابقاً نقول “بعد دخول واحتلال أراضي روسيا الأُم في كورسك ما الذي يجعل القرم استثناءً بعد اليوم؟ لا بل قد تكون العمليات في كورسك تمهيداً لمثل هذا التطاول لا أكثر”.
- الانتخابات الأمريكية:
الإدارة الأمريكية الحالية هي من أطلقت على لسان رئيسها الحالي ونائبته المرشحة للانتخابات القادمة شعار” الهزيمة الاستراتيجية لروسيا “. يبدو جليّاً أن ذهاب نفس الإدارة إلى الانتخابات وسط تقدم عسكري روسي يشغل وسائل الإعلام الأمريكية في الفترة الأخير ويطرح تساؤلات مُحقّة حول فعاليّة المساعدات العسكرية الملياريّة لأوكرانيا، هو أمر غير محبّذ وخطير في ظل وجود خصم متربص مثل المرشح الجمهوري دونالد ترامب والتقارب الكبير في استطلاعات الرأي بينه وبين المرشحة الديمقراطية.
في الأسابيع الأخيرة، تم تجاهل الإنجازات الروسية في الشرق وبات الحديث عن الانتصارات الأوكرانية في كورسك وإذلال روسيا محور اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية وأصبحت تغطية احتياجات الأوكرانيين من الأسلحة والذخائر واجب على الإدارة الأمريكية.
في الأشهر الثلاثة الماضية والأشهر الثلاثة القادمة، لا يمكن قراءة أي حدث أو تغيير في الملفات العالمية الكبرى بمعزل عن الانتخابات الأمريكية. فالإدارة الديمقراطية تدرك أهمية بعض الملفات بالنسبة للعديد من قواعدهم الانتخابية لذا نراها تلهث من أجل تحقيق وقفٍ لإطلاق النار هنا واستعادة للرهائن هناك وتحقيق بعض الانتصارات في مكانٍ آخر.
في نهاية المطاف، وبغض النظر عن مآلات العملية الأوكرانية بدقة، إلا أنّها ستكون تحولاً مهماً في مسار الحرب وتغييراً في قواعد اللعبة التقليدية ونقلاً للصراع إلى مستوى تعتمد نتائجه على قدرة أوكرانيا وحلفائها في موازنة المكاسب التكتيكية مع المخاطر الاستراتيجية. هذه الموازنة تشبه إلى حدٍ كبير لعبة “الروليت الروسية “، إذا نجحت أوكرانيا في تحقيق أهدافها دون إثارة رد فعل روسي مدمر، فقد تسهم هذه العمليات في تغيير مسار الحرب لصالحها، لكن في حال شعر “النظام في روسيا” بتهديد شخصي، قد يتغير مسار الصراع بشكل لا يمكن التنبؤ به، مما يترك المنطقة والعالم في حالة من عدم اليقين حول ما سيأتي بعد ذلك.