فى الذكرى 88 لاغتيال لوركا: عندما كان فيديريكُو غارسيّا لوركا فى مدينة ناطحات السّحاب
د. السفير – محمّد محمّد الخطّابي
فى الذكرى 88 لاغتيال زنبقة الشّعر الاسباني المعاصر فيديريكو غارسيا لوركا، التي حلّت فى التاسع عشر من شهر أغسطس الفارط من العام الحالي 2024، حيث كان قد اغتيل عام 1936 ولقي مصرعه الدرامي مع بداية انطلاق شرارة الحرب الأهلية الإسبانية بين الجمهوريّين والوطنيين التي استمرّت رحاها تدور بثفالها حتى 1939، وكان لوركا قد وُلد فى الخامس من شهر يونيو من عام 1898 بقرية فوينتي باكيروس المحاذية لمدينة غرناطة الحمراء.
بتعاون بين “مؤسّسة فيديريكوغارسيا لوركا” و”المكتبة العمومية لمدينة نيويورك” كان قد نظم معرض كبير منذ بضع سنوات حول مخطوط ديوان “شاعر فى نيويورك” الذي كتبه فيديريكو غارسيا لوركا خلال إقامته بهذه المدينة العملاقة فى الفترة المتراوحة بين (1929-1930) ، بالإضافة إلى عرض المخطوط الأصلي االنادرلأوّل مرّة لهذا الكتاب أمام الجمهور، وتمّ تسليط الأضواء على مخطوطات بعض الرسائل الأخرى التي كتبها الشاعر الغرناطي خلال رحلته لكلٍّ من نيويورك وكوبا، كما تمّ تنظيم العديد من الأنشطة والتظاهرات الثقافية والفنية الموازية فى مختلف مجلالات الخلق والإبداع بمشاركة كبريات الجامعات مثل “جامعة كولومبيا الأمريكية” الشهيرة وسواها من المعاهد العليا والمؤسسات الثقافية الأخرى الإسبانية- والأمريكية.
شاعر فى نيويورك
هو عنوان ديوان كتبه فيديريكوغارسيا لوركا خلال وجوده بجامعة “كولومبيا الأمريكية” بنيويورك (1929-1930) ثم خلال سفره إلى كوبا بعذ ذلك، وقد نشر هذا الديوان لأوّل مرّة عام 1940 أي 4 سنوات بعد مصرع الشاعر. وكان لوركا قد غادر إسبانيا 1929 ليلقي بعض الحاضرات فى كوبا ونيويورك، وإن كان سبب هذه الرحلة فى العمق هو هروبه وابتعاده عن جوّ المهاترات والمشاحنات والبغضاء الذي أصبح سائدا فى الوسط الدراسي بمدريد ، حيث أصيب لوركا من جرّاء ذلك بكآبة شديدة، وحزن عميق ، وقد كان للمجتمع الأمريكي تأثير بليغ فى الشاعر، الذي أحسّ بنفور كبير من الرأسمالية والتصنيع المبالغ فيه، كما أنه شعر باشمئزاز بليغ من المعاملة التي كان يوسم بها الأمريكان البيض الأقليّة من السّود، لقد كان هذا الديوان صرخة مدويّة ضد الرّعب، للتنديد بالظلم والتمييز العنصري فى هذا المجتمع المصنّع، والإغتراب القاتل للجنس البشري، والمناشدة بضرورة إحترام البعد الإنساني للبشر، وصون حقوق الإنسان، وسيادة الحرية والعدالة والحبّ والجمال، وربّما هذا ما حدا بالنقّاد إلى إعتبار هذا الديوان من أهمّ الأعمال الشعرية التي ظهرت وواكبت عصر التحوّل الإقتصادي، والتطوّر الاجتماعي، والنموّ الديموغرافي بطريقة لم تعرفها البشرية من قبل.
المخطوط الشعريّ المهاجر
المخطوط الاوّل والأصلي الوحيد لهذا الديوان يتألّف من 96 صفحة مكتوبة على الآلة الراقنة، بالإضافة إلى 26 صفحة مكتوبة بخطّ اليد، لقد هاجر هذا المخطوط مع الأديب والناشر الإسباني”خوسّيه بيرغامين” (الذي كان لوركا قد سلّمة المخطوط لنشره) إلى فرنسا فى المقام الأوّل، ثمّ فى مرحلة أخرى إلى المكسيك، (حيث نشرت الطبعة الأولى منه عام 1940 فى كل من المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، وقد ترجمه آنذاك إلى اللغة الإنجليزية “رولف هومفريس”، وظلّ المخطوط فى النّصف الثاني من القرن العشرين متخفيّا ينتقل من يد إلى يد حتي وقع عام 1999 فى يد الممثلة الإسبانية “مانويلا ساهافيدرا” وفى عام 2003″ أمكن لـ “مؤسّسة غارسيا لوركا” استعادة هذا المخطوط بعد إقتنائه فى إحدى المزادات العلنية، ثم اشترته وزارة الثقافة الإسبانية عام 2007، من القصائد التي يتضمّنها الديوان: “السّماء الحيّة”، و”البانوراما العمياء لنيويورك”، و”الموت”، و”غنائية الحمام”، (التي أصبحت فيما بعد تحمل اسم “قصيدة الحمائم الحالكة”)، و”قصيدة الثور والياسمين”، (التي أصبحت فيما بعد تحمل عنوان “قصيدة الحلم فى الهواء الطلق”، و” أرض وقمر”، وسواها، وبعض هذه القصائد مدرجة كذلك فى كتاب لوركا الذي يحمل عنوان: “ديوان تماريت”. (كذا)، أيّ باستعمال كلمة ديوان كما تنطق وتستعمل فى اللغة العربية إلى اليوم.
نموذج من رسائله
بهذه المناسبة، وبعد العثور على بعض التركات والصناديق الخاصّة العائدة للوركا حيث ظهرت قصائده الشعرية التي أطلق عليها بـ: “القصائدالحالكة” وهي ذات إيقاعات موسيقية خاصة تسمّى فى اللغة الإسبانية “السّوناتات” كان لوركا قد كتبها عام 1936. توالت المنشورات مؤخرا حول هذا الموضوع فى مختلف الأوساط الصحافية والثقافية الإسبانية. إلى جانب تلك المقطوعات الشعرية فإنّ لوركا مشهود له من جانب آخر بمدى إسهاماته الوافرة فى إثراء الحياة الثقافية والأدبية الإسبانية بالعديد من الأعمال الإبداعية التي حقّقت نجاحات منقطعة النظير فى مختلف المجالات والأغراض الشعرية والمسرحية والأدبية على وجه العموم. وحريّ بنا بهذه المناسبة أن نلقي بعض الأضواء على نموذج من هذه الرسائل المخطوطة التي خلفها لنا هذا الشاعر وبشكل خاص رسالته البليغة والمؤثّرة التي وجّهها لوركا إلى والده من مدريد، علما بأنّ هناك رسائل أخرى بعثها إلى أهله وذويه من كل من نيويورك، وكوبا، فماذا جاء يا ترى فى هذه المراسلات المثيرة التي كتبها لوركا فى الفترة المتراوحة بين 1916 و 1930..؟
مركبة الشّعر الخالص
ظهرت هذه الرسائل في منزل المحامي الغرناطي “فسنتي لوبيث غارسيا” الذي كان متزوّجا من إحدى قريبات الشاعر لوركا وهي إبنة عمّه “كارمن غارسيا لوركا”، هذه الرسائل تلقي الضوء بشكل جليّ على ظروف ولحظات مهمّة ومبهمة في حياة الشاعر، إذ تتعلق بفترة المراهقة والشباب عنده.
يشير الناقد الاسباني “ميغيل غارسيا بوسادا” أنّ مراسلات لوركا تعدّ من أغنى وأعمق المراسلات في الأدب الاسباني الحديث، إذ يحرّكه دوما فيها واعزالاتصالات، ونسج أواصر الصداقات، وهمّه الدائم هو البحث عن الحقيقة بواسطة التعبير الأدبي.
هذه الرسائل تسمو فوق بؤس الحياة اليومية لتحلق في الفضاء اللاّنهائي المفتوح للخلق والإبداع، وهذا ما يفسّر وجود العديد من الأشعار والرسومات في بعضها، فضلا عن إشارات الشاعر الدائمة إلى مغامراته الإبداعية، إنّ المتحدّث دائما هو الشاعر، هذا الذي جعل من الشعر مادة أساسية لحياته، لذا فإنّه عندما يتوجّه بالكتابة إلى أقرب الناس إليه أو إلى الذين يحبّونه، فإنّ كتاباته على الرغم من ذلك، لا تخلو من الإشارة إلى الشعر ومعاناته.
تؤكّد لنا هذه الرسائل ما كنا نعرفه عن هذا الشاعر، ففيها يمكننا أن نتأمّل لوركا مراهقا وهو يلامس المأساة الإنسانية للوجود، والذي ينشر ويشعر بالزّهو والفخار من مقالاته الأولى التي يدافع فيها عن اختياراته وتوجّهاته الأدبية إزاء الإختيارات التي كان يريدها له والده، علما أن والده هو الذي دفع مصاريف إخراج الكتابين الأوّلين للوركا إلى النور.
لوركا كان يكافح ويصارع في مدريد من أجل الحصول أو الوصول إلى إمتطاء ما أسماه بـ”مركبة الشّاعر الخالص النقيّ” والذي كان يفعل كل ما في وسعه من أجل إيصال شعره ومسرحه إلى الجمهورنقيّا صافيّا، وموفيا صادقا.
تتضمّن بعض هذه الرسائل إنطباعات وأوصافا لما كانت تقع عليه عينا الشاعر خلال سفرياته وتنقّلاته ورحلاته المتعدّدة في مختلف المناطق والجهات الإسبانية، بل وخارج التراب الأسباني كذلك، وبواسطتها تمّت ولادة الشاعر بشكل فعلي.
سهم “دون كيشوت”
يقول لوركا فى إحدى هذه الرسائل الموجّهة لوالده عام 1920: “والدي العزيز ، لقد وصلتني رسالة منك ذات لهجة رصينة وجادّة، وبنفس اللهجة أجيبك الآن كذلك، إنّ بي شوقا كبيرا إليكم، لأنكم هناك مجتمعون، وأنا هنا بمفردي، ولكن عندما تفرض الظروف نفسها على المرء فلا مردّ لها، إنني لن أتحمّل مشقّة الذهاب والإياب لأنّ ذلك يضرّ بي كثيرا وينبغي لي أن أختار موقفا قويا ّ للعمل، فهذه اللحظات مهمّة جدا بالنسبة لي، إنني أعرف جيّدا فيم تفكر إلاّ أنني أقول لك وأعدك بكل وقار أنه عندما ينطلق رجل في طريقه فلا الذئاب ولا الكلاب بمقدورها أن تثنيه أو تحيده عنه، و لحسن الحظ أنّ لي سهما يشبه سهم “دون كيشوت”، إنني في طريقي يا والدي و أرجو أن لا تجعلني أرجع بنظري إلى الوراء، إنّني أعرف أنكم تحبّونني كثيرا، وأنا أحبّكم أكثر، أعلم أنكم تتمنون أن أكون إلى جانبكم إلاّ أنّ ذلك أمرا تفرضه الظروف، ماذا سأفعل أنا الآن في غرناطة ؟ أن أستمع إلى الخزعبلات والدناءات، هذا أمر لا يهمّني في شيء لأنني أعلى من هذا كله، إلاّ أنه في آخر المطاف شيء مزعج، الحمقى لا تناقشهم في شيء، في مدريد هنا أناس محترمون وسوف أعلمكم بالخبر الكبير عندما أخرج على الناس بأشياء جديدة، وهكذا حتى يصبح لي إسم أدبي كبير، النجاح السريع في كل شيء على آخر الخط قد يكون مضرّا بالنسبة للفنان،إنّني بصدد إعداد بعض كتبي، فأنا أمشي على أرجل من رصاص حتى أمخض كتابا رائعا، هنا أكتب، وأعمل وأقرأ، وأدرس، وهنا جوّ أدبي ممتاز، إنني أكاد لا أبرح المنزل إلا لماما سوى للذهاب إلى “غريغوريو مارتين سيرا” أو قسم تحرير جريدة “إسبانيا”، إلا أنّ أهمّ شيء يمنعني من السفر ليست كتبي بل لأنني أوجد في إقامة للطلبة وهي ليست فندقا، والالتحاق بها ليس أمرا هيّنا، بل السبب يعود إلى مميّزاتي وخصالي الشخصية حيث أمكنني الالتحاق بها سريعا ، لأنني وصلت بيدين نقيتين، إنه يصعب أن أغادرفى منتصف العام الدراسي، لهذا أرجوك أن تتركني هنا، إنني رجل مستقيم وجدّي، هل أزعجتك يوما؟ لقد سببت لي رسالتك الأخيرة إنزعاجا و قلقا كبيرين، أنني أؤكد لك أنك سوف تندم من ناحيتي، إذا عدت، إنك تكون بذلك قد سدّدت لي ضربة قاضية، لأنك عندئذ سوف تملأني بالحزن والكدر، إنك سوف تسلبني الحماسة التي تغمرني الآن.
خُلقت شاعرًا
أرجوك والدي أن تتركني هنا حتى نهاية العام الدراسي، وعندئذ سوف أعود إليكم صحبة كتبي منشورة، وبضمير مرتاح أكون قد كسّرت سيوفا من جراء صراعي ضد المارقين دفاعا وحماية وصونا للفنّ الخالص والإبداع الحقيقي، يا أبتي.. إنّه ليس بمقدورك تغييري الآن فقد خلقت شاعرا، وفنّانا مثل الذي يولد أعرج، أوأعمى، أو مثل الذي يخلق وسيما، أترك جناحيّ في مكانهما، و أنا أضمن لك أنني سأطير جيّدا، هذه هي الحقيقة فلا داعي لإلحاحك على عودتي، لأنّ ذلك يملأني بالمرارة والمضض.
لقد أعطيتك تبريراتي، إنه إذا كان للرّجل ذكاء و فطنة فلا يصعب عليه كسب المال، إنني أفكر هكذا، إنّ الحياة والعالم ينبغي أن ينظر إليهما بعيون صافية ملأى بالتفاؤل، وأنا يا والدي متفائل و أشعر بسعادة غامرة. أتوسّل إليك أن تقرأ جيّدا هذه الرسالة، فكّر كذلك أنني لست مجرّد “شيء” أو “بضاعة” هي ملك لك وهي عزيزة عليك. فكّر أنّ لي حياة خاصّة بي، ينبغي لنا أن نكون جسورين، كما ينبغي لنا أن لا نرضى بالوسط أو القليل فهذا شيء ممقوت، لا تسأل عن مثل هذه الأمور أصدقاءك القليلي الهمّة الثقلاء، بل إسأل والدتي والأطفال. وأنت تعلم أنني أحبّك من كلّ قلبي… إبنك فدريكو”. (*)
تجدر الإشارة فى ختام هذا العرض إلى أن الصّديق العزيز المصري الباحث الجهبذ الدكتور خالد سالم المُتخصّص فى الأدب الإسباني المعاصر هو الذي ذكّرني مشكوراً وممنوناً بهذا الحدث التاريخي عن الشاعر لوركا بعد أن تفضّل منذ أيّامٍ قليلة قبيل حلول ذكرى اغتيال هذا الشاعر الاندلسي الكبير، ودعاني من لطفه للمشاركة فى ندوة أدبية كبرى تمّ تنظيمها فى إحدى قنوات تلفزيون مصر الرّائدة، فكان هذا المقال، فله ولمنظمي تلك الندوة الأدبية اللوركية الناجحة جزيل الشكر والتقدير.
______________________________________
(*)الرّسالة من ترجمة صاحب المقال .