عندما قادتني نوارس الصويرة إلى عبد القادر مانا
المصطفى اجْماهْري
عبد القادر مانا من مواليد مدينة الصويرة في بداية الخمسينيات، وهو صحفي وباحث من جيل السبعينيات في المغرب الذي حمل مشعل ثقافة استقراء الواقع بأدوات منهجية تتوخى الحفر في عناصر الثقافة الشعبية وتجارب التاريخ. عاش بين فرنسا والمغرب، وبين الصويرة، مسقط الرأس، والدار البيضاء، مكان العمل. درس مانا بفرنسا بجامعة إيكس أون بروفانس، كما تابع دروس المفكر الفرنسي برونو إتيان.
بعد فترة الخدمة المدنية التي قضاها أستاذا للغة الفرنسية بالصويرة، التحق بالصحافة المكتوبة حيث عمل في جريدة ماروك سوار بالدار البيضاء وكذا بالمجلة الأسبوعية التي كانت تصدرها نادية برادلي “لو ميساج دو لا ناسيون”. كتب عبد القادر مانا أعمالا كثيرة عبارة عن كتب ومقالات ومساهمات في ندوات علمية. وله حاليا ست مخطوطات كتب تنتظر النشر.
كنتُ قد اطلعت في وقت سابق على علاقته بالعالم الأنتروبولوجي جورج لاباساد وبعبد الكبير الخطيبي وعبد الغني مغنية، كما قرأت بعض حوارته مع مفكرين في ماروك سوار، فكانت هذه المعرفة الأولية هي ما شجعتني على البحث عنه في الصويرة. لم أجد صعوبة في العثور عليه فقد تتبعت نوارس الميناء التي قادتني إليه صباح ذلك السبت 24 غشت 2024 حيث وجدته قابعا يقرأ كراساته في باتيسري الإدريسي التي يعود إنشاؤها إلى سنة 1928.
1
كان عبد القادر مانا، وهو في الصويرة، على علاقة بعبد الغني مغنية أستاذ الفلسفة في السبعينيات بثانوية ابن خلدون بالجديدة. وكان هذا الأخير صديقا للأنتروبولوجي جورج لاباساد (1924-2008) وتلميذه أيضا. والمعروف أن لاباساد كان يتردد على الصويرة كل صيف، منذ نهاية الستينيات، قادما إليها من فرنسا حيث ينعزل في فندق صغير جعل من غرفة فيه مركزا لجولاته وكتاباته. وفي وقت لاحق أنجز مغنية تحت إشراف لاباساد أطروحة دكتوراه في تخصص علوم التربية بجامعة باريس الثامنة سنة 1996 في موضوع يتعلق بالتعليم الأصيل بالمغرب وخاصة بالقرويين. أما جورج لاباساد فقد صب اهتمامه حين وصوله للصويرة بالبحث في موسيقى الملحون. وقد حدث التفاعل بينه وبين بعض المثقفين مثل هشماوي وبوجمعة لخضر (1941-1989) بعد أن كتب الأخيران مقالة في جريدة لوبنيون عن بنصغير الصويري صاحب القصائد الملحونية. لم يكن لاباساد متفقا مع كل ما جاء في مقالتهما معتبرا، من جهته، بأن الملحون الصويري إنما ورد من مراكش.
في 1980 عين بوجمعة لخضر محافظا على متحف الصويرة، بينما أقام الطيب الصديقي مهرجان “الموسيقى أولا” وكلف لاباساد ليكون مدير المناظرة حول التراث الشعبي. وهي المناظرة التي حضرها الموسيقي عيدون وعبد القادر مانا وآخرون. وكان بوجمعة لخضر قد زار قبل ذلك فرنسا والتقى هناك بحاييم الزعفراني الصويري النشأة.
وقتها مارس عبد القادر مانا تدريس مادة اللغة الفرنسية في ليسي أكنسوس في إطار الخدمة المدنية. وجاءه مرسول يدعوه لحضور لقاء نظمه لاباساد في قاعة غرفة التجارة والصناعة بالصويرة، حضره بوجمعة لخضر وأعضاء من كناوة وبعض شيوخ موسيقى الملحون. كانت غاية لاباساد، يقول مانا، دحض رواية لخضر وهشماوي التي تقول إنه كانت توجد مدرسة خاصة للملحون بالصويرة والحال، حسب لاباساد، أنها وردت من مراكش، كما وردت أشياء أخرى عند نشأة المدينة. بل إن لاباساد سرعان ما التحق بمراكش لعدة أيام بحث خلالها عن التراث الملحوني واطلع هناك مباشرة على قصائد بنصغير الصويري.
ظل عبد القادر مانا في مرافقة لاباساد عند مجيئه كل صيف إلى الصويرة حين اكتشفها شباب أوربا القادم مع الموجة الهيبية، إلى أن اضطر إلى التوقف عن زيارتها بعدما أصيب بمرض مزمن أصبح يخضعه لحصص غسل الكلي وهو ما أدى لوفاته سنة 2008 بفرنسا. يتذكر مانا أن لاباساد لم يقطن يوما في فندق عصري بالصويرة بل كان يعشق الفنادق الشعبية بالمدينة القديمة.
2
التحق عبد القادر مانا بفرنسا أملا في استكمال دراسته العليا فتسجل بجامعة إيكس أون بروفانس في قسم الدكتوراه مع كرستيان بلومبيرجي وروني ديشان. وكانت أطروحته باللغة الفرنسية تحت عنوان “أشكال ومظاهر الحياة الموسيقية بالصويرة وناحيتها”. وكان على لاباساد المساهمة في تأطير البحث كمشرف ميداني وتطبيقي. من تم شرع مانا في التحري عن التراث الموسيقي لمجموعة حمادشة وكناوة وباقي الفرق الموسيقية الشعبية. وهو عمل ضخم كان يتطلب مجهودا كبيرا على مستوى القراءة والتنقيب والتأليف.
إلا أن عبد القادر مانا ظل يراوح مكانه ولم يتقدم في إنجاز أطروحته بسبب انشغالاته الكثيرة والمتعددة التي خلقها أو ارتبط بها وهو في ميعة الشباب، وعلى رأسها الانخراط في العمل الصحفي الذي مكنه من دخول عالم يعج بالعلاقات. فمن جهة مكنه ذلك من تطوير مهاراته الكتابية والالتقاء بأسماء وازنة في عالم الكتابة والمعرفة كأمين معلوف، وعبد الكبير الخطيبي وإدريس الشرايبي وجان لوي مياج ومحمد عزيز الحبابي، لكن من جهة أخرى عرقل عليه إنجاز أطروحته التي كانت ستفتح له أبواب الجامعة المغربية كأستاذ محاضر. وهو الأمر الذي نبه إليه لاباساد عدة مرات حين كان يحث عبد القادر مانا على الإسراع بإتمام أطروحته. بل كان يقول له بالفرنسية “لا تفعل مثل ساعي البريد على ظهر الحصان”.
لم تنفع نصيحة لاباساد المتكررة، حيث ظل عبد القادر مانا مأخوذا بقضايا اختارته أو هو اختارها بسبب ظروف قاهرة. فقد كان أنهى الخدمة المدنية ويحتاج إلى مدخول شهري. لكنه، في المقابل، استطاع أن يثري المكتبة المغربية بكتاب هام عن ركراكة. حدث ذلك بعد أن عاش فترة تذبذب نفسي، وكان ذات صباح مارا من أمام دكان نجار من بين الجيران فأخبره هذا الأخير بأن “دور ركراكة” السنوي سينطلق قريبا في وقت محدد. هكذا دارت بذهنه فكرة لم تكن في البال وهي مرافقة الركب. ومن غريب الأشياء أنه لما فاتح والدته في الموضوع ذهبت هذه الأخيرة عند الشوافة طلبا لرأيها، فقالت لها هذه الأخيرة: “إن ابنك يتردد في الذهاب مع ركراكة، لكنني أرى مستقبله معهم”. وهكذا اقتنت له والدته ملابس تقليدية مغربية وشجعته على الذهاب إلى دور ركراكة على أمل “أن يبدل ساعة بأخرى”، كما يقال في العامية المغربية.
عبد القادر، من جهته، هيأ نفسه للمغامرة واقتنى لذلك أقلاما وكراسات وقُفة من الدوم جعل فيها كل حاجياته. ثم أخذ سيارة أجرة والتحق بالمحطة الأولى في موسم ركراكة الذي يدوم حوالي أربعين يوما. وفي مرافقته لركراكة بدأ تدريجيا في اكتشاف عالم من المعتقدات والغيبيات والتقاليد الشعبية التي لم يعهدها من قبل وراح يسجلها في كراساته. يملأ الكراسات تباعا، وكيفما اتفق، بالشهادات والملاحظات والتدوينات الصغيرة والكبيرة والرسوم. كان الأمر من الضخامة بالنسبة له فجعل يعمل بشكل شبه هستيري في عملية التدوين حتى أنه أصيب بالحمى.
عاد جورج لاباساد من فرنسا كعادته إلى الصويرة، واتصل بعبد القادر ليعرف أين وصل في عمله الأكاديمي، وبدل أن يجد الأطروحة قد اكتملت فاجأه مانا بنتيجة رحلته مع ركراكة. ألقى لاباساد باللوم على صديقه في البداية على تقاعسه لكنه سرعان ما غير رأيه حينما استضافه عبد القادر في بيته ووضع أمامه حزمة الكراسات التي سجلها عن موسم ركراكة. لاحظ عبد القادر أن لاباساد مد يده إلى الكراسة الأولى وهو ساكت. قرأها ثم أخذ الثانية إلى أن أتى عليها جميعها، وأخيرا رفع رأسه قائلا، والابتسامة تعلو محياه:
– هذا هو الكتاب. عليك بإعداده للنشر وسأكتب لك تقديما يليق به.
3
ها عبد القادر الصويري أمام تحد جديد وضعه أمامه لاباساد. كان عبد القادر وقتها قد اشتغل في جريدة “ماروك سوار” بالدار البيضاء ويقطن مع أخته في منزلها الكائن قريبا من مدارة شيمي كولور. لكنه سيستطيع رفع التحدي، فمن حسن الصدف أن الظروف هذه المرة ساعدته على العمل المنتظر، ومكنته من إنجازه في أقل من شهر. ذلك أن شهر رمضان كان قد حل فاقترح عليه رئيس التحرير الاستفادة من عطلة. وفي نفس الأسبوع سافرت أخته في إطار مهني خارج المغرب، فحبس نفسه وانهمك في تفريغ كراساته. كان يشتغل حوالي عشرين ساعة في اليوم ويسابق الزمن لإنجاز الكتاب، واستطاع إتمامه وهو لا يصدق أن ذلك حصل فعلا. كتب لاباساد التقديم ونشر الكتاب في دار إديف للراحل عبد القادر الرتناني، وتم عرضه في المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء سنة 1988.
بواسطة كتابه عن ركراكة تعرف مانا على عبد الكبير الخطيبي، ونشأت بينهما علاقة فكرية وودية كان من ثمارها أن الخطيبي كلف مانا بإنجاز عدد خاص من مجلة “علامات الحاضر” عن تيمة الزمن. وهو العدد الرابع من هذه الدورية. وقتها كان الخطيبي، مدير الدورية المذكورة، باحثا في المعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط، وكان على أهبة السفر للمشاركة في مؤتمر شعري بإيطاليا. وفعلا سافر إلى روما وترك مانا في مكتبه يعمل على إنجاز العدد المطلوب. ولما عاد الخطيبي من مؤتمره ارتاح للعمل الذي قام به مانا، ودفع له تعويضا عن أتعابه، بل أكثر من ذلك رافقه إلى مكتب ذ. عبد الهادي التازي، مدير المعهد الجامعي للبحث العلمي، حيث قدمه له واقترح عليه توظيفه بالمعهد نظرا لكفاءته في البحث والتأليف، لكن عبد الهادي التازي كان له رأي آخر على خلاف تام مع الخطيبي.
كان عبد القادر مانا يتكلم سريعا وهو يحكي لي التفاصيل الراسخة في ذهنه ووجدانه، وكنت أشاركه سياقها وأجواءها وشجونها بحكم سننا المتقارب ومعايشتنا لذات الأمكنة تقريبا ومعرفتنا بنفس الأسماء. وحين انتهى من الكلام أخذنا الطريق إلى خارج المدينة القديمة، وفوق رؤوسنا كانت مجموعة من النوارس تطير في اتجاه الميناء.