جدلية الحب الحالم والذكورة النرجسية في “ليالي الخذلان” لأسماء معيكل (2-2)

جدلية الحب الحالم والذكورة النرجسية في “ليالي الخذلان” لأسماء معيكل (2-2)

لحسن أوزين

ثانيا الإذعان وتسلط النرجسي: الديناميات النفسية

    “إن مشاكل الحب لا يمكن حلها جذريًا على مستوى الفرد فقط، ولكن هذا لا يعني أن الأفراد لا يمكنهم صنع واحات حب وارفة وسط القحط والسراب. نحن بأمس الحاجة إلى تلك الواحات. ونظرًا للتغيرات الكبيرة، السلبية والإيجابية، التي تحصل في مجتمعاتنا، وتَعرُّض الكثيرين إلى ظروف وبيئات جديدة وتجارب خارقة، أرى أن موضوع الحب راهن كما لم يكن من قبل. لن نتغلب على القهر والفقدان والاغتراب إن لم نحرّر الحب من سلاسله، ليلمّ شتاتنا، ويغدو مَرهمًا لجراحنا الغائرة. يحتاج الأمر إلى الشجاعة من النساء والرجال على حد سواء. شجاعة النساء في قول كلمة الحق، وشجاعة الرجال في قبول كلمة الحق.” (رحاب منى شاكر، الحب قضية نسوية)

قلنا سابقا بأنه مع سيرورة القراءة من صفحة لأخرى، يكاد القارئ لا يصدق هذا الخنوع و الخضوع الطوعي، والعجز الذاتي الذي ميز ردود أفعال حواء. خاصة وهو يعلم أنه أمام دكتورة، طبيبة نفسية، ذات شخصية قوية وتكوين علمي نقدي، رافض لتكريس العلاقات العاطفية العمودية، التي أسستها الثقافة الاجتماعية الذكورية. وفي الرواية مواقف نقدية كثيرة عاشتها حواء، سواء في تجربة الطلاق الأولى، أو خلال احتكاكها مع صديقاتها. اللواتي يفكرن ويتصورن الارتباط العاطفي والزوجي، بشكل تبعي يلغي كيانهن الإنساني. فقد كانت حواء ترفض هذا النوع من الحب، والعلاقات الاجتماعية العاطفية التي تكرس وتعيد إنتاج الهيمنة والتسلط الذكوري. لكنها أمام زوجها كانت مسلوبة الإرادة، ضعيفة الشخصية. كما لو أن كل ما تعلمته من الحياة، وما اكتسبته من معرفة، عبر مسار التحصيل العلمي، والثقافي الاجتماعي، كان كل ذلك مجرد وزرة زائفة ارتدتها امرأة تقليدية مستلبة مصابة بالصد النفسي والمعرفي الاجتماعي.

لذلك فإن القارئ الذي يفتقر الى المسافة النقدية في انغماسه في هذا الوحل من العلاقة النرجسية التسلطية القهرية، قد يجد نفسه من حيث لا يدري مصابا بنوع من الخذلان المعكوس مع الرواية التي خيبت توقعاته وأفق انتظاره. حيث جعله تماهيه السلبي يعيش، في نظره، خذلانا فنيا أخطأ تشكيل هوية سردية لشكل روائي أصيل. وفي الغالب إذا كان هذا القارئ شغوفا عاشقا لسحر الكتابة الأدبية، فإن أقصى ما يمكن أن يحققه في أخر سطر من الرواية، هو السخط والغضب والألم المشوب بالخذلان، والمثقل بالإرهاق النفسي.

لكن القارئ النقدي سيستمتع كثيرا، ويجد نفسه محفزا مدفوعا الى إنتاج المعنى وبناء الدلالات. وإلى أن يتفاعل مع العلامات و الخصائص المعنوية والفكرية التي تتوخى الرواية إنتاجها، وهي تحاول اكتشاف وبناء السؤال الذي أرق وعذب القارئ على طول صفحاتها. وجعله معنيا بالرواية، لكونها تتقصده وتستهدفه بوضوح، دون أدنى التباس.

” رأيت نفسي أقف قبالة القاضي، في إحدى المحاكم الشرعيّة، في تلّ الورد، وإلى جواري رجلٌ يكبرني سنّاً، يبدو لمن لا يعرفنا أنّه والدي، لكنّه لم يكن كذلك، بل كان مشروع زوجٍ، لم يكتمل زواجي منه… كنت مُجبرةً على الزواج من شخص لا أحبّه، ولا أريده، ولا يشبه رجل أحلامي في شيءٍ.”8و9

لذلك سينتبه هذا القارئ الى الكثير من المواقف والمشاهد والقرائن والمؤشرات، التي تدل صراحة على أن حواء لم تسقط من المريخ، من الحب الحالم المثالي المشروع، طبعا المستحيل تحقيقه في مجتمعاتنا الغارقة في القهر السياسي والديني والاجتماعي، والتخلف المجتمعي في التقاليد والعادات والتصورات والمعتقدات، بالإضافة إلى لهيب التمثلات الاجتماعية الثقافية الذكورية المسيجة بالدين والفقه الأبوي، والجهل المقدس…

” تلك الحادثة، وجدتني مشغولةً بالصفات، التي يطلقها المجتمع على المرأة، والتحيّزات التي تلفّها، فعازبةٌ تعني العذراء البكر، ومطلّقةٌ قبل الدخول تعني أنّها عذراء، لكن سبق لها أن خاضت غمار خطبةٍ وعقد قرانٍ، وهي لا تعني في عرف المجتمع شيئاً، طالما أنّها ما تزال تحتفظ بغشاء البكارة، والمتزوّجة هي المحظيّة والمحميّة التي تعيش في كنف رجلٍ، أمّا الأرملة فهي السعيدة التي انقلبت شقيّةً بوفاة زوجها، فنزلت مرتبتها درجةً إذ غاب حاميها، وفقدت عذريّتها. وتأتي في المرتبة الدّنيا المطلّقة، التي تحيل على معنى سلبيٍّ من جهتين، الأوّل أنّها امرأةٌ سيّئةٌ فشل زواجها، فلو كانت طيّبة المعشر، لما طلّقها زوجها، حتّى لو كان الزوج سبب الطلاق، أمّا المعنى الثاني فيعني أنّها مطلّقةٌ بعد الدخول، ما يعني أنّها غيرُ عذراءَ”11و12

 هكذا تضعنا الرواية أمام عبء إرث ثقيل ينغرس في لاوعي النساء. ويرسب في لا شعور النفس والجسد، وبين شقوق الأفكار والعواطف كما هائلا من النفايات السامة، قابلا للانفجار في أحلك الظروف التي قد تواجهها النساء. مما يؤدي الى اضطرابات نفسية خطيرة تلعب فيها تلك المكبوتات على وتر النقص والعار والخوف من الخسارة والخيبات والفقدان وضياع الحب. الشيء الذي يعمق عقدة الذنب والتأثيم، ويغرق النساء في حالة هوامية من العطاء المجاني، والتضحية التكرارية الأقرب الى الوسواس القهري، حفاظا على الأم أو الزوجة المثالية المضحية.

” دعوت الله ألّا يتكرّر خذلانه لي، لا أريد لأيّ شيءٍ أن يبعدني عنه، فقد تعلّقت به، إلى درجة لم أعد أتيّخّل فيها حياتي بدونه، يكفيني أن يكون بقربي، حتّى أشعر بالسعادة، لا أملّ من الاستماع إليه، مهما طال حديثه، أريد أن يكتمل حبّنا بالزواج، ونصير معاً تحت سقفٍ واحدٍ… لم أكن طامعةً بشيءٍ سوى حبّه، الذي حلمت أن يغمرني به، فأتنفس عشقاً، وآكل عشقاً، وأشرب عشقاً، ما ينقصني هو العشق، الحبّ الغامر، واليد الحانية، والقلب الكبير، أمّا الأشياء الأخرى فلم تكن في خاطري، امتلكت المال والمجوهرات، كان لي عملٌ، ومنصبٌ مرموقٌ، أملك بيتاً في تلّ الورد، لم يكن ينقصني سوى المحبوب.”46

وهنا يكمن سحر الرواية في أنها تدفع بنا الى الحفر عميقا في الديناميات النفسية التي غيبت وعطلت حواء الحرة المستقلة ذات الإرادة القوية، والأفكار والعواطف الجياشة والأحاسيس الجميلة، النابضة بالحب والحياة السعيدة، في تصورها للعلاقات العاطفية الاجتماعية.

ففي سياق علاقة حواء بالذكورة النرجسية، المتسلطة المتعجرفة، والمتطلبة لتحقيق احتياجاتها بشكل أناني أحادي وعدواني استبدادي، انفجرت الحياة اللاواعية متحررة من يقظة الوعي، والتحكم الإرادي في الشلال المتدفق للمكبوتات، و صور رعب الجروح الموشومة في الأعماق. سواء في الطفولة والمراهقة في تجربة الزواج الأول. والخيبة التي عاشتها بصمت قاتل بعد أن عادت ووجدت حجرتها كما هي، مع العلم أنها ضحت ماديا بكل ما تملك، دون أن تنال التقدير والاعتبار لحاجياتها الخاصة، في أن تحظى بغرفة تليق بها وبتضحياتها. أو خلال نشأتها الاجتماعية الثقافية، تبعا لصرامة المعايير، وسقف التوقعات الاعتبارية لوجاهة المكانة الاجتماعية للعائلة داخل بلدة تل الورد. دون أن ننسى القوالب النمطية للتفوق والاجتهاد والتميز، التي كانت تعيش تحت سطوتها القهرية. حالمة بالعلو والأعالي، وسماء الفراشات الجميلات السابحات في فضاء ينعم بالحب وسط اخضرار بهيج.

“رسمت حدود ا صارمةً لنفسي، منذ أن وعيت البيئة التي نشأت فيها، الخطأ غير واردٍ عندي، ولا يُسمح به، أسهمت في ذلك، نشأتي في بيتٍ محافظٍ، وعائلةٍ تُعدّ قدوةً لغيرها، لا يجوز لأفرادها القيام بما يفعله الآخرون، وتُضرب على نسائها حدودٌ مضاعفةٌ، لم تكن الحدود مادّيّةً ظاهرةً، بل معنويّةً خفيّةً، فإذا ما أخطأت إحدى الفتيات من خارج العائلة، يكون الخطأ خطأً، يمكن إصلاحه، لا أحد يعيب على امرأةٍ عاديّةٍ ذلك، أمّا خطأ واحدةٍ من عائلتنا، فيعدّ ذنباً لا يغتفر، خطأٌ بألف خطأ، وعاقبته وخيمةٌ، لذلك كان على نساء عائلتنا تحمّل ضغوطاتٍ كبيرةٍ، حتّى يحافظن على الإطار الذي وضعهنّ فيه المجتمع، ولا تختلّ الصورة المثاليّة لبنات الحجّي.”201

فكلما استحضرنا مثل هذه القرائن، و المؤشرات والمقاطيع الحية الدالة، من داخل الرواية، التي تجمع بين طبيعة مجتمعاتنا والواقع الذاتي الخاص لحواء. سندرك عظمة الرواية في أنها تحفر في قوة تلك الترسبات والمكبوتات التي تتحكم في شخصية الإنسان، خاصة بالنسبة للمرأة التي تعاني من الاضطهاد المزدوج، والمتعدد الصور والأشكال. هذا ما يحدث غالبا في المواقف الصعبة الإرهابية والاستبدادية، والقهرية السياسية، والعلائقية والدلالية التي تميط اللثام عن التاريخ الشخصي للفرد، وتفجر ذاكرة الآلام والجروح الداخلية المدفونة.

” أجّج الحرمان، لسنينَ طويلةٍ، العواطف، والمشاعر، والشغف في داخلي، حلمت بالحبّ بدلاً من أن أعيشه، تضخّمت في خيالي صورٌ عن العشق، والغرام، والهيام، والهجر، والفراق، والخصام، وتماهيت مع ما أقرؤه عن أحوال العشّاق، والمحبّين، في الأشعار والروايات، وتمايلت مع الأغاني، والألحان الشجيّة، كما لو كانت مكتوبةً لي، وتخاطبني وحدي، من دون سواي.”202

فالبناءات الأولية في حياة الانسان تأخذ أبعادا دينامية خطيرة مفجرة قلق النقص( لم يكن ينقصني سوى المحبوب)، وقلق الهجر والانفصال السيكولوجي. فالبناءات النفسية العميقة تضع الزوج في مقام البيت، الستر والحصانة. لذلك يرعبها ضياع المحبوب لما في ذلك من دلالات ذكورية تعرفها وترفضها، لكن في المحنة تكرر الموقف نفسه تحت وطأة سطوة مخزون اللاوعي الذي يتحكم في صدارة التفكير والانفعال. الشيء الذي يغيب الفعل الخلاق، ويقوي من ردود الفعل الدفاعية المرضية.

”  انطلق السائق مبتعداً عن حارتي، وبيتي، الذي تركته نظيفاً، ومرتّباً، كما لو أنّني سأعود إليه في اليوم التالي، بقيت أنظر إليه، إلى أن غاب عنّي، فشعرت بقلبي يهوي إلى وادٍ سحيقٍ، لا قرار له، وانهمرت دموعي!”18

” قال بأنّه سيطلّقني، فقلت له: أوكلت أمري إلى الله، افعل ما تراه مناسباً، كان قد نزع خاتم الزواج من يده، فشعرت بأنّه انتزع قلبي من أحشائي، بكيت بكاءً مريراً بصمتٍ داخل الحرم!”210و211

والقارئ الذي لا يفهم هذه البناءات المتجذرة في الذات، مع حليب الطفولة، كتنشئة اجتماعية ثقافية، وما يتولد عنها من ديناميات نفسية تفرض وجودها في تحديد بوصلة الذات. يتعمق جرح غضبه وسخطه، صارخا: ما الذي جعل فتاة واعية متعلمة متنورة، وطبيبة نفسية، تسقط هذا السقوط المروع في فخ سطوة التقليد؟

يصرخ دون أن يدري أنه وقع في فخ الرواية. فيتعاظم شأن السؤال في نفسه. لأن القارئ الشغوف يعتبر الأمر تحديا له في العجز عن فهم نفسه في مرآة الرواية التي تستعصي على الاختراق وإدراك حالة الصراع ومنطق التناقضات التي تشكل فنية وجمالية الرواية في قدرتها على الاشتغال على النفس البشرية من خلال اللغة ومنطق الكتابة وتقنيات وآليات اشتغالها الأدبي. أليست استراتيجية الكتابة الروائية في ليالي الخذلان في منطقها الداخلي، وقوانين تشكلها الفني تشتغل كطبيبة نفسية؟

إن رهاب النقص والهجران والتبخيس وعدم التقدير الذي فرضته سطوة النرجسي إلى حد القداسة، هو ما كان يشدها الى الوراء والى الصلح. “أسمعني كلماتٍ قاسيةً لم أكن أتخّيل أن تصدر عنه، كانت نظرتي إليه تصل حدّ القداسة، لكنّه أهانني بكلماته، شعرت أنّني لا أعرف هذا الرجل، أيعقل أنّه المحبوب، هو من تلفّظ بتلك الكلمات؟! لا يمكنني تصديق ذلك، يا لخيبتي، ورحت أبكي قهراً!”79

 هذا التقديس الملغوم بالخيبات والخذلان، جعلها تغرق في هوامات الفوز يوما بالمحبوب. لذلك عملت المستحيل، في مواقف تدل صراحة على نكران ذاتها، إلى درجة عدم العناية بها. وتهميش حقوقها واحتياجاتها النفسية والعاطفية والجسدية. والتضحية بالنفس في أفق أن ترى المحبوب في الصورة المثالية التي تحكمت في صدارة انفعالات أحاسيسها، وانطباع عواطفها. ولذلك سيطرت حالاتها النفسية الفكرية العاطفية، المشحونة بالثقافة الأبوية الذكورية، على وعيها. والخطير في الأمر أن حالتها السلبية هذه تحكمت في إدراكها، الشيء الذي ورطها في اختلاق الأعذار لوحشية المحبوب وعنفه واستبداده. فهو لم يكتف بتعنيفها لفظيا ونفسيا، بل صار يضربها ويهملها ويعمل على تحطيمها، ولا يخجل أن يكتب في يومياته ( فتاة جميلة خالية من المعنى تحتاج الى تخريب).114

ومع كل هذه العذابات المرهقة للذات، كان من الممكن من حواء أن تنتفض، وتجد طريقا آمنا لتحرير نفسها من قوقعة النرجسي التي هدرت كيانها الذاتي. لكن الأمر ليس سهلا، فقد كانت تعيش تحت وطأة عذابات الترسبات السامة للأطر الاجتماعية الثقافية الذكورية، التي بنت وكونت وشكلت بنياتها النفسية العميقة، كانت تحلم بتغيير وتغير المحبوب. لذلك صبرت و عانت طويلا من هذا السراب لحب هارب، كأنه في حالة طوارئ قصوى.

” وصلت إلى يقينٍ بأنّ المحبوب لا يحبّني، لكنّه يحبّ خدماتي، مع ذلك كنت أحبّه، وآمل أن يغيّره حبّي، ويبصرني بعين المحبّ يوماً ما، قرّرت الدفاع عن حبّي، لا أريد الاستسلام سريعاً، تحلّيت بالصبر سبع سنواتٍ إلى أن وصلت إلى المحبوب، وسأتحلّى سبع سنوات أخرى للحفاظ عليه، لكنّني سأصل إلى نفقٍ مسدودٍ في نهاية المطاف، وأجد أنّني مع كلّ يومٍ أعيش فيه مع المحبوب، أخسر شيئاً من نفسي، وفي كلّ مرّةٍ ألمس فيها ليناً من المحبوب، وتجاوباً، سرعان ما ينتهي بخذلانٍ كبيرٍ لأتفه الأسباب! “166

لهذا تخلت عن كل شيء، وتنازلت عن احتياجاتها وذاتها وصوتها، وتميزها وتفوقها العلمي والمهني والعلائقي والاجتماعي. هاربة من الشعور المؤلم بالذنب، من خلال التفكير في التضحية والسعي نحو الصلح والغفران. هذا ما جعلها تغرق في الإذعان، مسكونة بحالة من الانتظارية، أدت بها الى فقدان للإرادة في التصرف، بحرية واستقلالية أمام أبسط مشكلة تصادفها في الحياة، كتغيير مفتاح السيارة.

”  باءت كلّ محاولاتي، في حثّ المحبوب على تغيير مفتاح السيّارة إلى جهاز تحكّمٍ عن بعد، بالفشل، لم تؤثّر فيه دموعي، ولا غضبي، ولا استعطافي له، ظّل صلداً مثل صخرةٍ، وبقيت سنة كاملةً، وأنا أتعرّض كلّ يومٍ للموقف ذاته، أقف تحت الشمس الحارقة، أتعثّر في فتح باب السيّارة وقفله.”187

حواء لم يهزمها النرجسي كشخص بقدر ما أن الرواية تثير انتباهنا الى أن محبوبها أكثر من حالة فردية معزولة، يمكن علاجها أو تغييرها. بل، إن الذكورة النرجسية نظام أبوي بنزعته الذكورية يتخطى مقاومة فردية أحادية، مهما كانت قوتها ووعيها وصمودها. هذا يعني أننا أمام نظام يتضافر ويتمفصل، ويترابط فيه بشكل معقد الواقع الاجتماعي التاريخي، والواقع الذاتي.

” لقد أصبح معروفا من الناحية النفسية، أن نمط الشخصية وبنيتها هو نتاج نظام العلاقات الأولية الذي يظل فاعلا في اللاوعي. وهكذا فإن النظام السائد للبنية الاجتماعية يعود فيتعزز ويترسخ من خلال ثبات النماذج الأولية لحياة العلاقة في اللاوعي، من خلال ثبات البنية العلائقية اللاواعية، كما أنه يعكس وينقل الصراعات والأزمات اللاواعية الخاصة بالروحية الجماعية لذلك النظام.”86(مصطفى حجازي، سيكولوجية الانسان المقهور)

وهذا ما جعل حواء تغرق في الإذعان وإنهاك الذات من خلال اللجوء الى ردود أفعال مرضية. كالغضب الصامت والبكاء المستمر، مرورا بالآلام الجسدية والنفسية التي تتغذى عليها سطوة آدم النرجسي. فالثقل الرهيب للموروث الثقافي والديني لم يقدم لحواء مخرجا، وخلاصا يمكنها من فهم ووعي نفسها، وما تعيشه كعلاقة سامة مع نظام أبوي في شخص رجل نرجسي، عجزت عن فهمه واحتوائه واستيعابه وتجاوزه، تبعا للفرضية الثقافية الاجتماعية المتمثلة في القتل الرمزي للأب.

لقد دفعت الثمن غاليا من نفسها وجسدها ولحمها الحي، كي تكون جديرة بالحياة بحرية وكرامة واستقلالية، لذلك استطاعت أن تكتسب قيمة مضافة نوعية، خلال هذه التجربة المؤلمة. وتصالح ذاتها، من خلال ربط جسور المحبة مع نفسها، وخلق التواصل الهادئ المرن مع مناطق القوة في داخلها. والتخلص من الصورة المثالية الحالمة التي تلبستها في غفلة من سطوة الذكورة النرجسية. كما لو أنها كانت تعيش بعد هذا الجحيم، تجربة مخاض عنيف للولادة من جديد.

” حلّ عيد ميلادي، هذا أوّل عيد ميلادٍ سأقضيه بعد انفصالي عن المحبوب… أطفأت الأنوار، وأشعلت شمعةً واحدةً فقط، وغنّيت لنفسي:     happy birthday                                         

…to youسنة حلوة يا جميل، ثمّ أطفأت الشمعة، وفتحت النور، لأعلن ولادتي الجديدة، وانبعاثي من تحت الرماد، قويّةً، رشيقةً، وجميلةً أكثر من ذي قبل، قطّعت التورتة، وأكلت منها مع كأس عصيرٍ، وتمنّيت لنفسي بدايةً جديدةً، وحياةً سعيدةً، بعيداً عن المحبوب، وعن الدموع، وعن ليالي الخذلان!”275و276

Visited 69 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي