العقلُ المُسَلّحُ بالمعرفةِ قادرٌ على بناءِ الإنسانِ والمجتمع
عقيل وساف
إنَّ الوَعْي الثقافي المعرفي يَعْني تكوينَ إطار واقعي يشتمل على مُكَوِّنَات السُّلوكِ الإنساني، ويُحدِّد طريقَ الإنسانِ في المُجتمع، وطريقةَ المُجتمعِ في التعامل مع تأويلِ الأحداث وكيفيةِ تَوظيفها في الواقعِ اليومي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى نقل الهَامِشِ والمُهَمَّشِ مِن الأطراف إلى مركز الوجود المُسيطِر على الوَعْي والفِعْل معًا، حيث تُمثِّل رَمزيةُ ثَقافَةُ العقل تَصَوُّرًا وُجوديًّا عَن كِيَانِ الفردِ وكَينونةِ المُجتمع، وتُشكِّل مَنهجًا مَعرفيًّا لِتَحليلِ العلاقات الاجتماعية، وتَفسيرِ مَصادر الوَعْي الثقافي في أشكالِ التفكير الإبداعي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى جَعْلِ الواقعِ المُعَاشِ كائنًا حَيًّا مُتَفَرِّدًا بذاته، وَفِعْلًا اجتماعيًّا مَنظورًا إلَيه مِن خِلال إرادةِ المَعرفة المُتَحَرِّرَة، لا سُلطةِ المصالح الشخصية الضَّيقة.فثُنائيةُ التأويل والتوظيف في السياق التاريخي تَكشِف الفرقَ بين الوَعْي الثقافي والفِعْلِ الاجتماعي باستخدام آلِيَّات لُغوية تَدمُج الخِبراتِ معَ المعارف، وتبتكر أدواتٍ فكرية قادرة على التفاعل معَ جَوهر الأشياء إبداعيًّا لا ميكانيكيًّا.
فإذا كانَ الوَعْيُ هو الأساسَ الفلسفي للفِعْل، فإنَّ الثقافةَ هي القاعدةُ الأساسيةُ للمُجتمع، والهُوِيَّةُ المُتماسكةُ للإنسان الواعي الذي يُمارس وُجُودَه الحقيقي لإكمالِ الثغرات في شخصيته المركزية، وتحقيقِ الكمال في سُلطته الاعتبارية، بِوَصْفِهَا طريقًا لِخَلاصِ المعنى الحياتي مِن ضَغط اللحظة الآنِيَّة ، وانعتاقِ بُنية التفكير مِن المصلحة الضَّيقة، إذ يَنبغي تحويلُ كِيَانه السُّلطوي إلى كَينونة فلسفية تحتوي على القواعدِ السُّلوكية والتحليلاتِ اللغوية،لفهمِ تركيب المُجتمع للوُصول إلى الجُذور العميقة للعلاقات الاجتماعية، وربطِ تفاصيل الحياة اليومية بالشُّعور الإنساني القائم على الخِبْرَةِ القَصْدِيَّة لا البَرَاءَةِ السَّاذَجَةِ.
إنَّ الإنسان يَبْني سُلوكَه الحياتي استنادًا إلى تحليله الخاص لِمُكَوِّنَاتِ ذاته وعناصرِ البيئة المُحيطة به، ويُؤَسِّسُ منظومته الشُّعورية وَفْقَ زاوية رُؤيته للطبيعة، ويَدفع علاقاتِه الاجتماعية باتِّجاه سُلطة العناصر القوية في المُجتمع للحفاظ على مَصلحته الشخصية، وَوَفْقها يتمُّ بناءُ الهُوِيَّة الوجودية لشخصية الإنسان ذاتيًّا ومَوضوعيًّا. وهذه الشخصيةُ حاملةٌ للرموز اللغويةِ والاجتماعيةِ التي تتجلَّى في الأنظمة المعرفية، التي تُساعد العقلَ الجَمْعي على إعادة تَفسير العَالَم، ومِن ثَمَّ تفسير انعكاسات الزمان على المكان ، أي : تفكيك صِراع الهُوِيَّات في الماضي والحاضر والمُستقبل اعتمادًا على ماهيَّة البناء الاجتماعي في الواقع المُعَاش. والإنسانُ لا يَملِك إلا اللحظةَ الآنِيَّة، لذلك ينبغي أن تكون نُقْطَةَ الانطلاق نَحْوَ تحليل الذات وما يُحيط بها مِن أشكال اجتماعية مُتَغَيِّرَة، وظواهر ثقافية مُتَبَدِّلَة، ومعايير فِكرية نِسبية.
فسيطرةُ العقلِ الجَمْعي على العلاقات الاجتماعية لا تُؤَدِّي بالضَّرورة إلى صناعة مُجتمع عقلاني، فلا بُدَّ مِن رَبْطِ إفرازاتِ الزمانِ والمكانِ بتراكيب الوَعْي الثقافي، ودَمْجِ وظائف الأنظمة المعرفية مع تأثيرات الفِعْل الاجتماعي. والعقلُ الجَمْعي لا يَستطيع أن يَصنع مُجتمعًا عقلانيًّا مِن الفَرَاغ، ولا يَقْدِر أن يَبني منظومةً فكريةً حُرَّةً مِن العَدَم، وبالتالي يجب التنقيبُ عن الجُذور العميقة للعلاقات الاجتماعية، وبناءُ الهُوية الوجودية للإنسان والمُجتمع عليها. وكما أنَّ الطبيعة لا تَقْبَل بوجود جُذور في الهَوَاء، كذلك المُجتمع العقلاني لا يَقْبَل بوجود عَقْل سطحي بلا سُلطةٍ معرفية. والعقلُ المعرفي المُسلَّح بسلطة الوعي هو القادر على بناء الإنسان والمُجتمع. والوَعْيُ الثقافي المَدعوم بالفِعل الاجتماعي هو القادر على صناعة التاريخ والحضارة للنهوض بواقع الإنسان والمجتمع على حد سواء، فما هي إلا سلسلة مترابطة في هذا التكوين، فحينما يُنمّي الفرد وعيه على كل أصعدة وأنشطة الحياة فلابد أن يتحول هذا الوعي إلى سلوك جمعي؛ من خلال تبادل المعرفة والتجارب التي تخلق التأثير الإيجابي في واقع المجتمع، وهذا ما يعمق الوعي ويدعم التجديد في الأفكار التي ستعمل على تنمية الوعي والنهوض بإفراده والمجتمع للمشاركة الفاعلة في الحياة الاجتماعية في ظل أجواء تتسم بالحرية والثقافة الحضرية المجتمعية، لان نظام الحياة الذي يسير وفق هذا الإتجاه لا محال سيغرس القيم والأفكار والمحافظة على العادات الايجابية وسيعمل على تمكين الأفراد وإبراز مواهبهم وثقافتهم وعلومهم في خدمة المجتمع.