الاحتفالية في التاريخ والتاريخ في الاحتفالية
د. عبد الكريم برشيد
الاحتفالية.. النقد والنقاد ونقد النقاد
فاتحة الكلام
وهذه الاحتفالية ماذا يمكن أن تكون سوى أنها إبداع فكري وجمالي قبل كل شيء؟ والأصل في فعل الإبداع أنه حرية وأنه تحرر، وإنه اختيارات وأولويات ومواقف ورهانات. وقديما قال بعض الناس (لا تقل للمغني غن، ولا كيف تغني. ولا عن ماذا يمكن أن يغني.. وانطلاقا من هذه القناعة كتب الاحتفالي ما شاء. ولم يستفت في فعل الكتابة الفكرية والإبداعية غير عقله وغير قلبه، وغير حسه الفني، وغير حدسه الصوفي، وغير ذوقه الجميل,
ونحن اخترنا المسرح. وفي هذا المسرح اخترنا كل الفنون الجميلة والنبيلة، اقتناعا منا بأن المسرح هو ملتقى كل العلوم وملتقى كل الفنون وملتقى كل الناس. وملتقى كل الثقافات ولللغات، وملتقى كل الأمكنة وملتقى كل الأزمنة..
ونحن في مسيرتنا الاحتفالية قد وجدنا في هذا المسرح من يقول لنا:
— مارسوا المسرح الذي الذي نريد لكم. وإياكم أن تقترفوا المسرح الذي تريدون لنا.
— وادخلوا المسرح من كل أبوابه إلا.. من باب الاجتهاد ومن باب البحث ومن باب التنظير الفكري، ومن باب الحفر في الذات، ومن باب الغوص في اللاوعي الجمعي، ومن باب التراث، ومن باب التاريخ الإنساني والكوني الواسع والعريض والعميق.
ومن حق هذه الاحتفالية الحرة أن تعتز بمنجوها الفكري والجمالي، وأن ترفض الوصاية على اختياراتها. وأن ترفض أن يكون مسرحها مسرحا مدرسيا. أو أن يكون مسرحا ايديولوجيا، أو أن يكون مسرحا أخلاقيا. أو يكون مسرحا فئويا منغلقا على نفسه.
وإيمانا منا بأن هذا المسرح هو أساسا حرية. فقد اخترنا أن يكون مسرحنا احتفاليا وعيديا. وأن يشبهنا في أفكارنا وفي لختياراتنا وفي مواقفنا. وهذا ما جعلنا نردد لازمة (لكم مسرحكم ولدينا مسرحنا)، وهذا أيضا هو ما جعلنا نرد على كل النقد الذي واجه الاحتفالية والاحتفاليين بكتابين يحملان نفس الاسم. والكتابان هما:
(الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة) الكتاب الأول، و(الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة) الكتاب الثاني.
فعل النقد بين البناء والهدم
وهذه الاحتفالية، في فعلها المفكر والصادق والبريء والشفاف، والفاعل والمتفاعل والجديد والمجدد والمتجدد، وفي زمانها الذي أبدعها وأبدعت معه وفيه، شيء غير قليل من النقد غير البريء، وقد يصل كثير من هذا النقد إلى درجة الهجاء، وكل هذا لأن فعل الإبداع شيء صعب، ولأن النقد فعل سهل جدا، وأنه لا شيء أسهل منه عند الذين لا يحسنون شيئا إلا الكلام، وتحديدا الكلام الذي يهرب من المعنى، أو الكلام الذي يهرب المعنى عبر الحدود.. أي بين حد الحق وحد الباطل، وبين حد الجمال وحد القبح، وبين حد المعنى وحد اللامعنى، ولهذه الاحتفالية (المجرمة) و(الآثمة) قصة طويلة جدا مع الذين لا يعجبهم العجب، ولا الصيام في رجب، والذين يقولون ويكتبون بأن هذه الاحتفالية سيئة، وبأنها لا شيء، ومتى كان اللاشيء يثير كل هذه الحروب وكل هذا الغضب؟
وهناك من قال وكتب بأن هذه الاحتفالية مجرد خرافة. وهل بمثل هذه الاتهامات يمكن أن نؤسس مسرحا جديدا، أو أن نساهم في صناعة مسرح جديد؟
وأغلب نقاد الاحتفالية، وفي أحكامهم العامة لا يعرفون ولا يدركون ولا يحددون ما السيء فيها تحديدا، هل هو اسمها؟ هل هو مضمونها الفكري الإنساني والكوني؟ وهل هو بنية إبداعها المسرحي. والذي هو نفس بنية الاحتفال العيدي في المجتمعات العربية. والتي هي جزء أساسي وحيوي من بنية الاحتفالات المسرحية في العالم، وبهذا يكوم من خلنا أن نتساءل:
ومتى كانت الدعوة إلى الإنسانية وإلى الحياة والحيوية وإلى المدنية وإلى الجمال وإلى الكمال وإلى التلاقي وإلى الفرح شيئا سيئا؟
وهذه الاحتفالية ليست شبحا من الأشباح، والذين أبدعوها وفكروا فيها واسسوها. أو أعادوا تأسيسها، ليسوا من الأشباح أيضا، وهي لم تأت من فراغ. وهي، في معناها الحقيقي، تفكير جاد وجديد ومجدد ومتجدد، ومن المؤكد أنها ليست تفكيرا في الخواء، وأنها ليست وجودا في اللاوجود، فهي فعل تاريخي داخل التاريخ وداخل الجغرافيا وداخل العبقرية الإنسانية، ولعل هذا هو ما أعطاها مشروعية الوجود، وأعطاها مشروعية الاجتهاد ومشروعة ممارسة الشغب الفكري والجمالي الصادق، وهؤلاء النقاد، هم اليوم مثل كل الناس الذين ينتقدون القدر أو ينتقدون هذا الزمن، والذي أتى بهم إلى الوجود، وفي هذا المعنى يقول الإمام الشافعي:
نعـيب زماننا والعيب فـيـنا وما لزماننا عيـب سـوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا. وهل يصح أن نقول بأن ذنب هذه الاحتفالية الوحيد هو وجودها، وتحديدا هو وجودها الخطأ في الزمن الخطأ وفي السياق الخطأ، ووجودها مع المتلقين أو المتلاقين الخطأ؟
ويقول الاحتفالي بأن هذه الاحتفالية قد جاءت فعلا (خارج الزمان، أو أنها جاءت قبله، وأنها أسست منظومتها الفكرية والجمالية ضدا على إكراهات الواقع، وضدا على سلطته وسلطانه، وضدا على مجريات الواقع، وبهذا فقد أسست ثقافة الاختلاف، أو ساهمت في إعادة تأسيسها من جديد بشكل جديد، وأن ذلك التأسيس قد جاء انطلاقا من كلمتهاـ المبدأ (خالف تعرف)، هكذا كتب الاحتفالي في كتابه (أنا الذي رأيت).
وعلى ضوء راي الإمام الشافعي في الزمان وما قد يأتي به الزمان من أفكار ومن منظومات فكرية وجمالية، نجد واحدا من النقاد يقول:
نحن نعيب الاحتفالية والعيب فينا، فهي أعطت ما أعطت، وكان علينا أن نقرأ ما أعطت، وأن نصحح الخطأ فيها، إن كان له فعلا وجود، وأن نكمل الناقص فيها، وأن نجدد القديم فيها، وأن ننطق الساكت فيها، وأن نوضح الغامض فيها، ولكننا لم نفعل، واكتفينا بالكلام العام، والذي قد يظهر بأنه يقول شيئا، مع أنه لا يفيد ولا يعني ولا يقول أي شيء..
النقد معرفة والنقد سلطة وتسلط
ويقول الاحتفالي في (بيان طنجة للاحتفالية المتجددة)، وتحديدا في فقرة بعنوان (في النقد والنقاد ونقد النقاد) ما يلي (نعم. إنني أحب الجمال، وأهيم به عشقا، ولكن أي جمال؟ الجمال المجلل بالجمال وبالكمال بكل تاكيد، واعشق السحر ايضا. وهو في درجة السحر الحلال، تماما كما اعشق المعرفة وهي في أعلى واسمى درجاتها، والتي هي درجة الحكمة، وإنني أقول دائما مع ابن عربي (شرف الإنسان معرفته لنفسه)، وأقول مع صديقي بحر العلوم في تلك الاحتفالية المسرحية التي تحمل اسمه: (ما قيمة أن يعرف الإنسان أصعب المسائل وأخطرها في الوجود والحياة وأن يجهل أبسطها وأسهلها؟ وما معنى أن يدرك منتهى الأشياء، وأن يضيع مبتدأها ومنطلقها؟ وما قيمة أن يحيط بكل شيء علما، وهو يجهل نفسه وذاته؟).
وإنني، أنا الكاتب الاحتفالي، أنطلق دائما من منطلق إنني لا أعرف. ومن منطلق إنني أريد أن أعرف، ومن منطلق ان ما يمكن أن أعرفه ليس هو الحقيقة المطلقة. ولكنه الحقيقة من زاوية معينة. وفي هذه المعرفة البسيطة أحتفظ لنفسي بالحق في مخالفة نفسي، وفي مراجعة ما قد أراه وأسمعه وأتخيله، وبهذا فإنني أعلن دائما بأنني أجهل نفسي (وأنني استغرب لمن يشتغل بالنقد، ويسعى لأن يعرف الشعراء وشعرهم. وان يفك شفرة الكتابة وشفرة الكتاب، من غير ان يعرف نفسه اولا، ومن غير ان يعرف بها ثانيا، واعتقد ان فاقد الشيء، لا يمكن أن يعطي أي شيء، ولعل هذا هو السر في أن يتحول كثير من النقد إلى الوصف وإلى الأحكام العامة، وإلى ترديد الكليشيهات النقدية الجاهزة. والتي لا يمكن أن تخرج عن شيئين اثنين لا ثالث لهما، أي المدح المجاني أو الهجاء العدواني، ولا شيء سوى ذلك، ولهذا فإنني أقول لكل أصدقائي النقاد الكلمة التالية:
– (اعرفوا أنفسكم أولا، وتأكدوا بأن من لا بعرف نفسه لا يمكن أن يعرف أي أحد من الناس، وابحثوا عن الجمال في أنفسكم، وتأكدوا مع الشاعر إيليا أبي ماضي بأنه لا مهرب من الحقيقة التالية، والتي هي (والذي نفسه بغير جمال*** لا يرى في الوجود شيئا جميلا).
من النقد اليومي إلى النقد الموسمي
هم يقولون السياسة فن الممكن. نحن نقول المسرح هو فن وعلم وفكر كل الممكنات وكل الاحتمالات. وإذا كان لكل الأشياء المادية حدود، فإن العبقرية الانسانية لا حدود لها. وفي الفن نحلم كما نشاء. لو كما يشاء وعينا الباطن.
وفي عالم المسرح فاعلون مسرحيون، يؤسسون المسرح بمنجزات مسرحية. وفيه متكلمون ومتحدثون وواصفون يتكلمون عن المسرحعن بعد. من غير أن بضيفوا لجسد هذا المسرح ولتاريخه فكرة واحدة أو مشهدا مسرحيا واحدا أو لقطة مسرحية واحدة.
وتاريخ هذا المسرح، المغربي والعربي. لو نزعت منه مسرحية واحدة لاختلت بنيته. وفي المقابل. فلو أحرقت كل ما قيل وكل ما كتب عن هذا المسرح من كلام ومن كتابات ومن أحكام، فإنه لن يتغير شيء من جوهره ومن روحه ومن تاريخه. والذي هو تاريخ كتابة مسرحية قبل كل شيء.. كتابة فيها رؤية للعالم. وفيها موقف من اليومي، وفيها فكر وعلم وفن وفقه الحياة الإنسانية.
وعلى امتداد نصف قرن من عمر قرنين، ظل بعض النقد المسرحي، مغربيا وعربيا، يخوص حربا دنكشوتية على الاحتفالية، ولقد انتهى كثير من فرسان النقد والبحث العلمى إلى النسيان. وبقيت الاحتفالية حاضرة وصامدة ومتجددة أمام كثير من الكلام الذي ليس له معنى.
وهناك اليوم كائنات تغيب السنة كلها. ولا تجد لها وجود إلا في بعض المهرجانات المسرحية. ومثل هذه الكائنات المهرجانية تعرف مديري مهرجانات المسرح، ولكنها لا تعرف المسرح. ولا علاقة لها حقيقية بروح المسرح ولا بجوهر المسرح، ولا بالمنجز المسرحي ولا بالتيارات المسرحية ولا بالإضافات المسرحية.
وبالنسبة لصورة المسرح المغربي والعربي اليوم يمكن أن تقول ما يلي: هو مسرح يظهر بوجهين اثنين، وجه الإبداع ووجه الاتباع، وهو في حركته يسير بسرعتين مختلفتين. سرعة المبدعين المسرحين المغامرين والمجددين، وسرعة المتكلمين والمتحدثين في هذا المسرح. وفي فعل الفئة الثانية كثير من اللافعل وكثير من المزاعم وكثير من الادعاءات وكثير من الأحكام وكثير من الكليشيهات.
هو نقد يتسب نفسه إلى المسرح. مع أنه لا ينتج الفعل المسرحي. وهو يكتفي بأن يستظهر الكتب المحفوظة. وأن يستعرض المقروء في الكتب. ولكنه لا يضيف أية إصافة إلى المنجز المسرحي، الفكري والجمالي.
ومصيبة هذا المسرح اليوم. تماما مثل مصيبة كرة القدم، ففيهما كثير من العارفين ومن الواصفين ومن العرافين ومن المتنبئبن ومن الفاهمين ومن المتكلمين بالحق والباطل. وبذلك فإنه يمكن أن تجد في المقابلة الرياضية أحد عشر لاعبا فقط. وفي مقابلهم يمكن أن تجد أربعين ألفا من العلماء ومن الفقهاء ومن المحللين ومن المعلمين. وهذا هو الحال بالنسبة للمسرح المغربي والعربي اليوم. ففيه قئة قليلة تنتج مسرحا بالمعنى الحقيقي للكلمة. وفيه قلة قليلة تكتفي بأن تتحدث عن المسرح وعن المسرحيين وعن الندوات المسرحية وعن المهرجانات المسرحية وعن الجوائز المسرحية. وهي تفعل كل هذا، معتقدة أن هذا الكلام هو المسرح.. كل المسرح. وبذلك نجد أن بعض المهرجانات المسرحية. بدل أن تستدعي أصحاب التجارب المسرحية. من أجل أن يتحدثوا عن تجاربهم. فإنها تكافي بأن تستدعي هذه الكتلة البشؤية التي تمارس النميمة. باسم النقد، وتمارس الفضول ولا تمارس الفعل المسرحي الحقيقي.
وفي هذا المسرح العربي اليوم جهتان. الأولى تبدع وتنتج وتؤسس وتبني وتمشي إلى الأمام، وجهة أخرى تتبع وتوسوس وتهدم وتمشي إلى الخلف.
الجهة الأولى تشتغل بالرمزيات، في الفكر والفن والآداب والعلم. وتهتم بالمعاني وبالأسئلة والمسائل الفكرية، وبالقضايا الاجتماعية والسياسة. وأيضا لحاضر ومنسبقل الإنسان والإنسانية، وبحاضر ومستقبل الحياة والحيوية، وبحاضر ومستقبا المدينة والمدنية. وفي مقابلها نجد جهة أخرى. تتكلم أكثر مما تعمل. وهي تهتم أساسا بأسماء المسرحيين وليس بالمسرح..
ويعرف الجميع أن شعار الاحتفالية ووصيتها إلى كل المسرحيين، في المغرب وفي كل العالم هو التالي:
— أنجزوا المسرح أولا.. وتكلموا عنه ثانيا.
وعيشوا المسرح في المسرح، في الزمن المسرحي، وفي المكان المسرحي، وفي المناخ المسرحي، وليس على الأوراق، وليس أمام الميكرفونات في المهرجانات المسرحية الموسمية.
والمسرحي في المسرح هو حصان هذا المسرح، في كل زمان وفي كل مكان، وهو قلب هذا المسرح النابض، وهو عقله المفكر والمدبر، وهو محركه وطاقته المحركة.
ونعرف اليوم أن الذين يضعون عربة المسرح أمام الحصان المسرحي. إنما يعاكسون المسرح بهذا الفعل الخطأ. وبه يخونون روح المسرح. ويتنكرون لروح وتاريخ الفعل المسرح الصادق والجاد والحقيقي.
Visited 14 times, 1 visit(s) today