غزة والوجه المتوحش للديمقراطية الغربية
المعطي قبال- باريس:
ونحن على مشارف الذكرى الدامية الأولى للسابع من أكتوبر 2023، وما خلفته من دمار ، على البنية الجغرافية والنفسية والاجتماعية للمجتمع الفلسطيني، بحيث بلغ عدد ضحايا الإبادة الإسرائيلية قرابة 46 ألف قتيل وعشرات الملايين من ضحايا الأطفال والنساء والمسنين، تتهيأ أكثر من دار نشر فرنسية لطرح إصدارات في الموضوع.
ويعرف مسبقا توجهها النظري والأيديولوجي القائل بأن إسرائيل ضحية وأنه من حقها الدفاع عن النفس، وأن القتلى ما هم إلا ضحايا جانبية لـ«حرب مشروعة» ، وغيرها من التبريرات الواهية، التي يبقى هدفها هو الإبقاء على إسرائيل قوة متقدمة ورأس حربة الغرب في المنطقة. وعليه داس الغرب قيمه الأخلاقية والسياسية «دفاعا عن الديمقراطية» ونبذا «للوحشية». والتف الإعلام من حول هذه الأطروحة لمطرقتها صباح مساء على القنوات ووسائل التواصل الاجتماعي، دون ترك أي حيز للرأي الآخر لعرض رأيه.
من بين هذا الكم الهائل تتسلل بعض الدراسات والمقالات من توقيع باحثين أو مفكرين لهم وزن في الميدان الجيو-سياسي، بحيث في خضم الرقابة والحجز والمنع التي طالت العديد من النزهاء، تنبثق هذه الشهادات وكأنها قبسة من نور. هكذا تحدى ديدييه فاسان حاجز الرقابة لنشر كتاب هام في عنوان «هزيمة غريبة . في موضوع الموافقة على سحق غزة». صدر عن منشورات لاديكوفيرت في 187 صفحة. للذكر ديدييه فاسان بروفيسور بالكوليج دو فرانس، يدرس مادة «قضايا الأخلاق والرهانات السياسية في المجتمعات الحديثة». كما يدرس بمعهد برينستون وبالمدرسة العليا للدراسات في العلوم الاجتماعية. وتناهز أعماله أزيد من ثلاثين مؤلفا خصص القسم الأكبر منها لدراسة المسألة الصحية في البلدان الإفريقية والأوبئة المزمنة التي تعاني منها. كما تنصب أبحاثه على العلوم الاجتماعية وكان درسه الافتتاحي بالكوليج دو فرانس لعام 2023 مخصصا لتيمة «العلوم الاجتماعية في زمن الأزمة».
في هذا البحث الجديد ولج فاسان الوضع الدرامي لغزة من بوابة الأخلاق والجيوسياسة. فالأخلاق السياسية تعتبر أحد روافد الديمقراطية. غير أن الديمقراطية في حالة غزة أبانت عن وجهها المتوحش. لم يتعلق الأمر بالتخلي عن قسم من البشرية بل يتعلق الأمر بالدعوة إلى دعم سحقها. سيحفظ التاريخ هذه الرغبة الملحة إلى الهدم ومحو غزة. سبق لمارك بلوك أن أصدر مؤلفا في عنوان «الهزيمة الغريبة» حلل فيه أسباب هزيمة فرنسا عام 1940. إن كانت هذه الهزيمة عسكرية فإن «هزيمة» اليوم أخلاقية إذ أحدثت توافقا غربيا إلى سحق غزة، إنها ثغرة مهولة في النظام الأخلاقي العالمي. ويستحضر فاسان قولة منسوبة للشاعر الفلسطيني فادي جودة يشير فيها إلى أنه «من حين لآخر تموت اللغة، لكنها الآن قيد موت مؤكد. ويتساءل «من بقي على قيد الحياة لتكلمها؟».
خلال المذاكرات التي أجراها مع المعنيين بسحق غزة بدا للباحث أنه لم يتقلص فضاء الكلمة بسبب التهديدات التي تطاله وحسب، بل أصبحت الكلمات عاجزة عن ذكر لعبة الرهان. كانت كل واحدة وكل واحد منا على وعي بأننا نشهد بلا حول ولا قوة حدثا أساسيا من أحداث التاريخ المعاصر «ستكون عواقبه الأخلاقية والسياسية والثقافية على درجة كبيرة من الخطورة» يضيف فاسان.
لكن لغة صياغته بدت وكأنها ميتة. أو يحاولون قتلها وذلك بفرض معجم ونحو للوقائع، بوضع وصفات لما يجب قوله والتنديد بما لا يمكن قوله، وإلا تم التعرض للتشهير والطرد من العمل أو من المؤسسة، أو قد تسحب منك جائزة أو تقصى من محاضرة وتتعرض لتحقيق من طرف أجهزة البوليس، أو يستدعيك قاضي للمثول أمام إحدى المحاكم. بوليس اللغة الذي كان من قبل بوليس الفكر كانت تغذيه وشايات زملاء الشغل، أساتذة، منظمات تطالب بمعاقبة المخالفين. استعادة حرية التعبير، المطالبة بنقاش أكثر ذكاء، أصبح إذا ضرورة قصوى. لحظة الإقرار بتعيين لجنة خاصة بالإبادة بغزة تغير نسبيا الخطاب وبدأنا نعاين من يدعون إلى إيقاف الحرب، مع إبداء بعض الحسرة، أو التقليل من أهمية المراقبة. هذا التوجه الإصلاحي من طرف الغرب لا يعدو كونه نفاقا لن يلبث أن ينكشف لحظة التعامل مع الذكرى الأولى لأحداث السابع من أكتوبر.
__________________________________________________
ديدييه فاسان، هزيمة غريبة. في مسألة التوافق على سحق غزة، 176 صفحة. منشورات لاديكوفيرت.
Visited 100 times, 1 visit(s) today