حوار المشرق والمغرب: حسن حنفي- محمد عابد الجابري (4-6)
سعيد بوخليط
بعد حديث العلمانية ومنظومة الحكم السياسي، انتقل النقاش بين المفكريْن إلى قضية الوحدة العربية، لاسيما وأنَّ مناسبة حوارهما تزامنت مع فترة شهدت ولادة مشروعين وحدويين، شهر فبراير 1989، في المغرب والمشرق: ”اتحاد المغرب العربي” و”مجلس التعاون العربي”.
إشارة، ابتدأ بها عابد الجابري مداخلته، ليكشف عن مفارقة تاريخية مفادها أنَّ المشاريع الوحدوية أواخر الخمسينات وبداية الستينات، حظيت دائما بحماس داخل الأوطان العربية، مقابل توجُّس من طرف الدول الأجنبية، بينما انقلبت الآية إزاء المبادرتين الأخيرين، بحيث أصبحت الشعوب تضمر أحاسيس الحذر، صوب ما يجري، مقابل ترحيب المنظومة الدولية.
بعد ذلك، قدَّم عابد الجابري، سردا تاريخيا مقتضبا ومكثفا قصد المقارنة بين التفكير الوحدوي ابتداء من سنوات الخمسينات غاية الثمانينات، بحيث تبلورت فكرة الوحدة العربية في منطقة الشام،منطوية على وحدة إقليمية لسوريا الكبرى وكذا وحدة”الهلال الخصيب”،دون أن تشمل الخليج واليمن،فقد استندت الوحدة العربية على توجُّه إقليمي يضيف الجابري.
سادت فكرة الوحدة الشام أكثر من مصر التي تعالت داخلها أصوات تدعو إلى الارتباط بالتاريخ الفرعوني،بينما نزع تيار ثان نحو أوروبا والغرب، ثم بقي تيار ثالث عربيا إسلاميا: ”ويمكن القول، بصورة إجمالية، أن مصر لم تنخرط في التفكير في”الوحدة العربية” انخراطا عمليا وبقدر حجمها، إلا مع ثورة تموز (يوليو) 1952، وبالخصوص بعد العدوان الثلاثي عليها سنة 1956” (ص 46).
إذا انتقلنا إلى المغرب العربي، نستعيد بروز مفهوم الوحدة منذ العقد الثاني من القرن العشرين، لكن ليس بمعنى”الوحدة العربية” أو إقامة دولة واحدة، بل مجرَّد تنسيق بين الحركات الوطنية لمقاومة الاحتلال الفرنسي ولم يكن هناك تفكير بخصوص تحقيق وحدة اندماجية على مستوى شمال أفريقا أو وحدة عربية شاملة ”وحدة المغرب العربي في أذهان الحركات الوطنية و”الطبقة المسيرة”والمنتظمين في سلك البيروقراطية كانت، وماتزال، تعني في المغرب العربي، التنسيق والتعاون والتكامل وصولا إلى نوع من الاتحاد الفيدرالي كهدف للمستقبل” (ص 47).
أما بخصوص الوحدة المصرية-السورية، في إطار الجمهورية العربية المتحدة سنوات (1958-1961)، فقد عاين محمد عابد الجابري، بكيفية مباشرة، مختلف تفاصيلها اليومية بحكم تواجده في سوريا للدراسة، خلال تلك الحقبة، بالتالي كان مراقبا يوميا لحيثيات ما يجري: ”لايمكن أن أنسى أن تهديد تركيا لسورية آنذاك كان له دور كبير جدا في دفع هذه إلى طلب الوحدة من مصر، كما لايمكن أن أنسى كيف كنا نفاجأ بالسرعة التي كانت تغير بها الأحزاب السورية مواقفها: حزب يعارض الوحدة اليوم ثم ينقلب في اليوم التالي إلى أشد المتحمسين لها، وهذا حزب يطرح شعار الاتحاد الفيدرالي يتحول بعد يوم أو يومين إلى تبني شعار الوحدة الاندماجية” (ص 48) .
من أراد فهم أدبيات الوحدة في الوطن العربي خلال الفترة المعاصرة، يلزمه حسب عابد الجابري استعادة مضامين إصدارات الصحف السورية وبيانات أحزابها وكذا وسائل الإعلام المصرية إبان الأشهر الخمسة التي سبقت إعلان الجمهورية العربية المتحدة، والوقوف على وازعها الحقيقي، بناء على الإقليم القاعدة أو العوامل الخارجية؟
فشلت تجربة الجمهورية العربية المتحدة،لأنها تحققت بكيفية ارتجالية نتيجة ظروف معينة متقلبة.
تحتاج اليوم فكرة الوحدة إلى إعادة تأسيسها في الوعي العربي، باعتبارها إحدى لبنات الدولة القُطْرية وتوظيفها لصالح بناء الوحدة. هكذا، يتجلى حاليا معناها الوحيد، أما خلال سنوات الخمسينات والستينات، فقد وُظِّف مشروع الوحدة على مستوى الشعارات، بينما كانت يوميات دعاتها مجرد تفكير في كيفية بناء الدولة القُطْرية: ”لقد تم بناء الدولة القطرية في العالم العربي، وإذن فعلى كل من يفكر في الوحدة، أن يعي ويفهم أن الوحدة أصبحت تعني شيئا واحدا وهو نزع لبنة أو لبنات من صرح الدولة القطرية وجعلها أساسا لبناء الوحدة. إن عبارة ”تحقيق” الوحدة يجب أن تترك مكانها لعبارة ”بناء” الوحدة” (ص 49) .
بدأ حسن حنفي، تحديده لمفهوم الوحدة بناء على زخم نظري واضح، انطوى منذ الوهلة الأولى على ثراء مفهومي واستقرائي، متساميا بالوحدة عن التأويلات الإيديولوجية، فهي ليست وسيلة ذرائعية لتحقيق مكاسب دولة الوحدة وتقليص خسائر الدولة القطرية، ولا مفهوما إقليميا بغية تحقيق مكاسب صغيرة، ولا سياسيا قصد تجسيد تطلعات التحرُّر الوطني ضد الاستعمار، لكنها: ”انعكاس في الواقع لتصور وحدوي للعالم ينشأ من عقيدة التوحيد، توحيد قوى الفرد، وتوحيد طبقات المجتمع، وتاريخيا من خلال وحدة التراث، وتوحيد أجناس البشرية على الأرض” (ص 51).
بناء على تعريفه الأقرب إلى مرجعية لاهوتية، يؤكد حسن حنفي بأنَّ عدم ارتباط الوحدة لدينا بعقيدة التوحيد واستنادها في المقابل على مفاهيم ذرائعية، عملية إقليمية وسياسية أدى إلى إخفاقها.
تبدو عوامل وعناصر الوحدة بين المشرق والمغرب، التي تساعد بكل أريحية على التوجه الوحدوي، متضافرة وقائمة أكثر من الأخرى التي تباعد بين جناحي العالم العربي، المقصود بذلك الإسلام والوطنية. صاغ تماثل وتداخل المفهومين، مشاريع حركات التحرُّر الوطني في المغرب العربي ومصر والسودان مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والثورة العُرَابية والحركة الوطنية المصرية والثورة المهدية في السودان والحركة السنوسية في ليبيا، ثم الدور الذي لعبه علماء الزيتونة في تونس، ورابطة علماء الجزائر والحركة السلفية في المغرب مع علال الفاسي، لأنَّ: ”الإسلام هو الوطنية، والوطنية هي الإسلام” (ص 52).
ناهض القوميون العرب في منطقة الشام، التي كانت في مواجهة تركيا، القومية الطورانية وتركيا الفتاة، وحقَّقوا استقلال الشام، ثم تجسَّدت العروبة من خلال الجمهورية العربية المتحدة خلال الحقبة الناصرية، حينما تجلى وقتها شعار ”وحدة مصر وسوريا،باب الوحدة العربية”.
يطرح حسن حنفي سؤالان، يتعلقان بما يلزمنا القيام به تاريخيا مع انحسار الفكر القومي عربيا وعالميا لصالح التكتلات الإقليمية؟ ثم كذلك حيال جماهير جمال الدين الأفغاني، رشيد رضا، حسن البنا، عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي، الطاهر بن عاشور، علال الفاسي، ومجمل رصيد العالم العربي ضمن امتداداته الإسلامية على مستوى إفريقيا وآسيا، وكل التراث الذي تمثِّله جامعاته الدينية كالأزهر والقرويين والزيتونة ومحمد إقبال وأبو الأعلى المودودي: “إذا كان مفهوم ”الإقليم-القاعدة” قد نجح في رومانسية الوحدة، الوحدة الاندماجية، الذي كان هدفها مقاومة الاستعمار وزعزعة الأنظمة السياسية الرجعية المتحالفة معه فلا تضعفه على الإطلاق أن تبدأ التجمعات الإقليمية في عصر بناء الوحدة ابتداء من إيقاف التشتت والتبعثر والتمسك بالحد الأدني من التنسيق حتى ولو كان على مستوى إيقاف حملات الإعلام والاتهامات المتبادلة،والتخوين العلني للقادة أمام الشعوب. وإنّ تاريخ مصر القديم والحديث ليثبت صحة الإقليم-القاعدة. وحدة مصر والشام أثناء الحروب الصليبية ومحمد علي وعبد الناصر، ووحدة مصر والمغرب العربي أثناء الفاطميين، ووحدة مصر والسودان في التاريخ الحديث، ووحدة مصر وليبيا في زعامة عبد الناصر ووحدة مصر واليمن بالدم والثورة والشهادة. بهذا المفهوم الوحدوي النظري والعلمي” (ص 54 -55) .
بعد موضوعة مفهوم وتاريخ الوحدة العربية،انصب النقاش على مجال آخر لايقل حساسية وإثارة للجدال ضمن أوساط فرقاء الخطاب العربي الحديث والمعاصر،يتعلق الأمر بقضية الليبرالية والمعاني الايجابية التي ينطوي عليها هذا المفهوم بمجرَّد ذكره،أو يعبر عن تطلعاتنا وأشواقنا نحو الحرية والتحرُّر،حتى ولو أدى ذلك إلى النظام الرأسمالي: “فما دامت الحريات العامة مكفولة يمكن بعدها نقد المجتمع الرأسمالي وبيان عيوبه. ودون حريات عامة تتحول النظم الاشتراكية إلى رأسمالية مقنعة وبالتالي نخسر الحسنيين معا الحرية والاشتراكية” (ص 57).
حينما نستحضر فترة استقرار الليبرالية في الفكر الغربي منذ مطلع عصر النهضة، يتبادر إلى الأذهان رفاعة الطهطاوي في مصر، خير الدين في تونس، حيث سعت الليبرالية إلى بناء الدولة وفق النموذج الذي أرست معالمه فلسفة التنوير في الغرب، من خلال المطالبة بالدستور، النظام البرلماني التعدُّدي، حرية الصحافة، منظومة تعليمية حرة، مسؤولية الحكومة أمام البرلمان، حرية الفكر والقول والاعتقاد: ”وقادت الليبرالية معارك عدة لبناء الدولة الحديثة، شق الترع والقنوات، وبناء القناطر والسدود، وتشييد المدارس والجامعات، ونشر التعليم لا فرق بين بنين وبنات،وتكوين الروح الوطنية المستقلة، وقامت الثورات الوطنية مثل ثورة 1919 في مصر باسم الليبرالية. وقامت معارك الشعر الجاهلي، وقادة الفكر،والتصوير الفني في القرآن والإسلام وأصول الحكم في العصر الليبرالي حتى أن الليبرالية أصبحت هي الطابع العام لفكرنا الحديث كله كما قيل عن تاريخنا الفكري الحديث ”الفكر العربي في العصر الليبرالي” (ص 58 ).
غير أنَّ مختلف تلك المنجزات التي راكمها ازدهار الحركة الليبرالية في مصر تحديدا، والتي عرفت أول برلمان في المنطقة عام 1870، انقلبت رأسا على عقب، كي تفرز فيما بعد نقيضها السلبي من خلال القهر، الاغتيال، الفساد الحزبي، التعاون مع القصر، موالاة الغرب، بروز الإقطاع، سيطرة الأقلية على الأغلبية، التهرب من الضرائب، انتشار الأمية، اقتصار التعليم على الأقلية القادرة ماديا، لذلك طرح حسن حنفي تساؤلا حول الانتقال من نجاح الليبرالية إلى إخفاقها: ”فما السبب في النجاح النسبي الأول في بداية الليبرالية وما السبب في فشلها بعد ذلك بالرغم من رصيدها المعنوي لدينا والذي مازال قادرا على جذب المثقفين وتحريك الجماهير بالرغم من إنجازات الثورة العربية الأخيرة في الحرية والاستقلال، والعدالة الاجتماعية، والتنمية القومية؟ يبدو أن السبب في ذلك هو نزع الليبرالية من بيئتها في الثقافة الغربية، ومحاولة زرعها في بيئة أخرى غير مواتية وهو واقعنا الحالي الذي تمتد جذوره إلى تراث آخر” (ص 59). إذن، يكمن فحوى جوابه في انتقال فلسفة النظرية من بيئة إلى أخرى، موصولة جذورها بحمولة تراث مغاير. (يتبع)
_____________________________________________________________
(1) حسن حنفي- محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب، نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990 .