غاستون باشلار: بروميثيوس (1-6)

غاستون باشلار: بروميثيوس (1-6)

   ترجمة: سعيد بوخليط 

       بالكاد تبدو الحاجة إلى القول بأنَّ الاختبار الشعري المجزَّأ منهجيا الذي أوظِّف في إطاره الأساطير والخرافات لم تكن قط الغاية منه تسليط الضوء على  أعمال علم الآثار المستفيضة والدقيقة. أعمال، استعيدت باستمرار من طرف علماء الآثار، تحدِّد الأنساب وتحوُّلات الأساطير على امتداد العصور. تبرز استمرارية التنظيم بين طيات انتقال الأساطير ثم في نفس الوقت الامتثال المتجدِّد إلى الاعتقادات والطقوس. يبدو، أنَّ مؤرِّخي الفكر الأسطوري لم يتوقفوا أبدا عن قياس مفعول تأثيراتها. في المقابل، لا يمكن للتأمُّل الشارد الشعري الانسياب في خضم تاريخ طويل جدا ومعقَّد للغاية، سوى مثلما يتعقَّبه المختصُّون في الأساطير. بوسعي فقط تناول اندفاعات القصيدة سوى عبر شذرات؛ وحدها الأخيرة تندرج ضمن تدابيري.

اعتبرت كل مدرسة اتجاه الشذرة، خلال فترة نوفاليس وكذا فريديريك شليغل، هذا الاتصال الفوري بين صورة من الماضي الأسطوري وكذا التأمُّل الشارد الشعري، أشبه بلقاء جميل.تحلم بالمعرفة. تتوافق على الحقِّ في الحلم بالجماليات الشعرية من خلال معرفة ماضي الاعتقادات. حقيقة، لا توجد اعتقادات لم تغمرها تأملات شاردة.لا يمكننا أن نعيش ثانية الاعتقادات الميتة والمفقودة دون دور للتأمُّل الشارد الشخصي.

أريد أن أحياه ثانية، عبر إضاءة الشعري، انجذاب الشعراء نحو شذرات الأسطورة. هذا الانجذاب، حيث مكمن الجذور؟ من هنا تنطلق الاندفاعات، ما الارتفاع التي تبلغه؟ نحتاج إلى عمل كبير قصد تحديد هذه العلم الديناميكي بالإنسان. لا أقدِّم سوى عناصر جواب، وأنا مبتهج سلفا إذا أمكنني انطلاقا من صورة بروميثيوس الخاصة، المساهمة في شعرية حول الإنسان.

فعلا، يعمل كل إنسان مثقف ضمن المناخ الثقافي الذي نعيشه، حسب طريقته على مَرْكزة رمز لبروميثيوس. غير أنَّه  لا نتبيّن بوضوح وضع هذا الرمز المركزي. كل واحد منا يتصور بروميثيوس بكيفية خاصة. هكذا، صار بروميثيوس تبعا لأشكال متعددة، كلمة عامة، يفهمها الجميع، دون أن نعرف حقيقة طبيعة الكائن الذي نتحسَّسه تحت اسم كبير. بروميثيوس، صورة متناقضة: شخصية قوية، ينطوي على قيمة رمزية (1لكنه تبعثر إلى صور متعدِّدة. رمز، غير أنَّ سوء حظِّ الرموز يتمثل في الآتي: قد تستخدم ضمن تجاوزات سيِّئة، سواء نتيجة المحاكاة الساخرة أو الإشادة.

هل ينبغي التذكير بكاتب معاصر، مشهور مقارنة مع الآخرين، اعتقد بتسليته القارئ عندما اختزل تمرُّد بروميثيوس ضد زيوس إلى صفعة – فعل مجاني- وجَّهها عابر إلى عابر آخر عند زاوية شارع في باريس. يكفي أن يحمل هذان الشخصان أسماء زيوس وبروميثيوس حتى يبرز لنا الكاتب تصوَّره الشخصي عن بروميثيوس(2).

لا أريد طبيعيا وفق هذا المنحى البحث عن تعميق شعري لشذرات الأسطورة الموضوعة تحت إشارة بروميثيوس. قدر فرادتها أحيانا الصور التي تصمِّم أسطورة بروميثيوس، يلزمني تقديم الدليل على انعدام وجود صور مجانية.أحلم قليلا، أدمج بين موضوعات التأمل الشارد وقد أبانت عن تعدُّدٍ مهِمٍّ، أنتهي دائما بتناول بذرة خيال شعري بين طيات صورة مفردة.حينما تخفت صورة،تشتعل أخرى. تشعُّ صورة بفضل سمات مفردة ثم تتماسك ضمن وجود شعري.

سأتناول صورة ذات أساس بروميثيوسي: بروميثيوس، البطل الذي سرق النار من السماء كي يمنحها إلى البشر، وأحاول تبيان مدى إمكانية صدقها حسب تآلف معيَن بين تأملات شاردة شعرية. يدعونا بروميثيوس الشعري نحو جمالية الإنساني.  

تأتي بعد ذلك رؤى أحلام ناجمة عن الاحتكاك الذي يتيح تركيبا بين الصبر وكذا المهارة.ينبغي دائما بلوغ ذلك عبر الانتقال من المعرفة إلى الفعل، من الرأس إلى اليد، ثم المبادرة غاية الاستمرارية. عموما لاتوجد سوى طريقتين آليتين لإعداد النار: الاحتكاك أو التصادم، أكثر تحديدا الاحتكاك الناعم والبطيء ثم الاحتكاك الصلب والسريع. نار النساء، ونار الرجال.

حينما سأنتهي مع الصور الايجابية لإبداع النار، سأقول: لمن أبدع قوة من هذا القبيل، بأنَّ الاستطلاع البشري أضاف قوى أخرى. تغتني أسطورة بروميثيوس من بروميثيوس يعجن الطين إلى قالب إنساني ثم يبثُّ بِنَفَسِهِ الحياة في هذا الطين المؤنْسَنِ.  

لكن ألا توجد صلة بين بروميثيوس الواهب النار وبروميثيوس الذي يضفي بِنَفَسِهِ الحياة على الطين؟ نتمثَّل حميمة وحدة بروميثيوس في صيغته المزدوجة إذا عشنا بكيفية قريبة جدا من نشأة النار داخل ملجأ وسط الغابة ثم الحياة التي ينبغي على نَفَسٍ ناعم تبليغها إلى الفطريات الدعامية. لكن من بوسعه دائما الحلم وهو ينفث نَفَسا هادئا على الشرارات الأولى، وكذا الجمرات التي نصادفها لاحقا تحت الرماد!

أقلِّية زمرة الحالمين الذين جمعوا بين الصورتين الكبيرتين لنار خلقوها وأخرى يعيشونها، أي نموذجي بروميثيوس. لنستحضر حلم جيرار دو نيرفال(3).

تناوُل صراع الإنسان ضد الآلهة، و بروميثيوس ضد زيوس. بروميثيوس يجابه  بروميثيوس- مضاد.التحدي.بوسع المحلِّل النفسي تأويل الصراع ضد زيوس إلى صراع ضد الأب(4). يستعيد ثانية  مسار الشاعرية ”عقدة بروميثيوس”، عالم النار المثير.الارتباط بعالم مفرط.يضعنا تأمُّل بروميثيوس ضمن وضعية فعالة لكنها تحت السيطرة. الإنسان الذي يضيء، ويشعل النار، يشتغل على تضخيم قوى العالم لكن بالتحكُّم فيها ثم ضبطها.

تحدِّد دائما الصور الشعرية البروميثيوسية فِعْلا نفسيا أعلى من طبيعة الإنسان. يمكن وضع جمالية للنفسية، بمعنى فعل نفسي يوطِّد حياة الفكر ويضفي ديناميكية عليها، تحت إشارة بروميثيوس.          

سأعيد قراءة مشهد استعداد الماكر أوديسيوس كي فقأ عين صقلوب :cyclope

أوديسيوس: بعد أن هزمه باشوس (أو ديونيزوس)، نام صقلوب قليلا داخل مأواه فوق غصن الزيتون صقلت حافته بخنجري، الذي تركته وسط النار. عندما لاحظت بأنه  قد اكتوى بالنار تماما، نزعته ثم أصبتُ به بؤرة عين صقلوب، فأذابت حرارة النار بصره. مثل  رجل يسعى إلى تسوية أجزاء سفينة، بحبل مزدوج لتشغيل حركة العمود، هكذا صنعت بعين صقلوب، مركز النور، فقد أدرتُ الجمرة، حتى جَفَّت الحدقة.

رئيس الجوقة: ستكون رغبتي كالصخر و الفولاذ  

 أوديسيوس: هيفايستوس، إله جبل إتنا! انطلق دفعة واحدة، وقد أضرمتُ نارا في بصر جارٍ أحمق، ثم اقذف بالليل القاتم، سبات، ودمِّرْ الآلهة بكل قوتكَ وبغضكَ المتوحِّش!.

وحدها قراءة متمهِّلة تبعث تأملات شاردة: عين واحدة فقط وسط جبهة صقلوب. ألا تبعث عينه تلك نيرانا أشبه بالدوامات؟ يلزم خرق العين في إطار كل استدارتها. دوران يرفع وتيرة مستوى الانتقام. غير كاف مجرد نَحْتِ قضيب شجرة الزيتون بواسطة خنجر، كي يغدو حادّا مثل سَهْمٍ. يعمل أوديسيوس على جعل الخشب صلبا. يصبح الخشب الأخضر خشبا أسود. ينبغي على الخشب أن يصير مثل حديد حارق. يلتهب جوف عين صقلوب بنار عميقة. وبغية إطفاء نار البصر، يقتضي الأمر نارا مضادة.يغدو السلاح الدمويُّ حفرا عبر ثقبه النَّاري. يدرك التأمل الشارد الذي يتوخى إطفاء النار،التأملات الأخرى التي بلورتها.عندما نريد إخماد نار البصر، وفعل ذلك غاية موقدها العميق، سنحيا الصورة المتباينة التي خلقتها النار من خلال الحَفْرِ.تتآلف نشأة النار وموتها بين طيات نفس الصورة.

أيضا، ليس مجرد لقاء بسيط للقوى أن يكون واهب النار نفس المصمِّم الذي يخلق من الطين بشرا. لأنَّه عند تشكيل وقولبة الكائن الحيِّ، تضخُّ فيه قوى شعلة نار. يصادف ثانية حالم كبير هذا النشاط الثنائي بكونه خالق النار والأشكال. لنقرأ صفحة (رواية أوريليا، جوزي كورتي، 1943، ص 44) تظهر اكتشاف جيرار دو نيرفال، وجود مدينة تعمل، بعد أن عاش تجربة ظلام ليل عميق: ولجتُ ورشا يضمُّ عمالا يخلقون بالصلصال حيوانا ضخما يأخذ قالب حيوان اللاّمة (يشبه الجمل في أمريكا الجنوبية)، ثم زوَّدوه بجناحين. بدا الحيوان الوحشي كما لو تخترقه نافورة نارية تحركه شيئا فشيئا، بحيث يهتزُّ، وتنفذ إليه آلاف الشبكات البنفسجية، تشكِّل أوردة وشرايين، وتخصيب المادة الفاترة، إذا جاز القول، فتكتسي غطاء نباتيا لزوائد من ألياف ذات زعانف وكذا خصلات صوف. توقَّفْتُ متأمِّلا هذه التحفة، يظهر بأنها باغتت أسرار الخلق الإلهي. أخبروني بأنَّ كنه ذلك، قوامه نار بدائية تضفي الحياة على الكائنات الأولى.نار،كانت سابقا تنبعث في سطح الأرض،لكن الموارد نضبت”.

هكذا،يتوازى امتلاك الأشكال مع القِوى.يتلوى الطين المنمدَجِ قليلا إلى الأمام كما لو أنجز من تلقاء ذاته عبقرية الصانع.الحياة شعلة نارية،والأخيرة حياة.ترتفع الحياة مع الشعلة، وتصبح أجنحة لحيوان جيرار دو نيرفال.

حين تأمُّل هذه الفقرة، بوسعنا اقتفاء أثر التأمُّل الشارد لدى نيرفال الكامن عند حدود الإلهي والإنساني. بالكاد تخيَّل فعل بروميثيوس الذي يبثُّ في المادة حيوية كي يلج ورشا آخر يشتغل داخله الصائغون على معادن غير معروفة أرضيا: “أحدها أحمر يبدو بأنه يطابق معدن الزنجفر،والثاني أزرق يشبه لازَوَرْد. لم تكن الزخارف سواء مطروقة، أو منحوتة، بل تتشكَّل وتتلوَّن ثم تزهر كنباتات معدنية نخلقها جراء خلطات كيميائية”. ألا يتجلى هذا التأويل كاستحضار لفعل بروميثيوس؟ يسائل جيرار دو نيرفال أحد العمال: ”ألا تخلقوا أيضا بشرا؟”، فأجابني: “يأتي البشر من الأعلى وليس من الأسفل :هل بوسعنا أن نخلق أنفسنا؟”.

يمكننا الحلم بفعل بروميثيوس، إذا عجزنا عن بلورته واقعيا. ينتقل بنا حلم جيرار دو نيرفال نحو وضعية بروميثيوسية بوسعها ويجدر بها مواجهة سَيِّدِ البشر والأشياء. أصرُّ على الوجود، بالتالي أواصل خلق نفسي.

سنلاحظ استلهام حلم جيرار دو نيرفال لفعل بروميثيوس، لكنه لم يذكر الاسم. ربما السطور الأخيرة لروايته ”لاباندورا”، أبرزت لنا سرّ هذا الصمت:

“لم ألتق ثانية لاباندورا سوى خلال السنة الموالية، في الشمال الذي يسوده برد مهم جدا. يا ابن الآلهة، وأب البشر، تصرخ، توقَّف قليلا. مثلما الشأن خلال السنة الماضية، فاليوم ليلة الاحتفال بالسنة الميلادية الجديدة. فأين أخفيتَ نار السماء التي سرقتَها من جوبيتر؟. 

“تحاشيتُ تقديم جواب: يغضبني اسم بروميثيوس دائما بشكل خاص، لأني لازلتُ أحسُّ في خصري المنقار الأبدي للنسر الذي أنقدني منه ألْسِيدْ.آه ياجوبيتر! متى تنهي عذابي؟”.       

هوامش:

Gaston Bachelard :Fragments d une poétique du feu (1988).PP :100-130

(1) حينما رسم غوستاف مورو سنة 1968، لوحة بروميثيوس قوي، معذَّب عند منحدر، فقد حققت نجاحا مهما جدا واستُثمر عمل الرسام كشعار تجاري. وضع الرمز، على علب السردين، مثل إشارة ذات قيمة. سنلاحظ إعادة توظيف نفس اللوحة وكذا العلبة في نفس صفحة المختارات الجميلة لراجنار فون هولتن.

(2) أندري جيد: بروميثيوس مقيَّد خطأ، غاليمار 1899 .

(3) يتعلق بحلم جيرار دو نيرفال في ”أوريليا” (الفصل الأول، الفقرة العاشرة).

(4) التأويل الفرويدي المثير لأسطورة بروميثيوس، حامل النار التي سرقها من الآلهة، تصور أسطورة تيتان البروميثوسي كـ”بطل ثقافي لازال إلهيا”، مثل ”إخفاق لحياة النزوة”. شرط السيطرة على النار، حسب فرويد، التخلِّي عن متعة إخمادها بالتبوُّل: واقعة معلومة جدا، بأنَّ الأسطورة منحت الآلهة الرضا بإشباع كل الرغبات التي يلزم طفل البشر التخلِّي عنها، مثلما نعلم من خلال زنا المحارم. نقول تبعا لمصطلحات تحليلية بأنَّ حياة النزوة، أي الهو، بمثابة إله مخدوع جراء التخلي عن إخماد النار؛ أضحى اشتهاء إنساني بين طيات الأسطورة، امتيازا إلهيا. لكن الألوهية في الأسطورة، لا تملك قط خاصية من خاصيات الأنا الأعلى، بل لازالت تمثِّل حياة النزوة الموهوبة بقوَّة عليا (حامل النار) مارست التخلِّي عن النزوة، وأوضحت مدى إيجابيات وكذا أهمية هذا التنازل عن النزوة صوب غايات ثقافية.ولماذا ستتناول الأسطورة بعد كل شيء، فائدة ثقافية من هذا القبيل، مثل جريمة تنطوي على عقاب؟ نعم، تتيح الأسطورة عبر مختلف تشكُّلاتها، إمكانية إظهار أنَّ امتلاك النار يفترض تخلِّيا عن النزوة، وتعكس بالتالي صراحة استياء الإنسانية الذي تستحضره بنزواتها أمكن اختباره ضدَّ البطل الثقافي”. مع ذلك، أقرَّ فرويد بـ: التعتيم المميِّز لأسطورة بروميثيوس، كما الشأن مع أساطير النار الأخرى، سببه تجلِّي النار عند البدائيين أساسا مثل شيء يماثل الشغف العاشق، نقول: مثل رمز لليبيدو”.

لقد تطلَّع فرويد أكثر نحو إمكانية النفاذ إلى أسرار الأسطورة، من خلال ربطه بين أسطورة بروميثيوس، مختطِف النار، مع أسطورة هيراقليطس، البطل المنتصِر على الأفعى المسماة بالعُدار، بعد أن أجرى ضمن الأسطورة الثانية انقلابا بخصوص المحتوى المتجلي من خلال تداخلات المتعارضَيْنِ: الماء والنار.

يبدو مفيدا الإشارة إلى أنه مع نهاية التحليل الفرويدي فقد أتاحت جرأة التحليل المجال أمام تواضع المعرفة: ”لقد منع بروميثيوس إخماد النار، بينما أجاز هيراقليطس ذلك في حالة حريق يهدِّد بالتحول إلى كارثة. يبدو بأنَّ الأسطورة الثانية تطابق أكثر التفاعل مع حقبة ثقافية معاصرة، فيما يتعلق بحيازة النار. يحدث لدينا انطباع مفاده، بأنه انطلاقا من هنا يمكننا النفاذ سلفا نحو أسرار الأسطورة، لكن حتما فقط عند حدود مسافة قصيرة يصحبنا إحساس اليقين”.   

Visited 11 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي