… مثل تناول لحم الضأن البارد!

… مثل تناول لحم الضأن البارد!

رضا الأعرجي

لم يشغل الكاتب الشهير أوسكار وايلد (1854ـ 1900) وظيفة ثابتة أبداً، مما منحه متسعاً من الوقت لتأليف الكتب التي اشتهر بها. وكثيراً ما كان يردد: “الترفيه هدف الإنسان”. وقد شرع في إثبات ذلك من خلال رفضه العمل باستثناء فترة وجيزة من حياته استمرت عامين كمحرر في مجلة نسائية. وليس من المستغرب، أن تركز العديد من أعماله على موضوع الكسل

قال في إحدى المناسبات: “كنت أعمل على تدقيق إحدى قصائدي كل صباح، وأخرجت فاصلة، وفي فترة ما بعد الظهر أعدتها مرة أخرى“.

وقد وبخ ذات مرة متسولاً أخبره أنه ليس لديه عمل ليقوم به ولا خبز ليأكله.

عمل! صاح أوسكار. لماذا تريد أن تعمل؟ والخبز! لماذا يجب أن تأكل الخبز؟

لم يبد أحد انزعاجاً من تراخي وايلد طالما ظل من أكثر رفاق العشاء جاذبية بسبب غرابة أطواره، وصراحته، وباعتباره ابناً لشاعرة أيرلندية وزوجها جراح الأذن والعين ويليام الذي كان ماهراً جداً في مهنته لدرجة أن نوعاً من العمليات الجراحية سُميت باسمه، ولا تزال تحمله حتى اليوم.

مع ذلك، وخارج غرفة العمليات، كان اسم ويليام وايلد محل جدل بعدما رفعت إحدى مريضاته دعوى قضائية تتهمه فيها باغتصابها وهي تحت التخدير. خسر القضية في المحكمة، وتحولت الخسارة إلى نذير شؤم يحوم حول مستقبل الشاب أوسكار.

في المدرسة، كان أوسكار مختلفاً بعض الشيء. لقد كره الرياضات وبدلاً منها طور توجهاً للديكور الداخلي فغطى جدران غرفته الجامعية بريش الطاووس والزنابق (الزهور المفضلة لديه) والصيني الأزرق.

ربما كان أوسكار من أوائل الضحايا الذين يطلق عليهم اليوم “المثليون”. وتقول الحكاية أن زملاءه الطلاب دمروا غرفة سكنه، وكادوا يغرقونه في نهر شيرويل، بسبب سلوك “غريب” ربما شمل نشاطاً مثلياً. لكن من غير الواضح كيف أدرك أوسكار هويته الجنسية في ذلك الوقت.

في عام 1884، تزوج أوسكار من كونستانس لويد، وقد قضى وقتاً طويلاً في العمل لتصميم فستان الزفاف بنفسه. بعد وقت قصير من لقائه بحبيبه روبرت روس “روبي” عام 1886، أبلغ أوسكار زوجته كونستانس أنه لم يعد بإمكانه ممارسة الحب معها خوفاً من إصابتها بمرض الزهري.

بحلول ذلك الوقت الذي بدأ فيه تأليف المسرحيات التي رسخت سمعته في تسعينيات القرن التاسع عشر، كان أوسكار في أفضل حالاته وفقاً لمعايير الحياة السعيدة كما نراها في السينما. وكان يجد متعته بالتواصل مع أبناء الطبقة العاملة، في لقاءات شبهها بـ “الوليمة مع الفهود”، لكنه شكل أيضاً عدداً من العلاقات طويلة الأمد والأكثر مصيرية خصوصاً مع اللورد الفريد دوغلاس، ابن المركيز كوينزبري.

كان كوينزبري كارهاً للمثليين (قبل وجود مثل هذه الكلمة) فجن جنونه، حين علم بأمر أوسكار مع ابنه البالغ من العمر 22 عاماً. هدد أوسكار برمي الفضلات في العرض الذي سيقام ليلة افتتاح مسرحيته «أهمية أن تكون جاداً» وترك له رسالة فظة تنعته بأقبح النعوت. ولكن بتحريض من ابنه اللورد الفريد، رفع أوسكار دعوى قضائية ضده بتهمة التشهير. خسر أوسكار الدعوى، وساءت الأمور بعد أن قام كوينزبري برفع دعوى مضادة متهماً إياه بارتكاب فاحشة فادحة.

كشف محقق خاص عن دليل على سلوك وايلد المثلي، وتم استخدام كتابات المؤلف ورسائله الشخصية كوثائق ضده. أدين أوسكار، وحكم عليه بالسجن مدة عامين مع الأشغال الشاقة، وأودع سجن ردنج.

وضعت هذه الفضيحة حداً لمسيرة أوسكار في الكتابة، وجعلته شخصية غير مرغوب فيها في الدوائر الاجتماعية الراقية التي كان يتنقل بينها دون جهد.

لقد تركت تجربة السجن أوسكار رجلاً محطماً، روحياً وجسدياً. هاجر إلى فرنسا مفلساً، واتخذ الاسم المستعار “سيباستيان ميلموث”، وعاش في كرم الأصدقاء.

كان قد طرد من سجن ردنج، وأجبر على قضاء بقية محكوميته في خدمة الكنيسة، وهناك سقط من سريره، وأصيب بكسور في جمجمته. وبعد إطلاق سراحه، خضع لعملية جراحية لتخفيف الألم المزمن الناتج عن ذلك الحادث.

أجرى الطبيب الفرنسي عملية من النوع الذي ابتكره والده لكن حدث خطأ ما، وأصيب أوسكار بحالة قاتلة من التهاب السحايا الدماغي أودت بحياته في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1900.

يثار السؤال دائماً: ما هو القاسم المشترك بين أوسكار وايلد وإرنست همنغواي؟

لا توجد مشتركات كثيرة بالطبع، وبما يتجاوز حالة “التخنث” حيث أمضى الرجلان معظم طفولتهما يرتديان ملابس الفتيات بناءً على طلب والدتهما. كانت والدة أوسكار، الليدي جين وايلد، الشاعرة غريبة الأطوار، تحب أن ترتدي أزياء غريبة، يعلو كل منها غطاء رأس مرصع بالجواهر والريش. وعلى ما يبدو، كانت متعطشة لرفيقة تلبيس الملابس، وشعرت أنها قد فاتها عدم ولادة فتاة. وللتعويض، تظاهرت ببساطة بأن أوسكار الصغير هو فتاة، وأخفته خلف سلسلة من الفساتين الفيكتورية المكشكشة.

ولكن قبل أن نقفز إلى الاستنتاجات، ليس هناك صلة بين هذا السلوك والمثلية، على الرغم من أنه قد يفسر الكثير عن حقيقة همنغواي الرجولية أيضاً.

واجه أوسكار بعض المنافسة الشديدة على طلب يد فلورنس بالكومب، خطيبته الأولى. وكان برام ستوكر، مؤلف رواية “دراكولا”، ضيفاً منتظم الحضور في منزل والديه، وأحد أعضاء صالون والدته الأدبي. في عام 1878 تغلب ستوكر على وايلد وفاز بفلورنسا.

من الواضح أنها رأت الزواج بلا حب من أهم خبير بمصاصي الدماء في العالم أفضل من قضاء بقية حياتها في النوم بجوار رجل مثلي يقل عنه وسامة وجاذبية.

ربما كان أوسكار يتمتع بذكاء أسطوري، وبقدرة على إطلاق الطرائف والنكات، لكنه لم يكن وسيماً. كانت أفظع سماته هي أسنانه النتنة المسودة نتيجة علاجه بالزئبق للتخفيف من أعراض مرض الزهري الذي أصيب به في أواخر مرحلة المراهقة. وكان طوال حياته، يتحدث بيد واحدة ويغطي فمه بيده الأخرى خشية أن تثير روائحه الفاسدة اشمئزاز شريكه في المحادثة.

في 1881 قام أوسكار بزيارة لأمريكا استغرقت قرابة العام قضى معظمها في الغرب الأمريكي، وكان خلال جولاته يرتدي أزياء رعاة البقر. وأثناء الزيارة طلب لقاء الشاعر الذي لم يخف ميوله المثلية والت ويتمان “لينهل من حكمة الرجل العجوز”. وعند اللقاء في منزل وايتمان في كامدن، نيو جيرسي، أخبر الكاتب الأيرلندي الشاعر الأمريكي عن مدى حبه لـ “أوراق العشب” التي كانت والدته تقرأ له مقتطفات منه عندما كان طفلاً.

شرب الاِثنان بعضاً من نبيذ البلسان، وتناولا الأطعمة الساخنة، كما تحدثا عن حالة الشعر والشعراء قبل أن يتقاسما بحماس قبلة ظل أوسكار يفاخر بها دائماً: “قبلة والت ويتمان لا تزال على شفتي“.

يعتبر العديد من النقاد أن رواية أوسكار وايلد “صورة دوريان جراي” التي تدور حول رجل فاسق يستخدم وسائل خارقة للطبيعة لتحدي الشيخوخة، شبه سيرة ذاتية. فمن المؤكد أن أوسكار بذل قصارى جهده لإخفاء شعره الأشيب. وتسببت الأصباغ التي استخدمها لتلوين خصلاته في حدوث أمراض جلدية خطيرة تطورت إلى حكة شديدة في وجهه وذراعيه وصدره.

في باريس، حاول أوسكار إعادة تأهيل نفسه ليظهر أمام الشعب البريطاني على قدر من اللياقة حتى ينسى محاكمته الشهيرة. قام هو وصديقه الشاعر إرنست داوسون بزيارة بيت دعارة. أراد داوسون تشجيع أوسكار على خوض تجربة جنسية مغايرة يمكن لها إنقاذ سمعته.

قال أوسكار يصف هذه التجربة: “كانت مثل تناول لحم الضأن البارد“.

Visited 12 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

رضا الأعرجي

صحفي وكاتب عراقي