نزهة على مياه نهر السين: إبحار في قلب تاريخ باريس وتراثها الثقافي

نزهة على مياه نهر السين: إبحار في قلب تاريخ باريس وتراثها الثقافي

علي بنساعود

       التنزه على صفحة نهر السين تجربة لا بد منها لأي شخص يزور باريس، إذ أن ركوب القوارب يوفر منظورا فريدا للعاصمة الفرنسية، ويسمح للزوار باكتشافها أو إعادة اكتشافها من زوايا مختلفة، والاستمتاع بمشاهدة أجمل معالمها، والإبحار في قلب تاريخها وتراثها الثقافي، سيما أنه ليس هناك شيء أكثر رومانسية من ركوب قارب جميل يُقِلُّك وأنت تستمتع بالهندسة المعمارية الجميلة حولك، ومياه السين تجري تحتك، والسماء الصافية فوقك…

 ضفتان في القائمة…

    يُعد نهر السين مركزا للحياة والثقافة بباريس، ونقطة جذب في هذه العاصمة النابضة بالحياة، يعكس هويتها الفرنسية، خصوصا أن على ضفافه تربض معظم معالم المدينة، وعليها تنتشر المقاهي التاريخية، والشوارع الرائعة والأحياء الجذابة، وبائعو الكتب التقليديين… كما أن على هذه الضفاف نجد مساكن قطنها المشاهير أمثال: كلود مونيه وفنسنت فان جوخ ونابليون بونابرت… وقد تكون هذه المعطيات مجتمعة هي التي دفعت اليونيسكو إلى إضافة ضفتيه إلى قائمة التراث العالمي.

 
 مشاهد من رحلة نهر السين
مشاهد من رحلة نهر السين

 استعدادا للنزهة

    كان الجو صحوا ذات يوم من نونبر الماضي، وكنا حجزنا تذاكرنا من موقع على الإنترنت بمبلغ 15 أورو للفرد الواحد، لذلك، قصدنا القارب دون أن نكون مضطرين للوقوف في الطابور الطويييل مع من لم يحجزوا تذاكرهم، سيما أن الفترة كانت فترة عطلة مدرسيةǃ

على القارب، كان أغلب شركائنا في الرحلة آسيويين، وكنا جميعا مستعدين للتجول عبر مجموعة من المعالم الأثرية لهذه المدينة.

من سفح البرج

    بدأت مغامرتنا بالانطلاق من سفح برج إيفل، رمز المدينة وأهم مزاراتها، بعدما التقطنا بعض الصور البانورامية الجميلة لهذا النصب التذكاري الشهير، الذي يلقي بظلاله على المدينة، حيث تتيح مشاهدته من النهر الاستمتاع بجماليته من زوايا مختلفة، غير تلك التي ألفناها، في المرات السابقة، حين كنا نراه من الأسفل، من “منتزه مارس” بين جحافل السياح المتكدسين! وحين كنا نزدحم معهم لنرتقي إلى قمته عبر المصعد لنستمتع بالمدينة ومناظرها الخلابة… وكان منظر باريس من أعلى يبدو لنا مذهلا، إذ تظهر أهم معالم المدينة ومفارق الطرق والتصميم الهندسي البديع لهذه العاصمة الخلابة…

 الحج إلى نوتردام

    انزلق قاربنا وسار بنا نتأمل كاتدرائية نوتردام الشهيرة التي لا يكتمل الحج دون زيارتها، فوقفنا نستمتع بهيبتها وهندستها المعمارية الفخمة، رغم عدم اكتمال شفائها من الحريق الذي كان شب فيها شهر أبريل من سنة 2019، وبفخامة البناء في متحف أورنجري، ومتحف أورسيه…

أورسيه: هوية معمارية فريدة

    من القارب، أثارنا “متحف أورسيه” الرابض على الضفاف، وهو بحق قصر مهيب للفنون الجميلة، ذو هوية معمارية فريدة باعتباره كان محطة للقطار تحول سنة 1986 إلى متحف شهير للانطباعية وما بعدها، يقدم خدماته بشكل أساسي للفن الفرنسي. يضم منحوتات وفنونا زخرفية وهياكل معمارية، كما يعرض أعمالا لفنانين مشهورين، مثل: رينوار وسيزان وغوغان ودالي ومونيه وفان جوخ وغيرهم. كما يعرض أفلاما وحفلات موسيقية…

الجزيرة السفينةǃ

    مررنا أيضا، خلال هذه النزهة، على “جزيرة المدينة” وهي جزيرة على شكل سفينة، لا تشكل المركز الجغرافي أو التاريخي للمدينة فحسب، بل أيضا مركزا للسياحة والثقافة في باريس. فهي موطن كاتدرائية نوتردام، وسانت شابيل، وقصر العدل وبصرف النظر عن آثارها الثمينة، تعد هذه الجزيرة مركزًا للحرفيين المتجولين.

 متحف بتصميم هرمي

    كما مررنا قبالة “متحف اللوفر” الرائع، الذي يعتبر، راهنا، أكبر متاحف العالم، فاستوقفنا التصميم الهرمي الجميل لمدخله، وأخبرنا المرشد أنه كان في الأصل حصنا من العصور الوسطى، وأنه يضم أكثر من 5000 عمل فني منها لوحة الموناليزا وفينوس دي ميلو، وتجاور المتحف مبان ذات طراز كلاسيكي تضفي عليه المزيد من الجمال.

صور تنعش الذاكرة

    كان قاربنا ما يزال يزحف على صفحة السين ومياهه المتدفقة ببطء، والمرشد الصوتي متعدد اللغات يتقاسم معنا معلوماته الغنية حول معالم باريس، وهي معلومات استمعتُ إليها وأنا مرتخ على كرسي، أتأمل تارة وأسترجع ثانية وأتخيل تارااات، وقد استغرق الأمر أزيد من ساعة، وهي المدة التي استغرقتها الرحلة، التقطت خلالها بعض الصور أُنْعِش بها ذكريات مغامرتي هذه مع أجمل المعالم المطلة على نهر السين… غير أن ما كان يزعجني هو أن أغلب من كانوا معنا على القارب لم يكونوا يلزمون مقاعدهم، بل ظلوا واقفين منبهرين بجمال ما يرونه، لا يفوتون فرصة لاقتناص مناظر ولحظات لا تُنسى، وترسيخ ذكريات دائمة لزيارتهم هذه، غير مبالين بمن هم خلفهم، كما كانوا يتكلمون بأصوات مرتفعةǃ وهو ما عكر لحظات تأملنا، وحال دوننا والتقاط بعض الصور في الوقت المناسب، ومن الزوايا المرغوب فيهاǃ

⁎⁎⁎⁎    

الجسور: قرون من الإبداع

    بالموازاة مع استمتاعنا بمشاهدة معالم باريس وكنوزها، كنا مذهولين بالجسور الكثيرة لهذه المدينة العابقة بالتاريخ وبقرون من الإبداع الإنساني، مبهورين بجمالها، بعضها غارق في ثنايا الهدوء والراحة، وبعضها الآخر سبق أن شاهدناه في أفلام سينمائية…

حوريات الإسكندر

    ومعلوم أن بباريس 37 جسرًا معلقًا فوق نهر السين، شُيدت خلال فترات مختلفة، ومن هذه الجسور يمكن أن نشير إلى جسر “الإسكندر الثالث” وهو أعجوبة معمارية، لأنه عمل فني ونصب تذكاري، تحيط به أعمدة بديعة تدعم التماثيل البرونزية (“حورية السين” و”حورية نيفا” المزخرفتان في وسط الجسر). يقدم مشاهد خلابة ستحتفظ بها الذاكرة، ويعطي رؤية واضحة لنهر السين وبرج إيفل قبالة التماثيل الذهبية والبرونزية والنحاسية للحوريات.

وهذا الجسر هو الأكثر اشعاعًا، يقبل عليه السياح خصوصاً عند المغيب حين تُنار الأضواء… فيشع بزخارف مظللة بأوراق مذهبة، تضيؤه العديد من الشمعدانات، وتسلط نورها على تفاصيله المعمارية الفخمة مما يعطيه منحى جذابًا للغاية... لذلك، لا غرابة أن يعتبره البعض أحد أجمل الجسور في العالمǃ

حلم العشاق المجهض

    مر قاربنا أيضا أسفل “جسر الفنون”، أحد أشهر جسور باريس وأكثرها رمزية، وهو يربط بين معهد فرنسا ومتحف اللوفر، وكان برز كأول جسر معدني للمشاة، له 9 أقواس فولاذية، ومصنف كنصب تاريخي، وأحد المزارات الأساسية التي يجب التوجه إليها في باريس…

وهو من الجسور الجميلة، وضاعف من جماله أنه تحول إلى جسر للعشاق والمحبين، الذين يفدون إليه من كل حدب وصوب، ليضعوا على سياجه أقفالا من حديد، مسطرين مع كل قفل يغلق وترمى مفاتيحه في مياه النهر التي تجري أسفله، كتابا عذبا عن حلم قلبين عشيقين في حب أبدي.

والمؤسف هو أن هذا الجسر فقد كثيرا من شعبيته بعد أن أصبح وزن الأقفال المتراكمة ثقيلا يهدد الحواجز الأمنية بالسقوط. لذلك، قامت بلدية المدينة بإزالة الأقفال وحواجز الحماية، واستبدلتها بألواح زجاجية كاملة الأمانǃ

وشخصيا، كتبت أكثر من مرة عن هذا الجسر، وأكثر من ذلك، وقفت وبعض أحِبَّتِي عليه، لنستمتع بإطلالة خلابة على الأفق، وعلى “الجسر الجديد” المحاذي له، إضافة إلى “جزيرة المدينة” وضفتي النهر. وقد ألهم هذا الجسر وما زال فنانين من جميع أنحاء العالم.

“جديد” غارق في التاريخ

    لفت انتباهنا أيضا “الجسر الجديد”، ورغم أن اسمه (الجديد) فهو في الحقيقة غارق في التاريخ، لأنه الأقدم على نهر السين، يعود إنشاؤه إلى القرن 16، وشهد عدة مشاريع تطوير وإعادة بناء في العصور اللاحقة، لكنه ما زال يحتفظ بطابعه الروماني وتماثيله العريقة. وهو جسر محبب جدا لدى الزوار، يمكن عبره التقاط صور رائعة من الضفتين خصوصا ل”جزيرة المدينة”، وهو معلمة سياحية شهيرة ومزدحمة لكثرة مناطق الجذب قربها…

عجلة باريس الكبرى

    من ممرنا المائي، بدت لنا أيضا “العجلة الكبرى لباريس”، والتي مستقرها بحديقة التويلري، تم إحداثها لأول مرة سنة 1985، وكنت ركبتها مرة، فأتاحت لي كما لغيري من الزوار تجربة ممتعة، إذ بالإضافة إلى المناظر الطبيعية الرائعة للحديقة وأجوائها الهادئة، أتاحت لنا هذه العجلة فرصة رؤية مدينة النور من الأعلى، سيما أن قطرها يبلغ 96 مترا، فاستمتعنا بمناظر بانورامية خلابة لمدينة الأنوار، بما في ذلك منظر نهر السين وبرج إيفل، ومتحف اللوفر والمسلة والشانزيليزيه وليزانفليد وبذلك غنمنا فرصة فريدة لا تتيحها غيرها من معالم المدينة…

ملاذ العشاق

     الرحلة عبر القوارب تجربة بمثابة حلم للعشاق مع توائم أرواحهم في الهواء الطلق، خصوصا أن باريس تعتبر العاصمة الأكثر رومانسية في العالم! لثقافتها ومعالمها التي تجعل منها إحدى أجمل مدن العالم، خصوصا أن نهر السين نفسه مسرح للحظات الرومانسية، سواء كنا نستمتع بالمنظر من على جسوره، أو نتنزه على طول أرصفته أو نبحر على طول ممره المائي…

ذاكرة الألعاب الأولمبية

    وقاربنا يتهادى على صفحة السين، تذكرت الألعاب الأولمبية الأخيرة (2024) بباريس التي، وللمرة الأولى في التاريخ، أقيم حفل افتتاحها خارج الملعب، حيث احتضن النهر فعاليات الحفل، فصار السين “نجمه”، ومر المشاركون أيضا أسفل الجسور، أمام المعالم الأثرية للمدينة… بحيث انطلق موكبهم من جسر “أوسترليتز” وشق طريقه في النهر مرورا بالعديد من الجسور والمنشآت الرياضية والملعب الذي استضاف النشاطات الرياضية، ليتوقف في ساحة “تروكاديرو” أمام البرج الشهير...

مكتبة يعبرها النهر

    بعد ساعة وبضع دقائق، انتهت الرحلة، وكان ريح بارد بدأ يهب، وكنت استعددت له بارتداء ملابس دافئة رغم أن الجو كان معتدلا، لأنني كنت أتحسب تقلب الجو هذا، وحسنا فعلت… فنزلنا حاملين معنا ذكرياتنا عن الرحلة، وعن السين وباريس وجمالها الساحر، وألبوم صور…

لحظتها، استرجعت سيرة الفيلسوف الألماني “والتر بنيامين” التي جاء فيها: “باريس غرفة قراءة كبيرة في مكتبة يعبرها نهر السين”. كما تذكرت قولة بلزاك في رواية “الأب جوريو”: “من لم يزر نهر السين، لا يعرف شيئًا عن حياة الإنسان!

الحلم

    ونحن عائدون إلى المرفأ، مرت قربنا سفينة، ركابها يتنزهون وهم، حول موائد، يأكلون ويشربون ويستمتعون، غَبِطْتُهُمْ وبدأت أحلم بتجربة أخوضها في الزيارة المقبلة، ليلا، فأتعشى بدوري، وأشرب وأنا أستمتع بالمغامرة، بعد أن تتحول إلى تجربة ليلية مبهرة، نستكشف فيها أضواء المدينة المتلألئة ومعالمها الشهيرة وسحر نهر السين تحت النجوم والأضواء…

Visited 72 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

علي بنساعود

كاتب مغربي