معارك الشمال… صراع الآخرين على سوريا بالدم السوري
بسام يوسف
ما أن يرتفع صوت المعارك مرة أخرى حتى يسارع السوريون لاستعادة الخطاب المنفعل، الذي رافقهم طيلة سنوات الثورة السورية الأربعة عشر، خطاب عاطفي يؤججه حلمهم الكبير في أن تنتهي عقود الاستبداد المتوحش، الذي عاشوا تحت وطأته طيلة حكم عائلة الأسد، وكذلك توقهم للخلاص من واقع بالغ القسوة يعيشونه في معظم مناطق تواجدهم، داخل سوريا وخارجها، وفي غمرة الحلم واليأس يندفعون متجاهلين مسيرة طويلة من الخذلانات المرّة التي تجرعوها من الجميع.
ثمة صعوبة بالغة في أن تتحدث بمنطق بارد في حضرة الوجع الممتد بلا نهاية، رغم أنه من الضروري أن تكون كذلك، فالخذلان مرٌّ، وانتكاسة الحلم مرات ومرات تزيد قسوته في كل مرة، وتجنب الخيبات أجدى وأهون من عيش الأمل لفترة قصيرة يعقبها إحباط شديد، والأقسى من كل هذا أن ترى الآخرين يتاجرون بقهرك وحلمك ووجعك، ليس من أجل أن ينصفوك، بل من أجل أن يحققوا مصالحهم على أشلاء حلمك وحقك.
رغم أنه لا يمكن فصل ما يحدث في الشمال الغربي لسوريا عن ما يجري عموما في المنطقة، في غزة ولبنان والعراق واليمن، وفي كل ساحات هذه المنطقة التي تتصارع فيها أطراف النفوذ المتعددة، إلا أن الثابت الوحيد في كل هذه الصراعات المتعددة أنها معارك مصالح الآخرين على أرض ليست لهم، وأن أدواتهم في هذه الصراعات هم أصحاب الأرض.
من اتخذ قرار معركة شمال غرب سوريا ليست الفصائل التي تخوضها، ومن أراد لها أن تشتعل اليوم لم يشعلها بدلالة مصلحة سوريا وشعبها، أو رداً على العدوان المتواصل لقوات “النظام الأسدي” ومن يحالفه على السوريين، وليس لوقف القهر وذلّ التشرّد والعيش في مخيمات البؤس، كما أُعلن، وكما تقول الشعارات المرفوعة؛ من أعطى الضوء الأخضر لها هي الجهات التي تتبع لها هذه الفصائل، وبالتالي فإن من يحدد هدفها، وحجمها، ومسارها، ومتى يجب أن تتوقف، ولمن ستجيّر نتائجها، هي هذه الجهات، ومن هنا تأتي ضرورة التأنّي في قراءتها، وضرورة معرفة هدف وغاية هذه الجهات، وإلى ما ترمي إليه من إشعالها.
لا يختلف النظام الأسدي في علاقته بالجهات التي يتبع لها، عن علاقة الفصائل المسلحة بالجهات التي تتبع لها، كلاهما يتصرف بأوامر وتعليمات هذه الجهات، لكن ثمة فارق مهم هنا لا يجوز إغفاله وهو أن مصلحة السوريين وسوريا قد تتقاطع إلى حد ما مع مصالح الجهات التي تدير الفصائل المسلحة، بينما تتعارض بشكل كامل مع مصلحة النظام ومصلحة مشغّليه، والسؤال المرّ الذي نواجهه هنا، وواجهناه مراراً في الكثير من المواقف السابقة، وهو ماذا سيحدث عندما تتفارق مصالح سوريا والسوريين عن مصالح الجهات التي تتحكم بقرار المعركة، وكيف ستتصرف هذه الفصائل، وهل هي قادرة في لحظة التفارق على اختيار مايناسبها حتى لو تعارض مع مصلحة داعمها؟
السؤال الثاني الذي لا يقلُّ مرارة عن السؤال السابق هو ألم يدرك حملة السلاح وقادتهم في جهة “المعارضة” أن إضفاء الصبغة الدينية أو القومية أو الطائفية على معاركهم هو كارثة حقيقية على الثورة، وعلى سوريا، وعليهم، وأن ما ينشر من مقاطع صادمة وممارسات تقشعر لها الأبدان هو تشويه متعمّد لحلم السوريين ولحقهم المشروع، ولصيغة عيشهم، وأنه يُستثمر من قبل النظام ومشغليه. ألا تكفي عشر سنوات من الفشل كي تدفعهم لإعادة النظر بالأساليب التي استعملت وكانت مدمرة؟!
تحتاج الإجابة عن الأسئلة السابقة جرأة، وإحساساً عالياً بالمسؤولية، وعقلاً بارداً، ليس من قِبَل حملة السلاح وقادتهم الميدانيين فقط، بل من مجمل السوريين المشتغلين في الشأن العام السوري، فلم يعد مقبولاً بعد كل ما جرى أن ننساق في معارك الآخرين دون أن نتبصّر مصلحتنا كسوريين، ولم يعد من المقبول أيضاً أن نعود لاستعمال الرايات والشعارات التي تخيف السوريين، وتفرّقهم، وتستغلها أطراف كثيرة لتشويه السوريين وثورتهم، ولطمس حقوقهم، وتُلحق ضرراً بالغاً بكل السوريين وفي مقدمتهم حملتها والقائلين بها.
بالعودة إلى ما يدور في شمال وغرب حلب فهذه المعركة التي تستهدف ميدانياً الوصول إلى حلب، وربما السيطرة عليها، تتم بضوء أخضر متعدد الأطراف، فهي مصلحة تركية أولاً، سيما وأن تركيا حاولت مراراً أن تفتح مساراً سياسياً بلقاء يجمع الرئيس التركي مع بشار الأسد لكنها لم تنجح في ذلك رغم أن “الروس” أيدوا هذا اللقاء، والسبب في امتناع الجانب السوري عن المضي في هذا التقارب يعود للفيتو الذي رفعته إيران في وجه بشار الأسد. وهو مصلحة إسرائيلية، ثانياً خصوصاً وأن الميليشيات الإيرانية التي تتبع الحرس الثوري الإيراني هي التي تشرف على وجود إيران في حلب وريفها، وبالتالي فإن إنهاء الوجود الإيراني في حلب هو في سياق إنهاء وجود إيران في كل سوريا، وهو أيضاً مصلحة أمريكية، كونها تربك الروس وتضعهم أمام خيارات المواجهة مع الفصائل المسلحة، أو الانسحاب وإضعاف حليفها.
تريد تركيا من هذه المعركة أن تحقق ثلاثة أهداف أساسية، أولها إرغام بشار الأسد على التطبيع معها بالشروط التي تريدها، وثانيها إنهاء النفوذ الإيراني في ما تعتبره جزء من مجالها الجيوسياسي، أي حلب وريفها الشمالي والغربي، وثالثها امتلاك الأوراق السياسية، والمواقع الجغرافية على الأرض التي تساعدها في إنهاء التواجد العسكري للقوات التي تتبع لحزب العمال الكردستاني، وفي إقامة منطقة حدودية آمنة (كما تدّعي) على كامل حدودها البرية مع سوريا. كما قلنا في المقدمة لا يمكن لنا أن نفصل ما يجري الآن على الأرض السورية من المعركة الدولية التي تجري في المنطقة، والترتيبات التي تستعد لها كل الأطراف على الأرض السورية تأتي في سياق التحضير للمعركة القادمة في سوريا، فبعد الانتهاء من “حماس” و”حزب الله” ستكون سوريا والعراق هي الساحات القادمة، والأخطر في كل هذه المعركة الكبرى أن الدم السوري سيكون أداة الآخرين لتحقيق مصالحهم ضد المصالح السورية، وإن كان من المحتم علينا أن نكون جزءاً من هذه المعركة فإن الحد الأدنى من العقلانية يحتم علينا أن نبحث فيها عن مصالحنا كشعب وكدولة.
ما يجري اليوم في حلب وريفها هو محاولة أطراف خارجية لامتلاك أوراق تفاوض قوية ستستعمل في تفاوض قادم يرسم مصير سوريا، فهل نستطيع كسوريين أن نكون ورقة لمصلحة سوريا ووحدتها ومستقبل شعبها، وليس ورقة بيد الآخرين ولخدمة مصالحهم؟