هي فوضى مهرجانية؟
نجيب طلال
عـتبة الفـوضى:
مبدئيا تستند هاته الرؤية، بناء على مجريات الدورة (24) من المهرجان الوطني للمسرح (الاحترافي) ومن خلالها سنمارس العبث، لأنها حملت “ميتا عـبث” في عـدة مستويات، تدفع بالمكتسب المهرجاني للهاوية والاندحار، كبقية التظاهرات التي انهارت واضمحلت، وكانت في واقع الأمر مكاسب طموحة للمسرحيين وللمسرح في المغرب، فلهذا فلامناص للاستماع لبعضنا البعض، بعيدا عن الذاتية والإسقاطات المرضية والغايات ذات الطبيعة الانتهازية والوصولية، لأن الآفات في الغايات وبالتالي فالحوار والتحاور أمسى ضرورة ملحة (الآن) أمام هول ما ينتجه المهرجان الوطني من هنات وسلبيات وبـدع تقض مضجع المسرح قبل المسرحيين؟ وبناء على هذا فالحوار ليس مجرد ملفوظ، نلوكه بمنطق السفسطائيين/ الديماغوجيين. بقدر ما هو نظام للحياة والفكر والتواصل الإنساني، لتبديد الفوضى التي تمرر عبر المسرح كقناة مؤثرة بامتياز. مؤثر في حياة وسلوك الممارسين، وكذا في فكر وذهنية المتلقي/ المشاهد، وهذا يتفاعل مع مؤثرات أخرى تتقاطع في بوثقة المسرح، كوجه من أوجه الحضارة، ومنبر دعائي لتمرير أي فعل أو خطاب إيديولوجي/ سياسي؛ مغلف بالفـن وبفنية إبداعية. لأن من بين الركائز الثلاث في المسرح [الإيديولوجيا] سواء قصدها العرض المسرحي في تركيبته العامة أم لا؟ لذا فتيار “الفن للفن” رؤية باطلة من منطلق دعاتها (البرناسية)* بأن الفن غاية في ذاته لا وسيلة للتعبير عن الذات. لهذا فالفن مهما وقع الإختلاف (البيزنطي) حوله؟ يبقى وسيلة أساس لبلوغ “غاية “مخطط لها سواء من لدن المسؤولين عن القطاع الفني (أم) الممارسين له. وبالتالي فنيل مسرحية (فوضى) الجائزة الكبرى، تمريرة ذكية من حيث لا تدري (لجنة / التحكيم)؟ لكن (لجنة / الاختيار) تدري من خلال الخيوط المتشابكة في صناعة مستقبل المسرح لأن نسخة المهرجان في دورته (24) هي بمثابة ترسيخ لعتبة الفوضى، وإن سبقته البوادر في الدورة (22) بصيغة مختلفة، لأنه لا يمكـن أن تأتي الأحْـداث والمعطيات مصادفة هكذا، وإن كانت تبدو عبثية. هنالك أهـداف متوارية تهدف إليها الجهات، لإخفاء شرعنة ما وراء [الفوضى الخلاقة]! فالمهرجان وإن كان ذو طابع مسرحي/ فني؛ فصبغته إدارية / استراتيجية. فمن خلاله يمكن تحقيق تلك الفوضى! فلنؤمن بهاته الحقائق، ولا نحاول أن نتنطع في تصوراتنا / أفكارنا.
شطحات فوضوية:
ففي ظل حرب المعلوميات، وانفجار فيض من المعلومات، والتطور التقني لما فوق الرقمي، من الصعب جدا القبض على كنه ما يحاك في البنيات المجتمعية (العربية) عموما، وبالتالي ففهمنا للفوضى ينحصر تحديدا في عملية التدمير والهدم والعبثية، ولكن بالعكس ففي نظر مهندسيها: “فها هي الفوضى لديهم تصبح خلقا جديدا وجميلا، أفضل مما سبق، وإن كان عبر الفوضى والعبث… وهذا المصطلح ينشط في حيز العولمة الرأسمالية، وصعـود الليبرالية الجديدة ، وهو يجمع بين متناقضين متقاطعين (فوضى وخلاقة) (1) فهي في الأصل مصطلح سياسي، ذو طابع إيديولوجي، يهدف إلى خلق حالة من الاضطراب في قطر (ما) من خلال توظيف جماعات وأفراد، وعبر صناعة وإثارة قضايا، وتوظيف كل ذلك بخطاب شعبوي يحمل مضامين أيديولوجية وسياسية مناهضة للموروثات العقائدية والثقافية والقيمية وبنوع من المقاربة عبر معطيات “المهرجان” نلمس ذلك بمنظار ما يتحرك وما يقال على لسان السياسيين والمسؤولين، فمثلا ليس اعتباطيا ترويج لفظة “المثلية” أوطرح “العلاقات الإرضائية”؟ أو إبطال المطالبة “بعقد الزواج” في الفنادق؟ أونحن دولة “علمانية”؟ أو زواج القاصر؟…وغيرها من الرسائل والمفاهيم ومشاريع قوانين، تندرج في صلب الأسر وفي البنية الإجتماعية عامة ، وليس اعتباطيا، على صفحات (الفايس بوك) أو( تيك توك) تظهر لك أنثى (مستشهرة / طبيبة) تقدم لك وصفات علاجية ، حول العجز أو البرود الجنسي، أو صعوبة الانتصاب أو القذف السريع… في سياق (الجنس) يظهر لك أصحاب (الطب البديل) فما علاقة هـذا بالرؤية؟
من نافـلة القول فإن: الشبكة العنكبوتية الضخمة دور في سوق الأهداف المبتغاة نحو الطريق الذي تريده… عبر عدة قنوات كمواقع التواصل (الفايسبوك والتوتير) ومحركات البحث الكثير (كياهو وجوجل) والتي تعَـد من أهـم الشركات الأمريكية العالمية التي تعنى بالتجسس وجمع المعلومات حول العالم (2) لهذا فلنؤمن بحقائق الأمور، فنحن محكومين برؤية الغرب أبرزها (النقد الدولي) رغم الاستقلالية، وفرض السيادة الوطنية وتصادم التقاليد والعادات وليس تصادم الحضارات كما عبر عنها اليميني “صامويل هنتنجتون” وأحد صناع (الفوضى الخلاقة) وبالتالي فكل ما يتحرك في مجتمعنا أو المجتمع العربي مستهدف لهـز قناعاته وثوابته الحضارية، وذلك من أجل إضعاف قدراته الذاتية، لتغذيتها بعقائد ومرئيات جديدة تتناقض مع معتقداته وتصوراته الأصيلة، ومن ثمة فاختراق الفن والإبداع ؛ الذي يمتلك كل الخصائص والمميزات التي تخلق منه مجتمعا، وبالتالي لا يمكن الفصل بين الفن والحياة، فعبر هـذا الاستنتاج: “وعندما تتعثر” الفوضى الخلاقة” سياسيا… فإنها تقرر استخدام وسلوك سبل أخرى أصبحت واضحة… 1/2/3/ (4) إحداث تغييرات جذرية في مناهج التعليم والثقافة (5) استخدام “الإعلام” كديكتاتور أكبر، يجمل وحشيته، ويعيث فسادا في العقول، ويضع “التشابك والفوضى والتفكيك” كحالة عقلية وفكرية ونفسية أمام الشعوب (3( وبناء على هذا المجمل، فمن حيث التخصيص. فمسرحية ” فوضى” لعبت بفوزها دورا أساسيا في إثارة الخلافات بين المشاركين وغيرهم، والفضاء الأزرق يشهد على ذلك، من تشنجات وردود أفعال، وإن كان أغلبها محتشما، هامسا وهامشيا…فمنهم من حاول الحفاظ على (شعْـرة المهرجان) وليس على (شعرة معاوية)؟ ومنهم من كان يراعي الأستاذية (الجوفاء)! وما لم يفهمه البعض أن “الأستاذية” في زمن الرقمنة والذكاء الاصطناعي انتهج لقتلها، كما تم قتل الأب، ومحاولة قتل المؤلف، إنها متغيرات عولمية. إذ فمن كان المحرك لتلك الردود؟ من السذاجة أن نشير أنه (؟) عضو لجنة التحكيم. بل: “بعد مرحلة فوضى متعمدة، يقوم بها أشخاص معينة بدون الكشف عن هويتهم؛ وتهدف من وراء ذلك خلق حالة من الفوضى لإحداث تغيير في البنية الفكرية والسياسية والمجتمعية وتعديل الأمور لصالحهم (4) بمعنى أن منبع تلك الردود، يحمل في العمق توجيه خطاب شعبوي! الذي يعمل على إشاعة الكراهية والنعرات واللعب على التناقضات الثانوية، بين شباب ومسرحيي خريجي المعهد التنشيط المسرحي؟ لماذا (؟) قبل ذلك، فنوعية المشاركين في التظاهرة تختلف، بين خريجي المعهد والعصامين وخريجي مسرح الهواة وخريجي المسرح المدرسي (الثانوي) ومن مسرح الشباب… ولهذا فلربما أصبح خريجو “المعهد” قوة ضاربة في النسيج المسرحي، لأن الملاحظ أن الساحة أمست (شبه) فارغة، والسيادة لخريجي المعهد العالي للفن المسرحي، والتنشيط الثقافي. وبالتالي فلامناص من تقسيم المقسم فيها وتفتيت المفتت، وإعادة البوصلة الفنية إلى هوياتها الثانوية العشائرية والطائفية… هكذا يبدو لي من خلال مجريات التظاهرة المهرجانية؟ ومن خلال عَـودة الذاكرة، لاحظت بأن جمعية المعهد دائما تلوح ببيانات تضامنية لزملائهم، وخاصة ضد حملات التشهير والتشويش، التي تطال الخريجين.
بوتقة الفوضى:
سنؤجل النقاش حول العــروض واللجـن، لنتجه حول قانون المهرجان؟ إذ حاولنا جاهدين التوصل هل هناك قانون منظم لمجريات المهرجان، فتبتت لنا الرؤية، بأنه لا يوجد! فهل يعقل تظاهرة وطنية عمرت عقدين (24 دورة) ولا تمتلك أرضية قانونية بمقتضاها يخضع المشاركين لمنطوقها ولضوابطها. واللجن المشرفة احترامه. فعند الإطلاع على الأعضاء المكلفين بتنظيم المهرجان والسهر على أطواره وأنشطته، أو على أعضاء اللجن والمنسقين التابعين للجنة التنظيمية، أغلبهم مشاركين جوانية العروض المسرحية المشاركة في المسابقة الرسمية؟ بحيث نجد “منسق” لجنة النقد والإعلام: مؤلفا لمسرحية (فوضى) ومؤلفا لمسرحية (آح وبردت)؟ بداهة لا يمكن لأي أحد أن يوجه له (اتهاما) بقدرما يتم توجيه السؤال للجنة اختيار العروض أليس في البلاد إلا (هـو) وما هو المعيار العلمي والقانوني والفني الذي ارتكزت عليه (اللجنة)؟ أليست هاته بوثقة الفوضى؟ وبالتالي فالعملين معا نالا نصيبا مهما في الجوائز. وبالجوائز نشير هل نفسية ومشاعر وأحاسيس المشاركين، لن تهتز وستظل سوية أمام ازدواجية الإشتغال، بين مخرج (آح وبردات) والمدير الفني للمهرجان؟ فمهما تم طرح المبررات، ستظل غير مقنعة، لأننا أمام – مارتن كروزر – مؤسس مذهب جديد في علم العلاج النفسي يؤكد – أن الفوضى إحدى العوامل المهمة في التدريب والعلاج النفسي، فعند الوصول بالنفس إلى حافة الفوضى يفقد الإنسان جميع ضوابطه وقوانينه، وعندها من الممكن أن تحدث المعجزات.. فيصبح قادراً على خلق هوية جديدة، بقيم مبتكرة ومفاهيم حديثة، تساعده على تطوير البيئة المحيطة به (5) فإذا عُـدنا للفرق التي كانت تشارك في المهرجان، لم تعُـد تشارك بتلك الكثافة والهوس؛ بل أمست تبحث عن قيم إبداعية مبتكرة ومفاهيم تنظيمية حديثة، تساعدها على البقاء، وإنماء تجربتها المسرحية. ولا داعي هاهنا لإعطاء نماذج (…) لكن نشير فالذي أجج النقاش في الفضاء الأزرق، حول النتائج ومحاولة ترسيخ مصداقية اللجنة! فلماذا لا يتفضل بتقديم قراءة منهجية/ معرفية، لكل العروض المشاركة، تنشر في صحيفة (ما) ليقنع تصورات ورؤية المشاركين والمتلقين، ويبدد عبثية تفكيرنا أننا أمام ( فوضى خلاقة ) بصيغة مسرحية / فنية، بدل الدفاع عن قناعة “لجنة التحكيم” علما أن المسرح من خلال المشاهدة، يتمظهر الذوق الجمالي، أما من الزاوية النقدية/ المقارباتية؛ يصبح تحليلا وتفكيكا لما لا نراه ونلمسه، ومساهما في تطور وتطوير الحركة المسرحيَّة. وإن كانت الذاتية ستحضر والذوق ينقشع بين ثنايا السطور.
وبناء على كل هذا ففي السياق، أشرنا بالقول في تدوينة مفادها: لماذا أمسى المسرحيون في كل دورة يهمسون ويتهامسون ويتكلمون في خياشيمهم؟ ولما لا يستطيعون البوح أو التعبير كتابة حول مجريات المهرجان الوطني للمسرح (تطوان)؟ (6)
الاستئناس:
* البرناسية: إشارة إلى جبل البرانس الذي تقطنه “آلهة الشعر” في اليونان. واتخذ مذهبا أدبيا / فلسفيا، تأسس
لمعارضة المذهب الرومانسي.
1) قراءة فلسفية في مشروع الفوضى الخلاقة :لمحمود محمد علي/ ص4 – جامعة أسيوط/مصر-2017
2) نـــفـــســـه ص41
3) الفوضى الخلاقة: لرمزي المنياوي ص52 – دار الكتاب العربي – دمشق/ القاهرة- ط1/2012
4) نظرية الفوضى الخلّاقة: لنجم الدين كياض – جريدة يكيتي / عدد 321 بتاريخ 08/06/2024
5) الفوضى الخلاقة بين الفكر والممارسة: مجلة المعرفة الإلكترونية – بتاريخ 07/02/2011
6) انظر لجداريتنا بتاريخ – 05/12/2024