“دفاعا عن وطنية أكبر ومواطنة أكثر”.. في مؤلف جديد لحسن طارق

“دفاعا عن وطنية أكبر ومواطنة أكثر”.. في مؤلف جديد لحسن طارق

جمال المحافظ

          يدافع الجامعي حسن طارق عن “وطنية أكثر …مواطنة أكبر”، باعتبار أن الوطنية المغربية هي أساس ومبتدأ الديمقراطية والحرية”، وأن من شأن الدفاع اليوم عن أنسية مغربية متجددة، يتعين أن يستحضر إعادة التعريف المتعدد للهوية المغربية، ما يمنحها حصانة ضد الانفلاق والأحادية الانتمائية، ويسترجع أحد مميزاتها  الأساسية التي برزت منذ بداية الاستقلال، كونها شكلت هوية وطنية دون ادعاء إيديولوجي متضخم، يميل نحو الشمولية، لكنه بالأساس ينطلق من تأويل الاختيار الديمقراطي، كأحد الثوابت الجامعة للأمة المغربية (الفصل الأول من الدستور) والسياسي في تعريف كحصانة ضد الاختزال الثقافي أو السياسي في تعريف الأمة عبر منفذ التنصيص على تعريف يضم كذلك إحالة على القيم الناظمة للوطنية المتجددة.

ويعتبر طارق في مؤلفه الموسوم بـ”الوطنية المغربية .. تحولات الأمة والهوية”، في 248 صفحة من القطع المتوسط  والصادر أخيرا عن “المركز الثقافي للكتاب”، أن الانتباه إلى المسائلات الفلسفية لقضيتي الوطنية والمواطنة، يسمح بالوقوف على الحاجة المزدوجة من جهة لضرورة تلطيف الشحنة الإيديولوجية والهوياتية للانتماء الوطني، ومن جهة أخرى لتنسيب الوعي بحدود مطالب النقد الحقوقي لفكرة الوطن، ما من شأنه أن ينتج في تجارب التاريخ الناجحة نوعا من ضمان الاندماج الوطني للجماعة السياسية والاعتراف بالتعدد الثقافي، بصورة تقوم على توافق بين الوطنية والمواطنة، حيث لا يجعل التضخم الهوياتي للأولى سببا في اضعاف الثانية، ولا تجعل الأدلجة الإطلاقية. 

الثانية سببا في نسف الأولى

    بيد أن المؤلف يعبر عن اعتقاده الراسخ بأن أطروحات تجاوز ” الوطنية ” الكثير من الطوباويات الجديدة – القديمة التي طالما غازلت بشاعرية مخيال المفكرين حول شساعة الانتماء الإنساني الكوني، والمؤكد أنها مدفوعة كذلك بتاريخ مرير من القوميات الشمولية ومآسي الهويات القاتلة. لكنها – كما يوضح الكاتب – في الواقع بالرغم من طبيعتها الحالمة لا تستطيع أن تغير شيئا من واقع اليوم، حيث الانتماء الوطني لايزال محركا أساسيا للتاريخ، ولا تزال الهويات الوطنية حاسمة في صناعة الأحداث وإعطاء المعنى وإنتاج القيم. إنه واقع من الجدوى الوعي به كما هو: عالم لن يتخلص بسهولة من الهويات والحاجة للانتماءات، دون مسايرة ولا إنكار، فيما تحمل أطروحات تدبير التعايش بين الهوية والحرية، الانتماء للمجتمع السياسي والانتماء للمجتمع الثقافي، مسالك حقيقية لترتيب وإعادة بناء العلاقة المعقدة بين الوطنية والمواطنة، إذ يذكر في هذا الصدد حسن طارق بأن السياق التحرري لنشأة الوطنية المغربية، منح طابعا نضاليا للهوية الوطنية وجعل السردية التأسيسية تربط الشخصية المغربية القاعدية بالنزعة إلى الاستقلال. 

وإذا كانت سيرورة التحول من الحركة الوطنية إلى الدولة الوطنية، قد دفعت في سياق “تأميم الوطنية” من طرف الدولة المستقلة نحو الاستقلال نحو الانتقال من وطنية نضالية إلى وطنية انتمائية بأفق أوسع، فإن هذا لا يعنى بالنسبة لصاحب الكتاب، أن “الشحنة النضالية”، قد اختفت نهائيا من “الوطنية المغربية” التي ظلت في كثير من الحالات مصدرا ملهما لقيم الانتصار للوحدة الوطنية ومجابهة الأعداء بالرغم من تبيان السياقات.

وعلاوة على “الشحنة النضالية” الكامنة في الوطنية المغربية، فإن طبيعتها الإصلاحية التي ترتبط بالجمع بين لحظة النضال ضد المستعمر واستئناف اللحظة الإصلاحية السابقة عن عهد الحماية، والتي كانت قد توطدت من خلال فكرة تجاوز حالة القابلية للاستعمار وليس فقذ تجاوز الحدث الاستعماري في حد ذاته، قد جعلت من الوطنية المغربية وطنية إصلاحية بامتياز، ولذلك شكلت دائما مصدرا ملهما لقيم التقدم والتحديث، وهذا جعل الكاتب يذهب الى التأكيد وبدون تردد وبإصرار التأكيد على أن الشحنة النضالية والطبيعة الإصلاحية، “يسمح بالقول بأن الوطنية المغربية الحديثة هي وطنية سياسية في عمقها بالمعنى الذي يجعلها بعيدة عن أن تمثل أفقا اثنيا للانتماء”.

فالدفاع اليوم عن أنسية مغربية متجددة، يستحضر – حسب حسن طارق – بالضرورة “إعادة التعريف المتعدد للهوية المغربية، ما يمنحها حصانة ضد الانفلاق والأحادية الانتمائية، ويسترجع أحد مميزاتها  الأساسية التي برزت منذ بداية الاستقلال، كونها شكلت هوية وطنية دون ادعاء إيديولوجي متضخم يميل نحو الشمولية، لكنه بالأساس ينطلق من تأويل الاختيار الديمقراطي، كأحد الثوابت الجامعة للأمة المغربية (الفصل الأول من الدستور) والسياسي في تعريف كحصانة ضد الاختزال الثقافي أو السياسي في تعريف الأمة عبر منفذ التنصيص على تعريف يضم كذلك إحالة على القيم الناظمة للوطنية المتجددة.

لذلك فإن الأستاذ طارق يجزم بأن التفكير في تجاوز “الوطنية” في السياق المغربي الحالي، لا يبدو في نظره “سوى قفزة  في المجهول”، ذلك أنه ليس في الوطنية المغربية، أصولا وامتدادات ومسائلات ما يحيل على الانفلاق الهوياتي أو القومية المتشددة، لقد كانت منذ البداية والتأسيس أفقا انتمائيا مرنا، منفتحا وذي مضمون سياسي، إذ يكفي في هذا الباب العودة الى الوطنيين الأوائل من الإسهام الوطني لليهود المغاربية، أو من الانفتاح على أصدقاء المغرب من اليسار الفرنسي.

وإذا كانت ظاهرة التضخم الهوياتي للقوميات، كثيرا ما شكلت عبر التاريخ ردة عن مسار الحداثة ونفيا للحرية وإلغاء للمواطنة، فإن الوطنية المغربية في الواقع كانت مدخلا للحداثة السياسية باعتبارها شكل حديث للاجتماع السياسي ولبناء الجماعة السياسة المدنية، ولأنها كانت حاملة لفكرة التحرر فقد يسرت استنبات قيمة الحرية فيما بعد، ونقلها من دائرة الجماعة إلى مربع الفرد، ولعل الوطنية في أجيالها ولى كانت هي الشكل الجنيني لتبلور المواطنة كالتزام اتجاه المشترك وكواجب أخلاقي في اتجاه المجموعة الوطنية. من هذا المنطلق يرى الجامعي حسن طارق بأن “فكرة التجاوز لا تطابق بتاتا حاجة المرحلة التاريخية وتحديات المجموعة الوطنية، بل إن المطلب الأكثر معقولية، يبقى هو القائل بـ”وطنية أكثر …مواطنة أكبر”، ذلك أن الوطنية المغربية هي أساس ومبتدأ الديمقراطية والحرية”.

وكان الأستاذ طارق قد أكد في مستهل مؤلفه الذي يتضمن ثلاثة فصول، هي “سياقات تأسيس الوطنية المغربية”، و” الوطنية المغربية أفقا للتفكير”، و”الوطنية المغربية وسياقات التحول”، بأنه  لا مناص اليوم من التفكير في “الوطنية المغربية “وسط مشهد عالمي مفارق، “تلتقى داخله إيديولوجية السوق وأفكار التطرف الديني حول حربها المقدسة على الدولة الوطنية”، إن إستراتيجيات الانكماش الهوياتي تغذي في الآن نفسه، أشكال جديدة من التعصب الوطني، وتعود الدولة الوطنية – باعتبارها الفاعل القوي – في الساحة الدولية، كما لو كانت تمثل ثأرا مشهديا للأمم والثقافات والرموز من التخيلات التنميطية للعولمة، كما لاحظ الأستاذ طارق في مقدمة الكتاب بيد أن الكاتب يعبر عن اعتقاده، بأن الإشكالية الأكثر مطابقة لسؤال المرحلة، مغربيا، تتلخص، في كيفية استثمار الخفوت اللافت لتوترات الهوية، وأجواء ما بعد الحوار العمومي الواسع، حول إعادة التعريف الجماعي للأمة، لاجتراح مقاربة لا تقف عند حدود تمجيد التعدد، ولا تتوقف عند عتبة الاحتفاء بالمكونات الفرعية والروافد، لكنها تلتفت إلى الأهم متمثلا في ترصيد المشترك الوطني الجامع.

تاريخ وطني مديد

    أهمية الكتاب تكمن في استقصائه الموثق لما كتب في قضايا أساسية، منها ارتباط تاريخ الوطنية المغربية بالتاريخ المديد للدولة بالمغرب، وعلاقة الدولة بالأمة، وقضية الهوية المغربية ومكوناتها، وارتكاز الوعي بالوطنية المغربية على تاريخ وطني مديد ودولة ضاربة الجذور فيه. كل هذا مقترنا بتتبع قراءات المغاربة والأجانب لتاريخ المغرب ودولته، كما جاء  في  تقديم الكتاب الذي دبجه الأستاذ علي أومليل الذي أوضح كذلك، أن حسن طارق يعرض في هذا الكتاب لموضوع هام وهو الوطنية المغربية، وأهميته، ليس في موضوعه وحسب، وإنما أيضا في بسطه ومناقشته لما وضع بشأنها من آراء وتنظيرات. 

ويعود الأستاذ حسن طارق، الى التوضيح على صفحات كتابه بأن “الوطنيات” ستستطيع التخلص التدريجي من عقدة “القطرية” و”وصم” التجزئة “لتتحول إلى الإطار الطبيعي والشرعي للسياسة والانتماء والكينونة، دون أي مركب نقص تجاه باقي عناصر الانتماء ضمن محددات الشخصية العربية الإسلامية، وذلك مقابل تآكل الأيديولوجيا القومية، ومشاريعها السياسية، وهامشية الماركسية التي ظلت معلقة بين الأزمة والنخبوية، وقدرة الدولة على استيعاب تيارات الإسلام السياسي “.

الاستثناء المغاربي

    غير أن الكاتب يلح في ظل هكذا وضع، على أنه كان  يتعين الإشارة إلى دائرة الاستثناء المغاربي، المشكل بالأساس من التجربة التاريخية لكل من المغرب وتونس، حيث تشكلت لفترة طويلة من الزمان جماعات سياسية، مستقرة ومحددة، ولها “حدود” ليست إشكالية تماما كما في دول بلاد الشام والمشرق العربي عموما. وفي معرض حديثه عن ما وصفه بـ”المدار الثاني” لانشغال الفكر العربي المعاصر بقضايا الدولة الوطنية، ذكر حسن طارق بأنه يعود إلى عقد التسعينات وبدايات الألفية، في إحالة على ما سبق أن عالجه بتوسع في كتابه بعنوان “الديمقراطية وقضايا الانتقال السياسي بالمغرب” (2019)، حيث ستطرح تحت تأثير الأبحاث الغربية حول الانتقالات الديمقراطية، إشكاليات أجزاء كبرى من الفكر العربي، قد عزز من أطروحة الإشكال الهوياتي في الدول العربية كأحد أسباب العجز الديمقراطي.

وبعد ذلك وبمناسبة التفاعل مع أحداث 2011 – يقول الكاتب – ستطرح من جديد الأسئلة حول ما إذا كانت الدينامية التي رافقت تلك اللحظة التاريخية، تعنى الوداع النهائي للإيديولوجيا القومية والانتصار الحاسم للدولة الوطنية بكيانها الخاص كأفق وحيد للتغيير السياسي والانتماء الجماعي –  وهو بذلك يستعيد حسن طارق ما سجله في كتابه تحت عنوان “المثقف والثورة: الجدل الملتبس: محاولة في التوصيف الثقافي لحدث الثورة” الصادر سنة 2016. لكن عموما، يصرح الكاتب بأنه لن ينشغل هذا الكتاب ، بمدارات “الوطنية ” داخل الفكر العربي المعاصر، في ضوء الاتجاهات النظرية والممارسة والأطروحات الايديولوجية، “بقدر ما سيحاول إعادة  تركيب سياقات بناء الوطنية المغربية، كما تحددت خلال زمنية التأسيس، وقبل ذلك الوقوف على أبرز صيغ حضور الوطنية المغربية كأفق للتفكير والمعرفة المتعددة الحقول والخلفيات،  وأن سؤال الهوية الوطنية، يحتفظ “براهنية مثيرة، كموضوع للتفكير والتأمل، موضحا أن الانتماء الوطني بالرغم من كل تحولات الهوية وسياسات الانتماء، وكل الوعود الكونية للعولمة، حافظ على موقعه داخل سلم التفضيلات الهوياتية المتقدمة.

ولفت حسن طارق الانتباه إلى أن الوطنية المغربية “وجدت لحظة انبثاقها كجواب على سؤال الوجود والهوية، كما فرضته سياسات الاستعمار… ثم ستجد بعد الاستقلال نفسها بعد الاستقلال كجواب على سؤال ترسيخ الدولة الوطنية الموحدة، قبل أن تنطلق سريعا داخل النخب الحضرية المثقفة، ديناميات الادعاءات الهوياتية المتفاوتة”.

للأستاذ حسن طارق الأستاذ بكلية الحقوق السويسي التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط العديد من المؤلفات، منها “الديمقراطية وقضايا الانتقال السياسي بالمغرب”، و” العودة إلى الثقافة”، و”حقوق الانسان أفقا للتفكير”، و” التواصل بين المجتمع المدني والبرلمان”، و”المثقف والثورة: الجدل الملتبس، محاولة في التوصيف الثقافي لحدث الثورة”، و”هيئات الحكامة في الدستور: السياق، البنيات والوظائف”، و”من الثورة إلى الدستور؛ الهوية والديمقراطية في دستورانية الربيع العربي”، و”الدستور والديمقراطية: قراءة في التوترات المهيكلة لوثيقة 2011″، و”السياسات العمومية في الدستور المغربي الجديد”، و”المجتمع المغربي وسؤال المواطنة والديمقراطية والسياسة “، و”الشباب السياسة والانتقال الديمقراطي”، و”اليسار وأسئلة التحول”.

Visited 16 times, 16 visit(s) today
شارك الموضوع

جمال المحافظ

باحث متخصص في شؤون الإعلام