مذكرات أب سعيد

مذكرات أب سعيد

أحمد حبشي

         غالبا ما يتحفظ الآباء عند الحديث عن تفاصيل من مراحل حياتهم، في وسطهم العائلي، أو يتجنبون الكشف عن جوانب من تطور ظروف عيشهم وما ساورتهم من أحلام وأماني لتجنب مشاق الحياة، وكيف تم تجاوز كل العوائق لتحصين الذات وتقوية إمكانيات تحقيق الاستقرار وتامين شروط الاستمرار.                             

أمام اصرار الأبناء أحيانا لمعرفة بعد التفاصيل، يفتح الأبناء نوافذ لسرد وقائع من مسيرتهم الحياتية دون الوقوف على كل جوانب تجربتهم في مسارهم المجتمعي وتداعيات وقائعها. ما دون ذلك، يقوم الآباء الكتاب او بعض المثقفين بتوثيق بعضا من تجربتهم الحياتية والكشف عن زوايا من مسارهم المجتمعي.                                                    

 في سعي لتجاوز هذا التقصير، اقتضى رأي بعض الآباء المتعلمين والذين لهم دربة في الكتابة والحكي، أن يتركوا سيرهم الذاتية على الورق، حتى يعرف الأبناء والأحفاد من بعدهم، بعض التفاصيل من حياة والدهم او جدهم، وما كان يميز شروط العيش وبعضا من واقع حال الزمن دون تجاوز الكثير من مظاهره وطبيعة علاقاته.

محمد التسولي مديدش، والد الصحفي والكاتب جواد مديدش، قبل وفاته بسنتين عن سن تناهز الثمانين سنة، ترك مسودة لم يتمم فصولها، يسرد من خلالها أهم اللحظات في مسيرته الحياتية، منذ زمن الطفولة وكدها الممزوج بشغبها إلى لحظات الحضور الواعي بالواقع المجتمعي والسياسي، وما اقتسمه مع رفاق دربه من هموم وتطلع لتحرير البلاد واستعادة استقلالها. من مواليد 1921، التحق بالحركة الاستقلالية وانخرط في كل المبادرات الاحتجاجية، مما كلفه قضاء مدة من الاعتقال بأحد السجون البعيدة بمسافة عن مدينة فاس مسقط رأسه، وهو ذات السجن الذي سيقضي فيه ولده جواد سنتين من فترة سجن دامت أربعة عشرة سنة عن انخراطه في تجربة سياسية سعت إلى استكمال معركة الاستقلال بالحد من هيمنة المستعمر القديم، وتغيير شروط الاستغلال لمقدرات البلاد والحد من تهميش كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين.، إلى غير ذلك مما يوفر العيش الكريم والحق في التداول على تدبير الشأن العام.                                                   

 بكثير من التفاصيل يحكي محمد التسولي مديدش، عن علاقاته بالكثير من الشخصيات التي ساهمت بفعالية في النضال من أجل الاستقلال وتحملت مسؤوليات متعددة بعد انجلاء القوات الاستعمارية وتجاوز بعض الخلافات حول وجهات النظر في تدبير الشأن العام، من بينهم محمد بلحسن الوزاني وعبد الهادي بوطالب الذي كان من أقرب الأصدقاء إليه، حيث يقول عن هذه العلاقة التي دامت منذ الطفولة: (كان عبد الهادي بوطالب من أعز أصدقائي حيث كنا نترافق كثيرا، وكان يحدثني بأن أخاه الأستاذ محمد بوطالب، الذي كان أستاذا بالمدرسة، يحثه على ألا يرفق أحدا سواي، وقد بقيت هذه الصداقة حتى افترقنا، فتابع دراسته وخرجت أنا إلى العمل في مرافق الحياة الأخرى).

 لم يتمم الأستاذ محمد التسولي مديدش سرد كل تفاصيل حياته، فقد وفاه الأجل وترك المخطوط ناقصا من العديد من الفقرات، تخص انتقاله من فاس إلى الدارالبيضاء كأستاذ في التعليم الابتدائي ثم ملحقا بالثانوي فمديرا بإحدى المدارس الخاصة. إلى أن ما حكاه في جلساته مع أبنائه الثمانية، يمكن ان يكمل السرد إذا ما عن لأحد الأبناء باستعادة ما تلقاه من سيرة والده وما حكاه في لحظات اشراق عائلية. ما كان يميزه كأب استطاع تحقيق التواصل الرفيع مع كل أبنائه دون تمييز أو تقصير في حق البعض على حساب الآخرين، كما يشهدوا جميعا يذلك.   وهو ما عكس اسرارهم على نشر مذكراته وإن لم تكتمل فقراتها، مرفوقة بترجمة إلى اللغة الفرنسية وصور تشير إلى مكان مولد والدهم ولحظات من نشاطه المهني ورفقة أفراد من أسرته.

الأستاذ محمد التسولي مديدش كان مشرق الابتسامة كثير التواضع، يشهد تلاميذه على صدق مقاصده ورباطة جأشه. يسيخ السمع ويحسن تسديد النصيحة بأن يفسح مجال الاختيار بين الممكن والاحتمال. تشهد بذلك إحدى صهراته التي كانت إحدى تلميذاته قبل أن تصبح من أحد أفراد عائلته.

يقول في مقدمة مذكراته (استجابة لرغبة ابنائي وخصوصا جواد ونجيب في كتابة مذكراتي مسجلا بها بعض المحطات المهمة في حياتي والتي لا زالت ذكراها عالقة بذهني لكي يطلعوا عليها ويستفيدوا منها ويعرفوا ما مر فيها من أزمات وشدائد انتهت أخيرا إلى الحل بسبب الطموح والرغبة في تجاوز المحن والشدائد) فلروحه الطاهرة ألف سلام.  

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

أحمد حبشي

فاعل جمعوي وناشط سياسي