وثيقة المطالبة بالاستقلال: الذكرى 81 لحدث تاريخي
المصطفى اجْماهْري
إذا كان يوم 11 يناير 1944 يمثل ذكرى حدث تاريخي بارز عبّر به المغاربة قاطبة عن وفائهم لدينهم ووطنهم ولعرشهم، فإن إرهاصات هذا اليوم التاريخي تغلغلت في أعماق المجتمع المغربي منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
فقد كانت سنة 1937 قاسية بسبب الجفاف الخطير الذي ضرب البلاد أربع سنوات قبل ذلك، فكانت الساكنة تتضوّر جوعا وزحف الناس فرادى وجماعات نحو الدار البيضاء عسى يجدون فيها ما يسد بعض الرمق. ثم ما لبث أن تفشى مرض التيفوس في ظل وضع اجتماعي منهك بالبطالة والخصاص واستحواذ المُعمرين الأوروبيين ورجال الأعمال الفرنسيين على خيرات البلاد من معادن، وأبناك وشركات للإنتاج الصناعي والنقل والخدمات.
وكان الجنرال شارل نوغيس، المقيم العام الفرنسي آنذاك، المعروف بقربه من المارشال فليب بيتان، يمارس سياسة قمعية تجاه الوطنيين المغاربة بل إنه قال في خطاب له بفاس سنة 1937 إنه لن يتوانى في سحق كل حركة وطنية تنادي بتطبيق “برنامج الإصلاحات” الذي اعتبره ضد فرنسا. بل في تلك السنة تم منع “كتلة العمل الوطني” التي اقترحت البرنامج المذكور.
في هذه الظروف المتوترة يقول الطبيب غي دولانوي، المزداد بالجديدة سنة 1916 (في الجزء الأول من مذكراته، 2008)، قامت سلطات الحماية بتوجيه حصة من ماء وادي بوفكران الذي يزود مدينة مكناس بالماء الشروب لسقي بعض ضيعات المعمرين. وهو ما أدى إلى اندلاع مظاهرات صاخبة في مكناس والخميسات نتجت عنها ردود فعل عنيفة من طرف سلطات الحماية. وتعرضتْ ثلة من الوطنيين المغاربة للتنكيل مثل محمد بن الحسن الوزاني الذي نفي إلى إتزر بالأطلس المتوسط وعلال الفاسي الذي نفي إلى الغابون التي قضى بها تسع سنوات.
وسرعان ما اندلعت الحرب العالمية الثانية سنة 1939، وانهزمت فيها فرنسا أمام ألمانيا في يوليوز 1940 مما أظهر بالملموس للوطنيين المغاربة أن هذه الدولة الحامية ليست من القوة كما كان يتصور. ورغم ما مُنيت به فرنسا من هزيمة إلا أن السلطان سيدي محمد بن يوسف (الذي تولى العرش منذ 18 نونبر 1927) عبّر عن موقف شهم إزاءها حيث نودي في المساجد باسم السلطان إلى تقديم يد العون لهذه الدولة والوقوف معها في محنتها.
في هذا السياق المشحون بدأ الإعداد، منذ مستهل عام 1942، لوثيقة المطالبة بالاستقلال، كما جاء في شهادة الزعيم عبد الرحيم بوعبيد (المنشورة في كتاب غي دولانوي، ص 132). وقد بدأ إعدادها بشكل سري بين السلطان محمد بن يوسف وزعماء الحزب الوطني. ويتعلق الأمر بوثيقة طالبت صراحة باستقلال المغرب تحت قيادة السلطان محمد بن يوسف، ووقعتها 58 شخصية وطنية. ولم يكن ممكنا إخبار علال الفاسي بالموضوع لأنه كان ما زال في المنفى ولكن رفاقه القدامى ضمنوا موافقته على نص الوثيقة. وحسب عبد الرحيم بوعبيد، في هذه الشهادة، فقد كان من الوهم الاكتفاء بمحاولة إصلاح معاهدة الحماية، بعدما تأكد بالملموس أن الطريق الأمثل ليس سوى المطالبة بالاستقلال.
في خضم هذه الاجتماعات السرية التي تم فيها إعداد “وثيقة المطالبة بالاستقلال” بتنسيق مع السلطان، حصل حدث بارز ألا وهو الإنزال الأمريكي بالمغرب في ثامن نونبر 1942، وهكذا بين عشية وضحاها انقلب تأييد كبار موظفي الحماية الفرنسية وكبار المعمرين وأصحاب المهن الحرة من تأييد مطلق لحكومة فيشي إلى الانخراط في تيار فرنسا المقاومة، كما تمت إزالة صور المارشال بيتان من الأماكن العمومية.
وبرز الدور الأمريكي مناصرا لتحرير الشعوب المستعمرة ومساندا لها كما تأكد ذلك مثلا من خلال مؤتمر أنفا المنعقد بالدار البيضاء يومي 22 و23 يناير 1943 الذي شارك فيه الرئيس الأمريكي فرنكلين روزفلت، ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، والجنرال ديغول والمقيم العام الفرنسي الجنرال نوغيس، كما دُعي له السلطان سيدي محمد بن يوسف الذي كان مرفوقا بولي العهد الأمير مولاي الحسن. وفي هذا المؤتمر أبلغ السلطان الرئيس روزفلت برغبة المغرب في التحرر من قيود الحماية، وكان هذا أول لقاء مباشر بين الرئيس الأمريكي والسلطان دونما وساطة من المقيم العام الفرنسي. وقد صرح خلاله الرئيس الأمريكي بأن النظام الكولونيالي فقد صلاحيته. لكن تبين، فيما بعد، بأن موقف أمريكا وبريطانيا كان متخاذلا، ولم يكن في المستوى المأمول من طرف المغرب.
في هذا الشهر من يناير رجع الزعيم أحمد بلافريج من المنفى الكورسيكي وساهم في إحياء العمل الوطني ثم في إنشاء “حزب الاستقلال” في عاشر دجنبر من سنة 1943 بمباركة من السلطان سيدي محمد بن يوسف. وفي الشهر الموالي أي في 11 يناير 1944 سلم “وثيقة المطالبة بالاستقلال” إلى السلطان محمد الخامس والمقيم العام الفرنسي ثم إلى ممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا. كما سُلمت نسخة من الوثيقة للسفير الروسي لدى الجزائر.
وحتى لا يؤول مطلب الاستقلال من قبل فرنسا إلى إعلان حرب، فقد أكد الحزب بأنه لا يروم تحقيق هذا المطلب بالعنف بل بشكل سلمي. لكن الجنرال ديغول رفض أي أفق للاستقلال وذلك تحت ضغط المسؤولين من ذوي النزعة اليمينية الذي كانت تعج بهم الإقامة العامة وجهاز المراقبين المدنيين فضلا عن أرباب رأس المال المستفيدين من الوضع.
***
يقول الحسن الثاني في كتابه “التحدي، ص 35” إن “وثيقة المطالبة بالاستقلال” وقعتها 58 شخصية مغربية من بينها 18 مدرسا، و10 علماء، و6 موظفين في الحكومة، و4 قضاة، وتجار وفلاحون ونقابيون. وهذا ما يعني أن جميع أطياف المجتمع كانت ممثّلة فيها ومعنية بها. وتضمنت وثيقة المطالبة بالاستقلال جملة من المطالب السياسية تمثلت في شقين؛ الأول يتعلق بالسياسة العامة وما يهم استقلال المغرب تحت قيادة السلطان الشرعي سيدي محمد بن يوسف، والسعي لدى الدول التي يهمها الأمر لضمان هذا الاستقلال، وانضمام المغرب للدول الموافقة على ميثاق الأطلسي والمشاركة في مؤتمر الصلح، أما الثاني فيخص السياسة الداخلية من خلال الرعاية الملكية لحركة الإصلاح وإحداث نظام سياسي شوري شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية والإسلامية تحفظ فيه حقوق وواجبات كافة شرائح الشعب المغربي.
وقد ظهر واضحا من كل التحركات السياسية والمطالب القوية أن فرنسا لم تحترم، عمليا، معاهدة الحماية الموقعة بينها وبين المغرب في 30 مارس 1912، إذ انحرفت من نظام حماية إلى إدارة مباشرة لعموم الشأن الوطني. ومن ثمّة حوّلت المغرب إلى مستعمرة شكلت قبلة للكثير من الأوروبيين القادمين للاغتناء والاستفادة من خيرات البلاد، في حين أصبح المغاربة في بلدهم مواطنين من الدرجة الثانية. إذ أن غالبية الوظائف شغلها الأوروبيين، فمن بين 20.492 وظيفة كان عدد المغاربة هو فقط 5.492 وفي مستويات متدنية. حتى أن السلطان سيدي محمد بن يوسف أوضح للفرنسيين بشكل لا التواء فيه بأن معاهدة الحماية، كما تنص على ذلك، كان ينبغي أن تؤدي منطقيا إلى الاستقلال.
لم تهضم سلطات الحماية المطالبة باستقلال المغرب فعملت جاهدة على اختلاق الذرائع لاعتقال قادة حزب الاستقلال وممارسة القمع ضد المتظاهرين الذين خرجوا عن بكرة أبيهم في الرباط والدار البيضاء وسلا والقنيطرة وغيرها من المدن لتأييد مخرجات وثيقة 11 يناير 1944. بل إن فرنسا لم تتورع حينما أقدمت على نفي وزير العدل المغربي محمد بلعربي العلوي إلى جنوب المغرب وفرضت الإقامة الإجبارية على أحمد بركاش مندوب الصدر الأعظم.
والملاحظ أن تقديم “وثيقة المطالبة بالاستقلال” خلق دينامية جديدة في المجتمع المغربي بكل شرائحه حيث شجعت على الاستماتة في هذه المطالبة كما تلتها مبادرات قوية أخرى وخاصة زيارة سيدي محمد بن يوسف لمدينة طنجة الدولية في أبريل 1947، على متن القطار، مرورا بالمنطقة الخاضعة للحماية الاسبانية وذلك تأكيدا على وحدة الأراضي المغربية، وألقى السلطان خطابا شهيرا وسط حشود من سكان طنجة والضواحي، منتقدا الوضع الاستعماري، وملحا على المطالبة بالاستقلال.
يمثل تاريخ 11 يناير بالنسبة للمغرب، محطة بارزة في مسيرة التلاحم البنّاء بين الملك والشعب، ودرسا متجددا يذكر الأجيال الحالية بتضحيات السابقين من أجل التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار.