السيرة الذاتية: الطَّلَبُ والرّسالة

السيرة الذاتية: الطَّلَبُ والرّسالة

عبد القادر الشاوي

         لقارئ أن يتعجب، ولغيره أن يستنكر إذا شاء، وهو يقرأ، بسذاجة واطمئنان، أن الإمام محمد عبده لم يكتب سيرته الذاتية، أو ترجمته الذاتية على قول المتقدمين، إلا لأنه لم يكن يرى في نفسه أية أهلية تمكنه من ذلك: فلا هو صاحب طريقة، ولم يأت لأمته بأي عمل يذكر، ولا هو قدوة يقتدى بها. وفي أبسط مقابلة يمكن أن يجريها القارئ بين النص الشاهد هذا، والمعرفة العامة المتحصلة من بيوغرافية الإمام، وهي بيوغرافية حافلة بالأعمال والمواقف والتصورات والاجتهادات في الميادين التي ارتادها وكان له فيها الأثر البارز الذي لم يمح لحد الآن… يجد، بطبيعة الحال، أن هناك مفارقة كبرى بين الوجود الذي كان لشخصه، وبالنتيجة لسيرته الحياتية العامة، وبين الادعاء الذي طابعه الَمسْكَنة، من غير ذِلّة، لمبتغيات تجنح إليها الذات حين تستحصل المقامات والرُّتَب والألقاب، فيكون من اليسير، بل ومن الُمحَتَّم النَّْجِسي التلقائي، مع ما قد يكون فيه من نوازع وأهداف، أن توضع على الصدر نياشين بها يَحْصُل الافتخار، وعليها يقوم الاعتبار، ولا تكون الكتابة عنها، باللغة الواصفة أو الُمشَكِّلَة للمعاني البليغة، تبعا لما قد يَعِنُّ لصاحبها من أهداف مستحقة، إلا لتخليد المقام بين الأنام، وتبريز الوجود بين الموجودات، والتأكيد على ما للكتابة، للطابع التوثيقي الإبلاغي اللذين لها، من أهمية في صون الذاكرة وحفظها من الزوال متى ما قيض لها أن تتغلب على الإهمال، أو على النسيان، أو على الفتك الذي قد يسلط عليها، أو المرض الذي يمكن أن يصيبها. الذاكرة لذلك ولغيره يصيبها التلف فينقطع الزمن بها وبصاحبها عن جميع ما قد يعبر عن هويته. الذاكرة تعبير أيضا عن هوية ما. وإذا صُنْتَ ذاكرتك فقد تصبح للآخرين، أقرباء وأبعدين، خير معين لهم على استخلاص ما يودون استخلاصه منها، فهي ميراثهم الرمزي الذي قد يكون لهم في الحياة نموذجا يُحْتَدى مع الاختلاف، أو يُقلَّدُ مع التنوع، لأنه التراث الذي ورثوه عن السلالة العائلية، وهو الذي يقيم الحجة عليهم بالانتماء إلى فرع من فروع تلك السلالة أو لغيرها. هذا مع الحذر الذي يجب أن يتمتع بع القارئ أمام كل نص ذاتي أو حميمي عندما لا يأخذه على النحو الذي صيغ به: أي من خلال الصور المبثوثة فيه، والعلاقات المسرودة في مفاصله، والمسار العام الذي سار فيه صاحبه إلى أن انتهي به إلى الكتابة عنه. لا موجب هنا لتحكيم الصدق، ولا لتكذيب السارد، لأن العملية في جوهرها عملية استذكار يفرض على من يقوم به في حركة من الذهاب والإياب والتوقف أيضا قصد استرجاع فصول من تاريخ الأنا كان له زمنه وفضاءاته كما له في عملية الكتابة عنه زمنه وفضاءاته.

لم يقصد الإمام محمد عبده، فيما أحسب ولست إلا مخمنا، منافقة القارئ، لأنك بمجرد ما أن تنتبه إلى آثاره الجليلة من خلال القراءة العامة إلا وتدرك، بدون معين، أن الرجل كان صاحب توجه وله فيه اجتهادات وأن أثره في الناس وفي التأويل الديني كان من الدرجة الرفيعة جعلت من أفكاره النهضوية منهاجا سار عليه السائرون أزمانا. فالإمام هنا لم يخادع قارئه.

 ولم يكن الإمام راغبا، وقد تكون هذه الرغبة مازوخية، في استصغار أمره كما عبر عن ذلك، لأن أمره لم يكن بيده إلا من خلال العمل الفكري وغير الفكري، بل كان بيد من اتبعه في العالمين، وجعله لأحلامه ومطامحه هاديا منيرا ورائدا مصلحا دينيا من أبرع المصلحين في التوفيق بين الحياة الدنيا/عالم الشهادة (متاع الغرور، لهو، زينة، تفاخر بينكم، تكاثر في الأموال)… وبين الحياة الحقيقية (الآخرة خير وأبقى) /عالم الغيب التي هي مناط المنفعة وضالة المؤمن.

قصدي من كل هذا أن أبين أن الوجود الإنساني برمته ينوس بين سجلين مختلفين: سجل الواقع أو الوقائع (وتظهر من خلال المساهمة المباشرة في أحداث مادية مدركة( والسجل الذاتي (الناتج عن الشكل الذي يوجد عليه كل فرد منا في العالم الخارجي)، أي بين الملاحظة والخيال. هذا مع الاعتبار بأن بين الواقع والذات، رغم الالتقاء والتكامل، حدودا مرسومة تَصُوغُها الكتابة من خلال النظام اللغوي، ويمكن التعبير عنها مشافهة، في سبيل إيجاد نص سردي تتوفر له، حسب المقصدية التي يتوخاها كاتبه، بلاغة يراد بها التعبير عن الذات والتواصل مع القارئ… وإنْ كان القارئ خاصا فَبِكَثِيٍر من العاطفة التي تفجرها اللغة في الوجدان وفي العقل.

ربما هذا ما توخاه الحاج محمد مديدش التسولي وهو يُسَوِّدُ صفحات مختصرة لا تغطي سوى ثلاثة عقود من عمرهم (1921-1951) عن مسار حياة حافلة بالمنجزات الشخصية التي كان لها، فيما بعد، بحسب التطور الزمني والتاريخي، امتدادات عائلية

مذكراتي من أيام الطفولة إلى 1950
مذكراتي من أيام الطفولة إلى 1950

زادت فيها، فأصبحت دالة على «سُلالة» بعد أنْ كان «نواة». يتعلق الأمر في هذا بثلاثة سجلات: المسار الشخصي المرتبط بتاريخ الأنا (من زمن الطفولة إلى مرحلة الكتابة وزمنها). وهو المسار الذي اندرج، منذ بداية الحياة، في مناخ مرحلة مهمة من التطور الذي مر به المغرب ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي في مدينة فاس، التي لها رمزيتها العلمية وعتاقتها التاريخية- الحضرية المذكورة في كثير من المراجع والحوليات، كما أن لها وضعا اعتباريا أضفى على مجالها العمراني والإنساني تصورات شبه «أسطورية» لها طابع ديني بها تتميز بين باقي المدن وتذكر ويحال عليها كمرجع أيضا.

أما السجل الثاني فهو المرتبط بالتحصيل، أي بالوعي أيضا الذي تبلور لدى الحاج مديدش (الكاتب) في النظر إلى تجربته الحياتية، من خلال الأهمية التي أولاها، وكذا من خلال التقدير الذي أسبغه عليها، فتملكها وأوحت إليه بالضرورة المقررة في ذلك الوعي، أي بوجوب الكتابة عنها بالاستجابة لطلب يمثل في الكتابة الباعث أو الحافز أو المؤشر الدال على الاستذكار كذلك.

أما السجل الثالث فهو المتعلق بالكتابة التي تحقق، بصورة أساسية وجوهرية ربما، ما سوف تصبح عليه السيرة الذاتية من حيث السرد والتصور والهدف المتوخى من الكتابة، إلى جانب متطلبات الكتابة نفسها، وإكراهاتها، تعبيرا وتركيبا، وهي التي لا تساعد كثيرا على الصوغ البياني إلا إذا كان الكاتب السارد قادرا على تطويعها والتعبير الميسر بها. والكتابة هنا هي الصوغ التعبيري الذي به تتهيكل الحياة الشخصية بمختلف أبعادها ومستويات تطوراتها المسرودة، على الوجه (الوجوه، جَمْعاً أيضا) الذي به يقرأها القارئ، أو الأطوار والمراحل التي تصل إلى سمع السامع إن كانت مروية بالمشافهة. ويمكن القول إن على هذه الكتابة أن تعود إلى الماضي في تاريخيته، وأن تحيط ذهنيا بمجموع الأوضاع التي يود الكاتب السارد عرضها، والإلمام بظروفها، وما كان فيها، على مستوى التذكر، من وقائع وأحداث وعلاقات وأوضاع… ودائما عندما لا يكون النسيان آفة تبطل التفاعل الذي يحدث في الذهن في عملية الاستذكار نفسها، ولا يكون الوازع الأخلاقي، أو غيره، مانعا له من القول والتصريح والبوح… في أي مستوى من مستويات القول والتصريح والبوح عندما تتوفر الَمقْصِدِيّة، ويكون الهدف من الكتابة متحررا من جميع القبليات إن أمكن.

تُعْلِمُنا السيرة الذاتية، بواسطة سِجِلّ الكتابة هذا، بالمرحلة (الرحلة أيضا( الأساسية الُمسْتَعادة، وهي الواقعة، من زاوية الأحداث المروية، بين زمن (وتاريخ) الشروع في كتابتها، إلى زمن (وتاريخ) آخر يكون حتما قبل وفاة كاتبها. لأن السيرة الذاتية، كما هو المفهوم والمؤكد، لا تُكتَبُ إلا في الحياة، حياة كاتبها. وهي في هذا الكتاب، كما خطه الحاج مديدش، مسار طويل انتقل فيه من البيت، إلى الكتَّاب القرآني، إلى المدرسة الحرة، إلى السياسة، ثم إلى الوظيف والحياة العامة التي بناها في علاقات مختلفة من أفراد وصداقات جيله الطامح، وكذا في أدوار متنوعة تتسم بالحيوية والفعالية. على أن اللحظة الهامة في هذا المسار هي تلك التي ترتبط بعاملين: الطلب العاطفي الذي أفصح عنه أبناؤه في أمر الكتابة، كما يقول، عن حياته وتطوراته، بغرض التعرف عليه بقلمه، والاستفادة من تجاربه وخبراته في الحياة. أما العامل الثاني فهو المرتبط بالوعي بأهمية الكتابة نفسها في التأريخ لمسار إنساني يمثل القدوة والمثال. والواقع أن الوعي بأهمية الكتابة هذا يَتَشَخَّص بالقرار الذي اتخذه الحاج للشروع في الكتابة، أي أنه، مع وعيه بالأهمية، وضع “ذاته” موضع التأمل والاستذكار، إلى جانب ما قد يكون توخاه من توثيق وتوجيه يفيد، بعد الإخبار، في استخراج الدروس والعبر إلخ.

يمكن القول إن الحاج مديدش لو لم يكن قد بلغ من العمر ما قَدَّرَهُ من سنوات، وهي سنوات عادة ما تزكي في السِيَّر الذاتية بدوافع غائية وبعضها ديني محض (بلوغ الأربعين فما فوق عادة)، لما تأتى له أن يشرع في الكتابة مهما كان الإلحاج الذي يلح عليه. أقصد بوضوح: أنه جعل من ذاته علة لكتابته تبعا للأهمية التي افترضها لنفسه أصلا، من حيث السن والرتبة الاجتماعية وطبيعة المسار والانتماء إلخ. فهو “النموذج” إذن لكتابة غائية سوف تعيد صياغة الوجود الذي كاَنَهُ في الزمن الماضي، ولا هدف يرجى، بحكم طبيعة الطلب (العائلي( الذي ألح عليه، إلا أن يصوغ ذلك النموذج على الوجه الذي أصبح عليه في الحياة وبين أفراد العائلة… لكل منفعة محتملة.

ربما وجب أن أتكلم هنا عن المجتمع الفاسي العتيق في البدايات الأولى للقرن العشرين في علاقة بالدين وبالتقاليد وبمختلف الاعتقادات السائدة في مجتمع متخلف، وقع في قبضة الحماية وأصبح، في نفس الوقت ولو بعد زمن، يشهد بروز ما سوف يُنْقِضُ وجودها على نحو من الأنحاء، أي تلك الحركة الوطنية التي اقترṿ الحاج مديدش من بعض رموزها، وزامل آخرين كانوا من روادها، وتراه يقول صراحة أنه تشرب وعيها في المواجهة، وانخراطه فيها فعليا وعمليا وذاق من السجن الذي تعرض له بسببها شيئا كثيرا. والكلام عن المجتمع الفاسي يفيدني في القول إن الكتابة السيرذاتية في هذا المستوى جاءت محملة بكثير من (الحقائق) الاجتماعية والسياسية التي تؤرخ لتطور المجتمع والعائلة من حول الكاتب السارد.

أجد هنا على مستوى الكتابة ما يمكن تسميته بالإحساس الحضري، أو المديني، وأما ما ترتب عنه فهو أنها حققت أهدافا رمزية لم يكن من الممكن، فيما يبدو، تحقيقها إلا بها. أقصد:

.1 الاستجابة لطلب الأبناء من حيث هو درجة من المعرفة، والتعلم، وقدرة ذاتية على تنفيذ “الأمر”. يكفي أن نتصور حالة لا تكون فيها الاستجابة ممكنة بسبب الجهل أو التخلف أو بغيرهما..

.2 تحقيق تجربة الحياة الشخصية بصور فعلية (مكتوبة( وكرونولوجية يستطيع القارئ إدراك تطورها وحِقَبَها (الطفولة، الشباب، العمل)..، ولو لثلاثة عقود فقط، أي ما أسميته من قبل بتاريخ الأنا ولو جزئيا.

.3 العناية بالمحطات الأساسية، أو تلك التي اعتبرها الحاج مديدش، مَفْصَلِيَّة في تكوينه الشخصي (الوطنية، الأصدقاء، الاستقلال)..

.4 الكتابة نفسها، للكفاية اللغوية التي للكاتب، بالإضافة إلى ما تحقق بها، أي بعث الماضي الشخصي وتحوليه رمزيا إلى نموذج يصلح لغايات معينة.

أما “الخلاصات” المستفادة من هذه الكتابة فلا يمكن التكهن بها، لأنها مرتبطة بأفق انتظار القارئ/الطالب بحيث لم يعد الكاتب، بعد الفراغ من الكتابة، قادرا على التحكم في مغازيها، ولا في الفهم والتأويل الخاصين اللذين يمكن اعتمادهما في النهل منها، أو الاستفادة، إن شاء، من بلاغاتها ومعانيها إن أحسن فهمها واستغلالها.

* من تمهيد لكتاب صدر بعنوان: “مذكراتي.. من أيام الطفولة إلى سنة 1950″، بقلم محمد التسولي مديدش- منشورات “الموجة”، الرباط 2024.

Visited 7 times, 7 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد القادر الشاوي

ناقد وكاتب روائي