تجليات التجربة الفنية لمحمد المرابطي بمتحف فريد بلكاهية

تجليات التجربة الفنية لمحمد المرابطي بمتحف فريد بلكاهية

تولوز المعطي قبال

          بمعزل عن الدلائل السياحية، الكل يعرف موقع «المقام» الواقع بمدينة تحناوت على مبعدة 25 كيلومتر من مراكش. فهو يشير في دلالته التعددية إلى الموقع الروحي، الموقع الموسيقي، إلى موقع الإقامة الذي تتجلى فيه تبديات الكائن  في أبهى صوره.

المقام مكان تتزاوج به التجارب التشكيلية والفنية لكوكبة من الرسامين والنحاتين وأيضا الشعراء والكتاب. لذا، لا يمكن تصور المقام أو التواجد به على انفراد، بل بمخالطة مجمع للطاقات الفنية والجمالية. في هذا النطاق أمكن الإشارة إلى تلاقي الكتاب والشعراء، من أمثال إدمون عمران المليح، ميشال بيتور، محمد بنيس، بيرنار نويل، مصطفى النيسابوري، مع فنانين تشكيليين على غرار فريد بلكاهية، محمد المليحي، عبد الرحيم يامو، ماحي بينبين الخ… وقد كان المرابطي وراء عملية تزيين مدخل تحناوت برسومات لفنانين سليلو توجهات فنية متباينة. هذا دون الحديث عن الأماسي  الموسيقية، وبالأخص الأماسي الكَناوية التي كانت بمثابة نوتة موسيقية تتجاوب مع الحوز العميق بما يحمله من تاريخ صادح ومتقلب. إلا أن لكل واحد من هؤلاء فرادته الفنية وتعامله مع مخيل الفضاء وإيحاءاته التعددية. ولو تسنى للزائر العابر زيارة المحترف الذي يشتغل به المرابطي لوقف عند قاعات مبثوثة في أرجاء المكان، هي بمثابة محترفات بحيث تشمل لوحات، صور، كتب، أغراض فنية قديمة وحديثة وبقيمة مادية أو رمزية كبرى. لذا يجول الزائر بين الماضي والحاضر تذكره صورة أو منحوتة أو قول مأثور بما مضى وفات.

من أعمال الفنان محمد المرابطي
من أعمال الفنان محمد المرابطي

أما المحترف الذي يمارس فيه المرابطي الرسم والتشكيل فهو فسحة رحبة يتحرك بل يتجول فيها الفنان على هواه وبشكل طليق للاتحاد بالفراغ الممتلىء.  أضفى المرابطي إذا على المكان جمالية متشظية يجد فيها الزائر أو المقيم البهجة والمتعة. من تم أمكن القول أن المقام موقع للحفاوة، به، تنسج خيوط الإبداع والصداقات.

ثمة من يؤكد على أهمية الخط في تشكيلة اللوحة. لأن الخط حركة وافدة من بعيد، من اللحظة التي يضع فيه الطفل خطاطات على اللوحة بالمدرسة القرآنية (لمسيد). هذه الحركة هي بمثابة الدرجة صفر للرسم والتخطيط. هي مبعث للدهشة والخوف في نفس الوقت. ذلك أن الطفل يكون تحت العين الرقيبة للفقيه أو المعلم.

تخطى المرابطي هذه العلاقة بينه وبين الفقيه ليلقي بكل حرية بالخطوط والأشكال على فضاء اللوحة. لذا فإن قداسة اللوحة المحفوظة لاغية. وعليه جاءت رسوماته متحررة الشكل والمضمون. ويبقى التخييل هو السلطة التي توجه إبداعية المرابطي. يتجسد هذا التخييل في تقنيات يبقى الفنان هو الوحيد الذي يتمكن منها من حيث كيمياء صباغتها وصياغتها السرية.من حيث تشكلاتها وإنجازاتها. قد يحدث أن لا ينهي الفنان عمله الشيء الذي يفسر العودة له مرة أخرى عبر سلسلة تدخلات إضافية. من تم فإن فكر السلسلة هو الذي يحكم دينامية الفنان واستمرارية إبداعه.

ثمة محطات فنية جال في أرجائها المرابطي بدءا من الاشتغال على أضرحة السادات والصالحين الذين لا يزالون ينبضون في المخيل الجماعي، إلى الاشتغال على القارة الإفريقية مرورا بتجارب أخرى. يشير إبراهيم العلوي، الناقد ومدير متحف العالم العربي سابقا على ان « الاشتغال على الاولياء سيبقى ثابتا في البحث  الفني للمرابطي». أما سلسلة النهود فتحيل مجازا إلى تاريخ عريق يوجد في النقش على الحجر أو الصخر. ويسترجع المرابطي هذا الموروث القديم الذي سبق لعبد الكبير الخطيبي أن أشار له تحت اسم العلامات المهاجرة أو المرتحلة بشكل لاشعوري والتي تسكن التراث. سلسة القارة الإفريقية التي عرض بعضا من أعمالها ليست وليدة شغل حديث بل تعود إلى عام 2011 ، حيث خلق بينه وبين إفريقيا ألفة. ويرجع الفضل في اشتغاله على القارة الإفريقية إلى نتاج فريد بلكاهية الذي تسكن إفريقيا مشغله الفني.

بمتحف المؤسسة التي تحمل اسمه، يمكن للزائر أن يقف عند مختلف المراحل التي عاشها بلكاهية. وتبقى المرحلة الإفريقية أحد المحطات الرئيسية في نتاجه وهي التي ألهمت محمد المرابطي. لم يستلهم المرابطي المشغولات النحاسية التي أصبحت بمثابة توقيع فني عالمي بل استلهم الأشكال والألوان والخرائط التي تقدم لنا القارة في تواصلاتها وتلاحم خطوطها. 

إفريقيا كما يتصورها الفنان محمد المرابطي خرائط بلا حدود، مركز للكون تحيط به بحار ليست بالضرورة زرقاء، بحار بلا تسمية ولا هوية، نسيج مرصع على أقمشة من كتان أو حرير بألوان زاهية وزخرفة زهرية، ألياف من الألواح الدائرية. هنا إفريقيا مفعمة بالمرح والبهجة على النقيض مما هو رائج عنها كونها فريسة للمجاعة والبؤس والحروب. تعاكس نظرة الفنان هذا التصور للانصهار في جوانية وحميمية القارة الإفريقية، في عمقها التاريخي، في طاقتها الحيوية، وكثافتها البشرية والطبيعية. لذا يتموقع محمد المرابطي في هذا النتاج على مستوى عالمي، حيث تتقاطع أعماله مع أعمال فنانين كبار أمثال فيليب فافيي، غييرمو كويتكا اللذان يشتغلان على الخرائط كمادة تشكيلية. وكما لو أراد الفنان هنا التنديد بتسييج  أوروبا وأمريكا وبلدان أخرى لحدودها، فتح المرابطي إفريقيا على العالم، على الحركة، على التبادل والإبداع، على الحياة والحيوية. ويترجم النتاج المعروض هنا هذه التجربة التي تجسد وتجسم إفريقيا في جماليتها الراقية. 

 اشتغل المرابطي على هذا المشروع لسنوات زار خلالها كلا من موريتانيا، مالي، السينغال حيث وقف عند الأضرحة، المقابر وقبور المشايخ والسادات بغاية مقارنتها بأضرحة الأولياء بالمغرب وتحديدا بمنطقة الحوز:

كيف تصان وتزار هذه الأمكنة؟ هل لا زالت لها نفس الهبة القدسية ونفس الكرامات؟ هل من مشروع لترميمها بعد أن زحفت سلطة الإسمنت والزليج على المقابر. لأية جغرافية توبوغرافية تخضع هذه الفضاءات؟

رغبة الفنان في هذا الإنتاج الجديد هي مسح وإعادة كتابة وترسيم جغرافية إفريقيا على أسس جديدة حيث لا بحار ولا محيطات وإنما فضاءات مفتوحة ومرحبة بالترحال. من قبل لم تكن إفريقيا مرسومة بحسب الحدود، بل كانت القوافل تنتقل من فضاء إلى آخر إلى أن تدخل الاستعمار ورسم بسياج من حديد ونار الحدود بين دول إفريقيا. يتعلق الأمر في مشغول المرابطي بقلب الآية المألوفة والمعتادة والقاضية بموقعة إفريقيا كمحيط وكهامش.

في مشغوله أضحت إفريقيا خرائط بلا حدود. على أي ما يجمع بين فريد بلكاهية والمرابطي هو حبهما لموسيقى كناوة، صقل تركيبات الأشكال وهندستها، الاشتغال على القدسي والروحي، الاهتمام بمسألة الآخر، سواء منه البراني أو القريب الخ…وتترجم هذ المشاغل عمق الصداقة التي كانت تجمعهما والتي تجد تعبيراتها في هذا المعرض.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".