“يتشهاك اللسان” لحسن نجمي.. الإيروتيكي والشعري لبناء قصيدة مختلفة

“يتشهاك اللسان” لحسن نجمي.. الإيروتيكي والشعري لبناء قصيدة مختلفة

أحمد الكبيري

          إذا سلمنا بأن ديوان «يتشهاك اللسان” للشاعر حسن نجمي، يدخل ضمن ما يصطلح عليه بالكتابة الشعرية الإيروسية، سنجد أنفسنا أمام العديد من الأسئلة التي قد يطرحها البعض في مجتمعنا التقليدي والمحافظ، مثل هل غابت عن الشاعر كل التيمات والموضوعات ذات البعد الاجتماعي والسياسي والنفسي والروحي، ولم يجد له موضوعة تستحق الاشتغال عليها شعريا، إلا هذه التيمة الإيروتيكية التي تحتفي بالعلاقة الحميمية وسعار اللذة بين جسدين عاشقين، وعري وشبقية أعضاء تتخبط في شهوتها ومجونها؟ وهل مع هذا التطور التكنولوجي الفظيع والذكاء الاصطناعي المدهش، الذين أضحى معهما كل شيء متاحا بنقرة زر على شاشة هاتف أو حاسوب، ليحصل المرء على ما يريده صوتا وصورة، من داع إلى الاشتغال كتابة على هذا النوع من الموضوعات؟ ثم أمام ما عرفه الشعر بصفة عامة، قديمه وحديثه، عربيا ودوليا، من إنتاجات، وربما تكون إنتاجات أكثر جرأة، ماهي الإضافة التي يمكن لكتابة شعرية من هذا القبيل أن تقدمها للقارئ وللمكتبة العربية؟ ويمكننا أيضا أن نتساءل، هل ينبغي علينا إبعاد الجانب الإيروتيكي فينا عن شعرنا العربي الحالي، فقط لأن ذائقة ما أو أصواتا محافظة، قد تعتبره أمرا مبتذلا وتافها ودون أي أهمية، أو لأن منسوب الجرأة فيه عاليا؟. مع العلم، أن الايروتيكي في ممارسة حميميتنا، جزء من إنسانيتنا، بل يعتبر العنصر الوحيد الذي يميزنا عن باقي الكائنات الحية الأخرى في ممارسة غريزتها الجنسية، لما فيه من استيهامات وتخيلات، وربما حتى أمراض نفسية؟ ثم بأي حق يمكننا أن نصادر حرية شاعر في تناول ما يشاء من موضوعات وتيمات، مع العلم أن شرط الإبداع الأساس هو الحرية؟ ثم أصلا، هل لا يزال ثمة من مبرر لطرح مثل هذه الأسئلة؟

 للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، سأحاول التركيز على مسألتين أساسيتين: التيمة الأساس في ديوان “يتشهاك اللسان” والبناء الفني والجمالي فيه.

أولا: تيمة ” يتشهاك اللسان”

    يبدو واضحا من خلال العنوان، وما تحمله كلمتاه، شهوة ولسان، من دلالات شهوانية شبقية وحميمية صارخة، أننا نقف على عتبة قصيدة أو قصائد، تبدأ بالتشهي والتغزل وتنتهي عارية على سرير ملتهب داخل غرفة مغلقة. وهذا ما يتأكد لنا منذ أول شذرة في الديوان إلى آخر كلمة فيه. يقول الشاعر في بداية أول قصيدة تحت عنوان “غرفة”:

” فضاء فوضوي في الغرفة.

كل شيء ليس في مكانه إلا أنت.

طعم فمك عذب –

أريد.”

إنه مشهد كما يبدو جليا، جد مكثف، يكشف بوضوح الفوضى التي خلفتها الشهوة والحب داخل غرفة مقفلة، وما فعله اللسان برضاب اللذة يقطر من شفاه امرأة مشتهاة، ليعلن ربما، انطلاقة جديدة لخيول الرغبة الجامحة نحو معركة حامية على السرير وفي القصائد. اللسان في الديوان شبق، يتشهى تذوق الجسد ويتشهى أيضا فن القول ومذاق الكلمات.

ويختتم الديوان بشذرة أخرى، تعبر عن استمرار نفس الرغبة والشهوة حتى الموت. إذ يقول:

” وها أنا أعريك من غلالة حريرك

سأموت الليلة على ذراعك اليسرى، وفي فمك –

الليلة أفضل.”

وما بين هاتين الشذرتين، يعزف الشاعر سمفونية طويلة، فيها الكثير من النصوص على هذا المنوال، قسمها على أربع مداخل أو عناوين كبرى وهي طوق الذئب، حيطان الليل، برج الحمل وخطوات الذئب. جميعها تحتفي بعشق إيروتيكي بين جسدين حقيقين، محبين، عاريين فوق سرير داخل غرفة موصدة تتراقص فيها الظلال وتختفي خارجها الأقمار. وتحتفي كذلك بقصيدة من كلمات وصور فيها سردية جمالية وبوح كثير. ولا أظن أن الشاعر حسن نجمي، قام بعزف هذه السمفونية الشعرية اعتباطا، دون أن يتكئ على مبررات موضوعاتية أو جمالية فنية توحد قصائد الديوان جميعها، وفي الآن نفسه تحافظ لها على تميزها واستقلالها شكلا ومبنى. تماما كتنويع المعازف على آلات مختلفة في مقطوعة موسيقية واحدة.

والقارئ المتأني المنصت لهسيس الكلمات وذبذباتها، ولجرأة البوح ولجمالية الصورة وفنيتها في جل القصائد، سيتبدى له، على الرغم من اشتغال الشاعر على تيمة واحدة، الكثير من التنويع الفني والجمالي والأسلوبي في هذه النصوص سنعود إليه في الجزء الثاني ببعض التفصيل. وأعتقد أن ذلك راجع لسببين: ذاتي، يخص الشاعر. وموضوعي، يتعلق بماهية الشعر نفسه.

على المستوى الذاتي، الذي يعرف الشاعر حسن نجمي، يعرف جيدا أن للرجل روح المبادرة وكل ما يلزمها من شجاعة وإقدام ومسؤولية وجرأة وذكاء ودهاء لإنزالها. وهذا يرجع أساسا، لتعدد مسارات الرجل منذ يفاعته في حقول شتى، سياسية ثقافية صحفية، إدارية وإبداعية، وإلى ما راكمه من رصيد معرفي نظري متنوع ومتعدد المرجعيات. وأيضا، إلى ما اكتسبه خلال ممارسته واحتكاكه وانفتاحه، من تجارب وعلاقات واسعة عبر العالم في كل هذه المناحي.

لذلك فهو حين تجرأ، داخل مجتمع محافظ، (كما فعل من قبل حين أنجز أطروحته المهمة في الدكتوراة عن فن العيطة)، على كتابة شعرية إيروتيكية في “يتشهاك اللسان”، وربما هي كتابة غير مسبوقة أو نادرة في شعرنا المغربي المعاصر، ( عدا، ربما، الشاعر عبد الله زريقة في ديوانه “تفاحة المثلث”) ونقلها من عالم واقعي محسوس ولكن مسكوت عنه، إلى فن القول والشعر والجمال، فلأنه بالنظر إلى ما سبقت الإشارة إليه، يراهن على وعيه وإيمانه بأفقه الشعري الحداثي، وعلى مسؤوليته كمثقف عضوي، يدفع بهامش الحرية إلى مداه، حتى وإن كان الثمن الذي قد يدفعه (في شكل انتقادات على المستوى الشخصي والأسري والمعنوي) ليس بالرخيص. لأنه بخلاف الرواية والكتابات التخييلية الأخرى، (التي يتخفى فيها الكاتب وراء شخصية من شخصياته لتصريف قناعاته ومواقفه ورؤاه)، غالبا ما يرتبط القول الشعري مباشرة بذات صاحبه.

أما على المستوى الموضوعي، فالشعر كرؤية جمالية للكينونة والعالم والحياة والإنسان، يمكن اعتبار فكرته سليلة لحظة مخصوصة وفيض من فيوضاتها الملهمة. بينما الاشتغال على الفكرة نفسها فنيا وجماليا ولغويا، هو عمل مكتبي تخييلي بالأساس، فيه الكثير من الفكر والجهد والصبر والتأني. خصوصا إذا كان الشاعر، مؤمنا بأن القصيدة تجربة إنسانية، لا تكتب لزمن أو متلقي بعينه، بل تكتب نكاية في كل الأزمنة ومقاومة للنسيان. كتابة شعرية تنتصر للمعنى ولمقصدية الفكرة، وليس فقط لجمالية الصورة الشعرية ولفذلكة كلمات وعبارات منمقة. كان محمود درويش يقول ما معناه:” إذا حصل وكتبت صورة شعرية جميلة لكنها لا تخدم المعنى الذي أفكر فيه، شطبت عليها وضحيت بها لفائدة المعنى.”

وحسن نجمي يقول في نفس السياق:” الشاعر الحقيقي لا يغادر محترفه، وإنما يذهب كل يوم إلى عمله الشعري، إلى ما يشبه الوظيفة.”

وهذا ما سيتوقف عنده أي قارئ لديوان “يتشهاك اللسان” دون عناء كبير، فثمة حضور واضح إن لم نقل طاغٍ لفكرة كتابة شعر إيروتيكي، وأيضا ثمة اشتغال شعري حرفي واع في جل قصائد الديوان، يتكئ على مرجعية ثقافية وشعرية عالمية، وعلى تجربة حياتية ثرية يحضر فيها الماضي والحاضر، الهنا والهنالك، تشتبك فيها الذات بدواخلها وكينونتها وأحاسيسها وعزلتها، دون أن تفقد اتصالها والتصاقها بالواقع وباليومي وبالآخر.

وتظل الإضافة التي يقدمها هذا الديوان إلى الشعرية المغربية والعربية، هو هذا الغوص الشعري، الجمالي والفني العميق، في علاقة الإنسان بجسده ورغباته الحميمية والعاطفية التي لا تكتمل إلا بوجود وحضور الآخر.

إذ يصبح حضور الرجل في هذا الوجود من دون امرأة إلى جانبه يحبها، عزلة قاهرة. يقول الشاعر في أحد المقاطع:

“عزلة ألا تعثر على أحد.

أن تبقى وحدك في آخر الدنيا في سخط الزمن.

تتشهى امرأة شفيفة في حريرها القديم-

ولا تجد بقربك غير الصراط والملائكة تفرق عليك.

ترتمي لتلثم ساق الآلهة.”

ثانيا: البناء الفني والجمالي في “يتشهاك اللسان”.

    ما أدهشني في الديوان، هو أن يكتب الشاعر حوالي مائة قصيدة في تيمة واحدة على أكثر من مائتي صفحة، دون السقوط في التكرار الممل أو القول المبتذل. مع أن الموضوعة مؤطرة في الغالب، بوجود رجل وامرأة في فضاء ضيق هو غرفة نوم، وفي وقت غالبا ما يكون ليلا، لا تفتح شرفته على ضوء النهار إلا استثناء. فكيف تفنن الشاعر في تنويع قصائده على نفس التيمة؟ وإلى أي حد وفق شعريا في ذلك؟

يقول الشاعر والروائي محمد الأشعري في تقديمه للديوان: “من الاختزال أن نعتبر البعد الإيروتيكي مجرد تعلة للكتابة، فهذه الأخيرة تنتج نفسها قيما جمالية مشتبكة بموضوعها ومستقلة عنه، ولكنها تنتج أيضا إيروتيكا متحررة من الآني ومن التجربة الشخصية، وحتى من الأوفاق الجمالية، لأن من تطلعات الأدب والفن أيضا أن يخلق “تشهيات” جديدة…”

لهذا إن كان الإيروتيكي حاضرا بقوة في جميع نصوص الديوان، بما له من خطاب ومقصدية، فهو يحضر أيضا كقيمة جمالية فنية وأدبية ربما اشتهتها الذات الشاعرة لكتابة قصيدة مغايرة.

وفي هذا الباب، سأركز على ملمحين، بديا لي كعنصرين مهمين يميزان القصيدة عند حسن نجمي في “يتشهاك اللسان” وهما: اللغة وبناء القصيدة.

أولا: اللغة

    أول ملمح سيقف عنده القارئ في هذا الديوان، دون طول تفكير، هو البساطة. نعم لغة شعرية بسيطة شفيفة، بنت بيئتها وواقعها، ووليدة الفكرة التي يشيد عليها الشاعر بوعي وإيمان قصيدته. لغة تجيء من تأملات وخيال الشاعر وواقع حاله. بل هي بنت شرعية لأحاسيس الشاعر ورؤياه ولما يريد أن تصدع به قصيدته.

فلا تشعر وأنت تقرأ، أنك بحاجة إلى قاموس أو شرح أو تأويل لتفك كلمات غامضة أو تراكيب معقدة. يقول الشاعر مثلا:”

أحب هذا الصمت في كلماتك

وفي يديك

وهذا العري اللزج في غرفة المعيشة

تدفئه أنفاسك وهيجان الشفتين.”

وهي أيضا لغة شعرية راقية. فبخلاف ما نجده في أشعار عربية أو أجنبية، ذات بعد إيروتيكي، من كلمات عارية مباشرة و”خادشة” (كما عند ا شارلز بوكوفسكي مثلا) نجد حسن نجمي ينتقي بعناية فائقة كلماته للتعبير الراقي عن شعرية الجسد، بصور شعرية إيروتيكية. بحيث تصبح العلاقة بين الإيروتيكي والشعري في قصيدة نجمي، تكاملية. أو كما عبر عن ذلك أكتافيوباث بالقول:” إن الإيروسية شعر جسدي وأن الشعر إيروتيكا لفظية، كلاهما مكون من تعارض تكاملي.” فقط أن حسن نجمي في إيروتيكية قصيدته، يترفع عن أي لغة صادمة للمتلقي أو تتعارض مع الذائقة الفنية والجمالية، التي يبني عليها بوعي شديد قصيدته. وهو القائل في أحد حواراته: “ أكتب قصائدي بالكلمات الصديقة التي أحس بها، أحبها وأثق في ذاكرتها وفي مجهولها.”

 وهي أيضا لغة واعية. يقول الكاتب والناقد يحيى بن الوليد:” القصيدة بدون سند معرفي لا يمكن إلا أن تكون قصيدة ضامرة.” وحسن نجمي بهذا المعنى، لا يكتب قصيدته فقط لأنه يمتلك ناصية اللغة وفن قول الشعر، ولكن يؤسس لاختياراته الشعرية بناء على بعد معرفي وخلفية فكرية، اكتسبها الرجل كما سبقت الإشارة إلى ذلك، من انفتاحه على تجارب شعرية عربية وعالمية وأيضا على قراءات في مجالات متعددة وبلغات مختلفة. وهو القائل في أحد حواراته:” كل فعل لغوي في القصيدة لا بد أن يصدر عن نسب معرفي وعن خلفية فكرية.”

 وسيظهر لنا ذلك جليا، في الكثير من نصوص الديوان، تركيبا وصورا، وكذلك من خلال اعتماد بعض الشذرات الإيروتيكية لشعراء عالميين كبار، مثل لوي أراغون وريتسوس وأوكتافيو باث وغيرهم، كعتبة أخرى للديوان.

فعندما يقول أوكتافيو باث مثلا:” أمضي عبر جسدك، مثلما عبر العالم.” نجد حسن نجمي يرسم لنا لوحته الشعرية بلغته الشفيفة وانطلاقا من تجربته الخاصة فيقول مثلا:

” عندما جئت، كنت كما لو هربت من جيش نظامي،

انحنى البحر على قدميك يلثم الخطوة التي أعطت لليابسة معنى”

وهي لغة، كما يبدو، سهلة جدا، لكنها حين تتشكل كجملة شعرية، تصبح لوحة جميلة، عميقة، موحية، رامزة وذات حمولات دلالية متعددة.

وهذا أيضا، ما نراه ونحسه حين يقول في نوع من الرجاء والابتهال:

اسحبيني نحوك كي لا أقضي ما تبقى من عمري في عري الوقت.

أحيانا أموت.

جريني جر الموتى واملئيني ببعض من روحك.

تخطتني جيادي. لم يبق غير الصهيل.

والآن تهشمني حجارة الطريق.”

شذرات بسيطة لغويا، لكنها مكثفة جدا في تركيبها، تجعلنا أمام صور ومشاهد لها أبعاد دلالية عديدة. وربما سر القوة فيها، أنها تستطيع القبض على ما هو معقد ومتشابك في الواقع، وتبسيطه فنيا وجماليا، بكلمات قليلة وأسلوب شفيف، ثم تنثره عذبا في القصيدة.

الملمح الثاني: البناء الفني

    ما لفت انتباهي في بناء قصائد هذا الديوان هو الثنائيات المميزة لها، مبنى ومضمونا، وسأكتفي بالإشارة إلى الثنائيات الخمسة التالية، مع استحضار نماذج شعرية من الديوان للتمثيل لها والبرهنة على حضورها:

 1- الشعري والسردي في الديوان

مما لا شك فيه أننا أمام ديوان شعر، متفرد ولذيذ، لكن ونحن نقرأ القصيدة تلو الأخرى، نتعثر ببعض المقاطع التي لو محونا تقسيمها وحذفنا البياضات الفاصلة بين الكلمات والجمل فيها، لما ميزنا بينها وبين أي مقطع سردي لروائي متمكن من أدواته. مثلا:

“لا أذكر كم مر علينا من وقت

ونحن هناك نتبادل القبلة تلو القبلة

نتعرق معا خلف النافذة الموصدة

يصطفق جسدانا العاريان صدرا على صدر

قلبانا يتبادلان النبض

كهدهد أنسته ملكة سبأ قرآن وعده.”

 2- الاكتمال والتكامل

    المقصود بالاكتمال، أن كل نص شعري في الديوان يشكل وحدة شعرية مستقلة بناء ولغة وموضوعة وخطابا. ويمكن قراءته على هذا الأساس، دونما حاجة إلى ما يسبقه أو يلحق به من نصوص شعرية أخرى، لتفسيره أو الغوص عميقا في خطابه. بينما التكامل هو أنه يمكننا أيضا، قراءته كجزء من سردية شعرية ذاتية، تتكامل فيما بينها لتنتج لنا وحدة نصية موضوعية عامة تشترك في تيمة الإيروسية واللغة ورؤية الشاعر للعالم من نافذة تطل على الواقع والذاكرة والحب. وأعتقد أنه يمكننا من خلال التركيز على هذه السردية الذاتية العامة، أن ننفذ إلى أشياء مهمة في حياة الشاعر الوجدانية والعاطفية والإيروسية والواقعية.

فيكفي مثلا للتدليل على هذه السيرورة في العشق، وترابط وتكامل الذي مضى بما يحدث في الحاضر، قول الشاعر في نص بديع تحت عنوان” ذكرى”:

“اشتقت إلى وجنتيك حمراوين في الريح البعيدة (تعالي).

إلى أول عناق وأول قبلة (تعالي).

وشجرة الحور. والدالية والعليق(تعالي).

اشتقت إليك وإلى نفسي واقفين في رجفتنا الأولى قرب سياج الليل(تعالي).

واهدئي من جديد كما كان عليك أن تهدئي،

حين اتكأنا لأول مرة على أكداس التبن.

والليل كثير.”

3- الشذرة والقصيدة

    كذلك تبدو هذه الثنائية لافتة للنظر في جل قصائد الديوان، بحيث اعتمد الشاعر في بناء العديد من قصائده على تشذيرها إلى مقاطع شعرية قصيرة ومكثفة كطلقات منفردة.

يقول مثلا:

“أعرف أنه الليل حين أرى النجوم.

أعرف أنه الصباح حين أرى النمش في وجهك”.

وهناك بطبيعة الحال، نصوص طويلة، فيها فقرات كثيرة مرتبطة ببعضها، لا تمنحك شعريتها إلا في تفاصيلها وبعض القفلات المركزة. كما في قصيدة “اللسان” أو في قصيدة “كتاب الغابة” أو في قصيدة “رائحة جسدك”.

4- الحضور والغياب

    وهي ثنائية، تنبني على حضور وغياب الفعل الإيروتكي في الواقع وفي النصوص الشعرية. بحيث نجد في كثير من الأحيان، الشاعر يعمد إلى بناء نصوصه على الحضور الطاغي للجسد، (جسد العاشق والمعشوق) فيتفنن في نقله بالكلمات إلى القصيدة كما في المقطع التالي:”

(كنت في العشرين، كما كنت)

وكانت للسانك فتوة الكلمات.

كان لك زهو تلك الأيام،

أيام أغلقت فرجك بمفتاح الخضرة وبسورة عذراء.

وعلى إكليل شعرك وضعت إكليل الورد.”

 5- صوت العاشق وصوت المعشوق

    لا يكتفي الشاعر في بناء نصوصه على ما يتشهاه لسانه فقط، وشهوة اللسان هنا لا تقتصر على الفعل المادي المحسوس كالتقبيل، بل يعمد أيضا إلى إسماع صوت ما تتشهاه الأنثى المعشوقة من رغبات في الفعل والقول. ولهذا نقرأ في العديد من النصوص تناوبا في ممارسة هذه الشهوة بينهما، في الغالب، على شكل حوار شعري يفصح فيه كل طرف عما يرغب فيه ويشتهيه. تماما كما قد يحصل من تفاعل بينهما على سرير الرغبة وداخل غرفة القصيدة. ولعل بناء النص الشعري على هذا المنوال، من شأنه أن يتيح للقارئ أن يطلع على مساواة حقيقية، بين الرجل والمرأة في ممارستهما لحميميتهما والتعبير عن شهوة لسانهما دون استبداد أو نرجسية أو ادعاء أحد منهما. مما جعل الاختلاف بينهما يبدو طبيعيا، لبلوغ نوع من التكامل والانصهار في حميميتهما. وسأكتفي للتمثيل على ذلك بالمقطعين الشعريين التاليين:

هو:

” أحبها هكذا، حين تعض شفتي السفلى كمغتاظة.

وأحبها حين تعض الهواء الذي أراه على شفتيها.

أحبها هكذا منفلتة كرسولة عالية، كغيمة شردت.

أحبها حين تسرح كالمطر مع القطعان.

وأحبها حين تتبعثر صورا في الليل-

وتتشهاها قصيدتي.”

هي:

” الآن أشتهي رجلا يأخذ عطلته من العالم ليتفرغ لي.

 يملأني بالذكريات ويندس في ألبوم الصور.

أحلم بغرفة أوسع للمداعبة.

وأشتهي نتفة جسد ألامسها…”

 في الخلاصة، يمكن القول إن ديوان “يتشهاك اللسان” نجح في كسب الرهان بتقديم لوحات شعرية ذات بعد إيروتيكي عاطفي وجمالي، مؤطرة بوعي ومعرفة ومقصدية شعرية كل طموحها كان أن تقدم قصيدة مختلفة.

Visited 50 times, 11 visit(s) today
شارك الموضوع

أحمد الكبيري

كاتب روائي من المغرب