غاستون باشلار: أمبادوقليس (2)
ترجمة: سعيد بوخليط
لم يتم التلفُّظ باسم أمبادوقليس عبر أوريكا (وجدتها) لكنها ذكرى حاضرة ببداهة في تأمُّل إدغار بو. الموقع الفلسفي الذي قصده إدغار بو كي يحلم بعالم متوحِّد، في نفس الوقت تعميقه الوجود، هو نفس الموقع، حيث تقارب لدى أمبادوقليس الوجود واللا-وجود. يتبدَّى وجود العالم هنا، وفق كلِّ مداه وعظمته. نواته امتداد الفضاء اللانهائي. مع ذلك تنطوي ضخامته على النار المدمِّرة. هنا العدم ضخم والبحر عظيم.
سأحاول تبيان أهمية هذا الجدل الحسِّي العملي بين الوجود واللاوجود في موقع وفعل أمبادوقليس. أقتفي أولا أثر الرَّنين الشعري لهذا الجدل ضمن التراجيديات وكذا القصائد الغنائية التي أنجزها كبار الشعراء. هكذا سأتوخَّى، من خلال الشعراء، تناول الجاذبية الصادرة عن رمز للتحطيم. رمز لا يكتمل تحقُّقه قط، ويبقى تحديدا ضمن رِفعة شعرية النار.
حينما يذهب اليوم مسافر إلى جبل إتنا، سيتذكَّر أمبادوقليس. إذا سقط وسط الفوهة، فلن يكون سوى تصرُّفا فاشلا، أو تصرُّفا شعريا فاشلا. نعم، تكمن الوسيلة الوحيدة كي نختبر فعل أمبادوقليس، في تحويله إلى قصيدة.
بعد استعراض حكايات المآسي الكبيرة، سأجمع في جزء ثان من هذه الدراسة، صورا أقلّ تأثيرا تكشف عن محاولات أقلّ اندفاعا وبالكاد حسية. بمجرد تبلور صورة تُظهر مع ذلك، دون اعتراض، فعل خيال أمبادوقليس. ألامس هنا السيادة الشعرية لعُقَد متخيَّلة، تتحقَّق من خلال قسوة صغيرة للصور. ندرك حينها أمدا تتبادل عنده المازوشية والسادية باستمرار زخمهما. حتما، تغدو الفراشة التي تسرع نحو اللَّهيب ضحية الانتحاء الضوئي. إنَّها خلاصة فورية يستنتجها محلِّل نفساني يهتم بالتحليل النفسي الحيواني.
لكن ماذا عن حالم؟ وكذا شاعر (2) يحلم دون حاجته كي يرى؟ سأقرِّر، إذا أمكن تجميع أمثلة حول صور أمبادوقليس دون مجازفة. فلتكن البداية مع المذهل.
عمل غير مكتمل، تستعيده غالبا دراسات مختلفة، بل مختلفة جدا، مادام موت أمبادوقليس، يساعدنا في توضيح صعوبة الانتقال من مشروع إنساني إلى محنة كونية.
ثلاثة نماذج حول هذه الموضوع جمعها وترجمها للمرة الأولى أندري بابلون (3):
الأولى تراجيدية، كُتِبت إبَّان خريف سنتي 1797 و1799، تضمَّنت فقط المشهدين الأوَّلين.
النسخة الثانية، أنجِزَت سنة 1799، من خلال دراما شَكَّلتها خمسة مشاهد. كُتِبت فقط شذرة من المشهد الأول. سنة 1800، أضيف إليها ”مشروع تمثيلي” (ملحق بالدراسة التاريخية)” أعادت هذه النسخة، صياغة الأولى: ”وقد استلهمت المشاهد الأخيرة من النسخة الأولى اندفاع البيت الشعري الحرّ، الذي سيغدو في عمل هولدرلين اللاحق الشكل الوحيد والأساسي للغنائية”(4).
تحيل النسخة الثالثة، بالتأكيد على سياق بداية 1800، التي تضمَّنت العنوان الحاسم التالي ”أمبادوقليس في جبل إتنا”: “عمل جديد تماما، ميَّزه منحى مختلف جدا، تجاهل المشاريع السابقة” حيث نلاحظ: ”مجهود التراجيدية قصد الاحتفاظ وكذا ترجمة تامة لكل المحتوى الشعري الذي تضمره شخصية أمبادوقليس”(5). رمز في نهاية الكتاب بمثابة تصميم تمثيلي لما سيأتي لاحقا.
أقدِّم هذه الخطاطة عن عمل هولدرلين حتى يستطيع كاتب معين التواصل بيسر مع أكثر النصوص أهميَّة. عند الإحالة على أطروحة بيير بيرتو (6)، ندرك بشكل أفضل المأساة الحقيقية للإبداع الأدبي. بالفعل، منذ بداية صيف1797، بعد انقضاء فترة قصيرة عن إصداره الجزء الأول من ”هايبريون”، وجد هولدرلين نفسه أمام لبنات مشروعه. مشروع قيِّم للغاية والهدف في غاية الجمال! هذا تفسير لعدد المسودَّات والمقالات؟ الحياة المادية والمجتمعية، غير محرجة هنا. هدوء أوَّلي يكتنف بداية المشروع.
شهر نونبر 1798، كتب هولدرلين إلى صديقه نوفير ما يلي: “أتواجد هنا أكثر من شهر تقريبا، استمتعتُ خلال هذه الفترة بالهدوء وأنا منكبٌّ على حكايتي الدرامية، والتمتُّعِ بأيام الخريف الرائعة”(7). هكذا، تحكم المشروع إشارة سعادة فترة فصل خريف، وعلى أبواب إنجاز مهام رائعة خلال الشتاء. عبقرية هولدرلين الغنائية والشعرية في أوج عطائها. لا شيء يمكنه تأخير العمل، مع ذلك لم تسعفه بهذا الخصوص العبقرية التي تعتبر أفضل مرتكز قصد الاهتداء غاية سعيه.
تبدو لي واضحة خلاصة قابلة للتجلِّي من ذلك الفشل: إذا اقتضى الأمر جعل موت أمبادوقليس، موضوع تراجيدية، فينبغي لهذه ”التراجيدية” البدء خلال المشهد الخامس، بل أساسا المشهد الأخير. وإذا تحتَّم جعله موضوع حكاية درامية، فيلزمها أن تكون مأساة شخص واحد. نجدنا فعلا حيال تناقض داخلي للفلسفة المسرحية. هل يلزم إضافة صعوبة تجسيد ”الديكور” التمثيلي. ينبغي تعويض البركان برمز. قدر التأكيد على أنَّ أمبادوقليس لا يمكنه استساغة سوى أبعاد قصيدة، يصعب ”تحقيقها” مادامت هي فلسفية، التُقطت عند الحدود بين الحياة والموت، الوجود والعدم. أيُّ مجد نتحسَّسه عندما تغدو النار شخصا! ستكون هذه النار/الشخص أنيموس العالم، الجديرة بأن تكون شريكا لأنيموس أمبادوقليس التي تحدَّت البركان.
أشار بيير بيرتو بحقٍّ إلى استبعاد لـ”الكومبارس”، من نسخة لأخرى، تواجدوا هنا فقط للعمل على إظهار أمبادوقليس، ويستعيد بيير بيرتو “ارتياح هولدرلين” نتيجة بلوغه دراما شخص واحد. إذا اختبرنا صيرورة محاولات هولدرلين كظاهرة أدبية، وظاهرة للإبداع الشعري، يمكن أن نستشفّ هنا تفوقا للقاعدة الكلاسيكية بوحداتها الثلاث، تسودها وحدة الشخص: وحدة الزمن بزخم اللحظة، وحدة الموقع فوق قمة، وحدة فعل يركِّز على اتخاذ الموقف. يمثِّل المشروع المأمول نوعا من البناء النفسي الهَرَمي الذي يحمل صوب القمة كائنا أمبادوقليسيا. يذوب تكثيف من هذا القبيل ضمن السرد المسرحي. بالتالي، لا يمكنه الاحتفاظ بديناميكية السموِّ النفسي سوى مع ترنيمة، في قصيدة غنائية، وبين طيات مقطع شعري(8).
فِعْل أمبادوقليس عظيم للغاية بحيث لا ينتمي إلى علم النفس الخاص بالفعل. قيل غالبا عن معاناة هولدرلين الحقيقية بخصوص: ”خشية من الالتزام”. لكن التزام بطله يقطع مع كل التزام، فهذا الفعل الأمبادوقليسي غير موصول بأيِّ عِلَّة. إنَّه فعل فكر واعٍ بعزلته المطلقة.
عزلة تؤلم، من خلال دراسات هولدرلين وتنقيحاته. كيف لانستغرب من إقحام المسودَّة الأخيرة لشخصية جديدة، من زمن آخر، وفيلسوف ينتمي إلى فكر آخر، أقصد “ماني المصري”. الحوار بين أمبادوقليس والمصري ليس إنسانيا؛ بل اتَّخذ منحى كونيا من خلال سمات معينة. ألا تشير إحالة هولدرلين على ضَرْبٍ يتجاوز الفلسفة الإغريقية، على رغبته بأن يكون وحيدا، بعيدا عن النصوص، التاريخ، قصد تمثُّله كلِّيا مصير البطل؟ يصبح أمبادوقليس بطل الوجود أمام كائن اللا-وجود. سنكون في أوج البطولة، انصهار بين بطولة دون تعليل ثم بطولة من أجل اللاشيء (9).
جَسَّدت مهمَّة تشكيل شعرية بطولة خالصة وَجَعا حقيقيا لدى الشاعر. انطوى الملخَّص المسرحي من خلال صفحتين اختتما الكتاب الذي ترجمه أندري بابلون، وعبر توالي المشاهد، على إشارات بخصوص النَّبرة التي تقتضي اكتشافها.
المشهد الأول من الفصل الرابع: ثلاث شخصيات، هم: أمبادوقليس، باوسانياس، بانثيا. بطل، رجل وامرأة: ”مرثاة” أو ”بطولة”.
المشهد الثاني: أمبادوقليس وحيدا، وتتعلق النَّبرة المتوخاة بالتعارض الدقيق والمتوازن: “مرثاة بطولة؟”، ”بطولة مرثية؟”.
المشهد الثالث: كان يفترض تركيز نبرته على التمجيد الثنائي للأنيموس من طرف ماني المصري وأمبادوقليس، لكنها أضحت نبرة ”بطولة غنائية؟”
المشهد الرابع: ”غنائية بطولية؟”حيث أمبادوقليس وحيدا.
لم يتحقَّق العثور على النَّبرة الشعرية. يظل مطروحا سؤال تطورها عبر استعراض العمل. قدَّم لنا هذا التطور موضوعا جميلا بهدف تأمُّل الأنيما والأنيموس. من الرثاء إلى الغنائي، هذا مايثير الحلم لدى ”حالم بالكلمات”.
عموما، كي تموت بطلا، وترتطم بموت أمبادوقليس وسط نار البركان، يلزم قبل الفعل السامي، الابتعاد وتذويب مختلف الذكريات، التي احتفظت بها أخيرا الأنيما، ومحو كل مرثيات الحياة العذبة والصادقة، نسيان ما لا ينسى.
كتب هولدرلين في جملة مقتضبة: ”تستمر قضية تعيين الأسطورة الغنائية”(10). يمكننا تأويل ذلك بشكل صريح: بعد إخفاقات الشاعر على مستوى كتابة أسطورة أمبادوقليس، أسطورة الموت وفق الأنيموس في النار، تظل مسألة تحديد غنائية أسطورة الموت الإرادي.
هامش:
Gaston Bachelard :Fragments d une poétique du feu (1988).PP :135-1
(2) قصيدة غوته “حنين سعيد” (ديوان الغرب-الشرق، ترجمة هنري ليشتنبرجر، 1950، ص 83- 81):
”لاتخبر بذلك أحدا سوى حَكِيم،
لأنَّ الحشد مُلَقَّن على التهكُّم :
سأمدح حَيّا يتطلَّع إلى الموت وسط شعلة لهيب.
إبَّان طراوة ليالي الحبِّ
حينما تتأتَّى لك الحياة،و تمنحها.
يتملَّكُكَ شعور غريب
حين توهُّج الشعلة الصامتة.
لن تستمر قط منزويا
عند الظِلِّ القاتم،
ثم تجتذبُكَ رغبة جديدة
وجهة زفاف أعلى.
لا مسافة تصدُّكَ،
تسرعا محلِّقا، مسحورا،
وأخيرا، عاشقا للنور،
أنت الآن، فراشة ملتهَمَة.
طالما أنَّكَ لم تفهم
هذا: الموت في خضمِّ الولادة!
أنت مجرَّد زائر
فوق سطح هذه الأرض المظلمة”.
(3) فردريك هولدرلين: موت أمبادوقليس، ترجمة وتقديم أندري بابلون، غاليمار 1929 .
(4)نفسه، تقديم أندري بابلون، ص 8- 9
(5) نفسه ص 11
(6) بيير بيرتو: هولدرلين، دراسة في السيرة الذاتية الباطنية، 1936، ص 169 .
(7) نفسه ص 169
(8) “ليست شذرات أمبادوقليس، مقاطع لتراجيدية بل هي قصيدة تراجيدية ” (بيير بيرتو،ص 178)
(9) أيُّ إشارة بالنسبة لهذه السمة من التاريخ: لن يترك أمبادوقليس إلى العالم سوى صَنْدَلٍ!