هوامش في الأدب: سؤالان وحيرتان

صدوق نورالدين
هما سؤالان وحيرتان.
يرتبط الأول بالحياة من خلال السفر. والثاني بالموت. الناظم الرابط بين السؤالين: القارئ. ليس أيها، وإنما الحريص على دقة المتابعة ومواكبة ما يمكن أن يشكل جديدا.
يرد السؤالان في كتاب “أن تلمس الكتب” للكاتب الإسباني “خيسوس مارتشاملو غارثيا”. صغير الحجم، مكثف ويختزل بقوة علاقة “خيسوس” بعالم القراءة. أقول إن هذا الكتاب مكتبة عالمية، إلى الحد الذي دعا مؤلفه عند التفكير في ترجمته إلى اللغة العربية بتوقيع من مارك جمال، إلى أن يوسع فكرته بالتطرق للأدب العربي قديمه وحديثه. القديم بذكر الصاحب بن عباد و الجاحظ. والحديث بالإشارة إلى نجيب محفوظ و محمود درويش.
يختصر” مارتشاملو غارثيا” كتابه في قوله:
” من عادتي القول إن هذا الكتاب هو الأكثر شخصية بين كتبي كلها، والأقرب إلى سيرتي الذاتية، والأوثق صلة بي وبعالمي، الذي ينطوي على قليل من الشطط ويحفل بالقراءات والأهواء الأدبية : أتعرف نفسي في كثير من صفحاته حيث أصور علاقاتنا بالكتب، تلك العلاقة الشغوف المتحمسة، المرضية قليلا في بعض الأحيان”. (ص/6)
وأما السؤال الأول أو الحيرة الأولى فهو/هي:
“لو ذهبت إلى جزيرة مهجورة، فأي كتاب تحمل إليها؟”
يصعب على أي قارئ تحديد الإجابة في عنوان ما، ولكتاب ما. فالعناوين تتسابق إلى ذاكرته بهدف الإعلان عن وجودها. تذكره بالمكتبة التي يتردد عليها بغاية معرفة جديدها، مثلما تشير إلى المرات التي يكون قرأ فيها هذه العناوين التي تلح عليه إلحاحا وتفرض اختيار واحد منها. بل إن الهوامش التي دونها، والفقرات التي سطر عليها تجدد صورة الحياة التي أمضاها ليس مع عنوان واحد، وإنما أكثر من عنوان، وعبر أكثر من زمن. لكن وفي “جزيرة مهجورة” ينبغي للكتاب أن يكون كتبا في كتاب. كتاب الكتب. حيوات في حياة. و مادامت الحيرة تتلبسني أنا المهووس بالكتب والعناوين إلى الدرجة التي بت لا أعرف فيها كيف ستكون نهايتها بعد موتي، أترك الإجابة لاختياراتكم المفضلة والسديدة.
جاء السؤال الثاني على هذه الصيغة:
“يسألني الناس أحيانا: أي كتاب أنقذ لو ضربت بيتي كارثة، كالفيضان أو الحريق؟”
لا يختلف السؤال عن سابقه. ثمة قارئ، كما اختيار. لكن _ كما سلف _ ارتبط الأول بالحياة، والثاني بالموت. إذ “الجزيرة المهجورة” ليست “الفيضان” أو “الحريق”. تختزل الجزيرة حياة الكتاب، وحياة القارئ. وقد يعود المرء دون الإقامة الدائمة. يعود لممارسة طقوسه والكتاب. لكن صدمة الكارثة هزة عنيفة، جسدية ونفسية. قد تودي الجسدية بالحياة، بقارئ الكتاب. ومن الممكن أن تؤثر نفسيا. فالقارئ لما يعايش أرواح المؤلفين، يكون في جنة القراءة. أما وهو يفقد المعايشة، يتفقدها في حنين آسر. من ثم يعيش على التذكر. تذكر المؤلف الذي كان يسكن الرف الأول، والآخر الذي وجد في الرف الأخير. والمرة الأخيرة التي تصفح فيها آخر كتاب، إلى ما لا نهاية السلسلة الممتدة بامتداد الحياة.
تحضرني صورة أستاذ الفلسفة الذي احترق جزء من مكتبته. من معرفة بناها على هواه واختياراته. وكيف أصيب بجنون ظل يلاحقه مدة طويلة.
تتسابق عناوين الكتب، ويتسابق المؤلفون بحثا عن طوق النجاة من موت مؤكد. وتظل حيرة الاختيار قائمة.