نعيمة سميح الصوت الجريح.. أيقونة الغناء المغاربي

بوشعيب الضبار
تصدح الحنجرة الذهبية للمطربة المغربية نعيمة سميح، المتميزة بخامتها الصوتية وبحتها الخاصة، بأي أغنية من رصيدها الفني، فيتردد صداها، متبوعا بآهات الإعجاب من جمهورها عبر العالم.
عندها في كل بلد مغاربي، خليجي، أو عربي، أو أوروبي وسط المهاجرين، العديد من المعجبين، ذكورا وإناثا، شبابا ورجالا، نساء وأطفالا. الكل يحفظ أغنياتها، ويطرب لنبرات صوتها المغموس في الشجن، والمفعم بالإحساس الجميل.
في تونس، على سبيل المثال لا الحصر، تحظى نعيمة سميح بمكانة خاصة، في هذا البلد المغاربي المحب للشعر والحرية والموسيقي والجمال.
بشعور فياض بالحنين والامتنان، تحتفظ نعيمة سميح بأجمل الذكريات عن سهرة أحيتها هناك، فما أن أطلت من وراء الكواليس، في خطوات نحو الخشبة، تغمرها هالة من الأضواء، في بث تلفزيوني، حتى كانت في انتظارها عاصفة من التصفيق.
هرع التونسيون بمختلف أطيافهم وفئاتهم الاجتماعية، لملاقاة مطربة مغربية طالما حركت مشاعرهم بأغانيها التي تتسرب إلى شرايين القلب، وكانت كلما شرعت في الشدو، تجاوبوا معها بصوت جماعي، فيما يشبه “الكورال”، في تفاعل وتجاوب مثيرين للانتباه.
إنها، كأي مطربة واعية، تدرك أن الغناء هو دورها، وإرضاء الجمهور هو هدفها، ولذلك استجمعت كل مشاعرها لتسكبها في صوتها لعله يكون بلسما لكل محب سهران، ووعدا باللقاء لكل عاشق ولهان، ومنارة ضوء لكل حائر عطشان.
من مقاعد المتفرجين، كانت نعيمة سميح تبدو فوق الخشبة، وهي تغني “ياك أجرحي جريت وجاريت”، كأنها في مناجاة وعتاب لجرحها النازف بين الضلوع، حد الوجع.
هذه الأغنية المترعة بالحزن والألم، التي سجلت منتصف السبعينيات، والمعبرة عن أدق المشاعر العاطفية، تلمس وترا حساسا عند الجميع، إذ لكل واحد منا جرحه الشخصي، في انتظار أن يتكفل الزمن بتضميد الندوب العالقة في أعماق النفس.

إنسانيا ووجدانيا وفنيا، ارتبطت نعيمة سميح بهذه الأغنية منذ أزمتها الصحية، وخضوعها لمقص الجراح، وفقدانها لإنسانة عزيزة عليها، هي أختها المرحومة الإعلامية الشابة زهور سميح، التي كانت بمثابة سندها الأول في إقناع والدها، بالإضافة إلى والدتها، للموافقة على دخول ميدان الفن.
ولعل الشعاع الذي يملأ عليها حياتها بالدفء والأنس، هو ابنها الوحيد “شمس” من زوجها مصطفى بلقايد، بطل المغربي السابق في سباق الدراجات، وقد حاول أن يقتفي خطى والدته في الغناء، قبل أن يبتعد عن الأضواء.
ورغم نأيها عن الخوض في السياسة، فهي مطربة مغاربية بامتياز، ويهمها جدا تكريس الوحدة المغاربية بعيدا عن أجواء التوتر، ومن هنا جاء أداؤها لأغنية تدعو بصوت الحكمة والتعقل إلى مراعاة الجوار الجغرافي بعنوان” جاري ياجاري”، في تلميح واضح إلى الشقيقة الجزائر.
في بداية خطواتها على درب الفن الطويل، لم تكن نعيمة سميح في حاجة إلى وساطة لفسح المجال أمامها، رغم صعوبة البداية، فقد كان صوتها الآسر هو سر نجاحها وجواز سفرها إلى قلوب الناس.
استحدثت أسلوبا تعبيريا في الأداء، لا تستطيع أية مطربة مغربية أخرى مجاراتها فيه، علما أن هناك أصواتا غنائية نسائية جديدة لا تقل عنها جاذبية، إلا أن وميض اسم نعيمة سميح ظل أكثر توهجا في سماء الفن، وحضورا في الذاكرة، رغم غيابها عن الساحة منذ عدة سنوات.
تشرفت بمعرفة نعيمة سميح شخصيا في بداية سبعينيات القرن الماضي، وعلاقتي بها كانت علاقة صحافي بمطربة يعشقها الكثيرون، ويهمهم جدا متابعة أخبارها، وأذكر أن أول مقال نشر عنها، بعد ظهورها كموهبة صوتية جديدة،على شاشة التلفزيون المغربي كان من توقيعي في صحيفة “الأنباء” الرسمية.
وبفعل مواكبتي لمسيرتها الفنية، كنت أتردد عليها في صالونها الخاص لحلاقة النساء، الذي كانت تديره بالدار البيضاء، قبل احترافها للغناء، وفي حوزتي أكثر من حوار صحافي معها، وفي ملف الذكريات صفحات متناثرة أتمنى أن يضمها يوما ما كتاب عنها.
وتبعا لذلك، أعرف معدنها الأصيل كإنسانة لم يغيرها النجاح الجماهيري، بل ظلت كما هي، عفوية ومتواضعة، ولا غرابة في ذلك فهي بنت ناس، ومن عائلة عريقة ومحافظة.
ألقاب عديدة أطلقت عليها، منها:”المرضية”، و”أيقونة الأغنية المغربية”، و”سيدة الطرب المغاربي”، و”كوكب المغرب”، وغيرها من الصفات، لكنها تفضل لقب “مطربة الشعب”، باعتبارها واحدة من بناته.
تحفظ القرآن منذ الصبا، ويمتليء صدرها بالإيمان، ويتذكر المشاهدون ظهورها
بلباس نساء الشمال، وهي تغني “أنا ديني دين الله”، ضمن “السهرة العربية المشتركة”، الخاصة بطقوس العرس المغربي، بمدينة تطوان سنة 1974.
عاشقة للشعر، وتتذوقه جيدا، وتعتز بكرامتها، ولربما وجدت في أغنية “لست أشكو منك” من شعر كامل الشناوي، وألحان الفنان عبد الحميد بنبراهيم، انعكاسا لنفسيتها، ولسانا لحالها:
“أنا لا أشكو ففي الشكوى انحناء
وأنا نبض عروقي كبرياء..”
____________________________________________________________________________________________________________
* شهادتي المتواضعة ضمن كتاب “نعيمة سميح أثرا تونسيا” الصادر عن منشورات سفارة المغرب في تونس،(سلسلة “غبطة الجوار” العدد الثاني) بمشاركة مجموعة من الأقلام المغربية والتونسية.
Visited 55 times, 1 visit(s) today