محمد عنيبة الحمري: … والشعر كان لأكدح الطبقات!

محمد عنيبة الحمري: … والشعر كان لأكدح الطبقات!

أحمد قابيل

            بعد التأبين والتكريم الذي قامت به مدينة مكناس، وكلية الآداب عين الشق للمرحوم، كان لا بد أن يتولى أبناء الحي، الذي ترعرع فيه محمد عنيبة الحمري، هم أيضا تنظيم هذا التأبين، ولذلك أشكر فرع الحي المحمدى لـ”جمعية الشعلة” على القيام بهذه المبادرة.

تجمعنى بالفقيد مجموعة من القواسم المشتركة:

– نحن أبناء نفس الحومة: حي السككيين، ونفس الوسط الاجتماعي: أبوانا معاً سككيان، ونفس المدرسة الابتدائية التي تقاسمنا فيها القسم لثلاث سنوات 1956/1957/1958: “مدرسة الاتحاد”، ثم درسنا في نفس الثانوية: “معهد الأزهر” بـ”لارميطاج”. ثم كانت لنا نفس الاهتمامات الثقافية والأدبية. وقبل ذلك نعيش في نفس الحى الكبير: الحي المحمدي (كاريان سنتظرال)، حي الفداء والنضال الذي أعطى كثيراً من المقاومين، الحي الذي ارتكبت فيه مجزرة السابع والثامن من ديسمبر 1952، المعروفة بـ”أحداث فرحات حشاد”، والتي سقط فيها مئات الشهداء، وكانت لها أصداء داخل المغرب وخارجه، في فرنسا وأوربا، وداخل أروقة الأمم المتحدة.  الحي الذي شهد كثيراً من العمليات الفدائية، عشنا بعضها ورأينا بعضها رأي العيان، (مثلا اغتيال المُخبِرة بجاجا (جيم مصرية) أمام مدرسة عمر بن الخطاب، أو اغتيال Othon  Gambert  مدیر مدرسة درب مولاي الشريف – ابن بسام حالياً)، وهي أحداث جرت قبيل الاستقلال 1955/1954.

الأستاذ أحمد قابيل أثناء إلقاء كلمته
الأستاذ أحمد قابيل أثناء إلقاء كلمته

 وعشنا جميعاً الاحتفالات الهائلة التي أقيمت في شوارع الحي الحمدي، بمناسبة رجوع محمد بن يوسف من منفاه إلى المغرب، في نوفمبر 1955. ثم الاحتفالات التى أقيمت بمناسبة توقيع وثيقة الاستقلال في مارس 1956. شاركنا جميعا فى المواكب التي كانت تجوب شوارع الحي بهذه المناسبات، خاصة في الشارع الذي يمر أمام “سينما السعادة”، والذي سمي فيما بعد بـ”شارع الشهداء”… سيارات وشاحنات تذرع هذا الشارع جيئة وذهاباً، نتسلق فوقها نحن أبناء “البلوك”، وباقى أبناء الحي، ونهتف مع الهاتفين: “بن یوسف إلى عرشه”.. ويضيف البعض منّا: “وبن عرفة إلى قبره”.. كانت لحظات حماسية لا تنسى. كل ذلك شكَّل جزءاً من وعينا السياسي واهتمامنا بالشأن العام، وفي نفس القسم الذي كنا ندرس فيه في المدرسة الابتدائية، كان يوجد معنا بعضُ من أبناء المقاومين، الذين كان يأويهم مركز أقيم لهم، يوجد قرب ملعب “الطاس”.. (مركز أبناء الشهداء). وفي نفس القسم كان يدرس معنا تلميذ جزائري من أقرباء المذيع المعروف والمدير الأسبق للإذاعة الوطنية محمد بن ددوش، هاجرت أسرته من تلمسان فى بداية الخمسينيات، واستقرت في الحي الحمدي في “بلوك واحد” بشارع الشهداء، وحضور هذا التلميذ الجزائري جعلنا نتابع معه تطور القضية الجزائرية وحرب التحرير الجزائرية، التي كان الشعب المغربي يتضامن معها تضامنا كلياً: إعلاميا وديبلوماسياً وفعليا، بالإعانات وبالعتاد وبالأسلحة وبإيواء المجاهدين، وكنا ننشد مع هذا التلميذ بين أوقات الدروس وفى الساحة أناشيد الثورة المعروفة: (من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا..، وأغنية الله أكبر .. الله أكبر فوق كيد المعتدي.. الخ…).

و”مدرسة الاتحاد” التى التحق بها المرحوم الحمرى، أنشأها مجموعة من الوطنيين، كان من بينهم الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، في زنقةٍ بدرب مولاي الشريف، قرب “سوسيكا”، ثم انتقلت بعد ذلك إلى فضاء قرب بلوك الرياض، أقيمت عليه أقسام من البناء المركب أُتِي به من القاعدة الأمريكية بالنواصر، (ومثلها أقيمت في معهد الأزهر بـ”لارميطاج”).. كان يدرسنا فيها معلمون متشعبون بالروح الوطنية التي كانت سائدة إذاك، في جو المغرب الجديد والعهد الجديد، عهد الحرية والانعتاق، أتحدث عن سنة 1956 وما بعدها، معلمون يسعون إلى بث هذه الروح الوطنية بين تلاميذهم: يظهر ذلك فى دروس التربية الوطنية، ودروس التاريخ، وفي حصة الأناشيد التي نظم الكثير منها زعماء الحركة الوطنية إذاك. کانت المدرسة تقيم في كل نهاية موسم دراسي حفلاً في “سينما السعادة”، وبعد عرض أجزاء من أفلام شارلو وفرناندیل وإسماعيل ياسين، لتشجيع المتفوقين يتم منحهم جوائز لتحفزهم على مواصلة الاجتهاد.

حماس المعلمين والجهاز الإدارى وجديتهم انعكست على مستوى التلاميذ الذي كان مرتفعاً وجيداً، مقارنة مع ما نراه حالياً للأسف: ففى سن العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة، وفي مستوى الثالث والرابع ابتدائي كان التلاميذ قادرين على قراءة وفهم قصص كامل كيلاني، وعطية الأبراشي، ثم لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران، ومجلة “سندباد” وما فيها من قصص ورسوم يبدعها الفنان المصري حسين بيكار، قصص كنا نقتنيها من مكتبات الحي المحمدى القليلة: مكتبة الحي الحمدي بشارع الشافعي ناجم، ومكتبة بَّا اليزيد، في نفس الشارع.. أو نحصل عليها من سوق الكتب المستعملة بـ”سوق الحايط” . وفي غياب مكتبة المدرسة أو مكتبة الحي، فقد كنا نتبادل هذه القصص أو الكتب فيما بينا.

في حوار للمرحوم يفسر فيه ارتفاع مستواه الدراسي أيضا، إنه کان قادماً إلى المدرسة من المسيد (أي الجامع)، حيث حفظ قسماً كبيراً من القرآن الكريم، وهو ما ساهم فى تجويد القراءة والتلاوة وإتقان دروس الإملاء.

في ذلك العهد، فى بداية الاستقلال، كانت الكتب المقررة في المدارس الحرة العربية هى الكتب الآتية من الشرق: من لبنان كـ”القراءة المصورة”، أو من مصر كـ”النحو الواضح” لعلى الحارم ومصطفى أمين، وأخرى في الحساب.. وكانت كلها كتبا جيدة ساهمت في الرفع من مستوى التلاميذ.

ساهم الحي المحمدي وأجواؤه في الرفع من مستوى الوعي الثقافي والفني لدى جيل المرحوم الحمري (وهو الاسم الذي كان يعرف به بيننا نحن رفاقه)، فهناك دار الشباب وأنشطتها الثقافية والفنية والرياضية، وكانت الدار  إذاك حديثة النشأة، وكان الإقبال على أنشطتها شديدا بيننا. ثم هناك “سينما السعادة” و”سينما شِريف”، وما تعرضه من أفلام عربية وهندية وغربية.. أفلام وسعت من آفاق مداركنا ومعارفنا، وفي تشكيل ذوقنا.

 أمام “سينما السعادة” على الدرج كانت تباع الكتب المصورة الفرنسية Bande dessinée، ساهمت بدورها في الرفع من مستوى لغتنا الفرنسية:Tintin. Rodio, Mickey Pipo.

ولا يمكن أن ننسى دور “لحلاقي”، بعضها كان يقام أمام دار “بوجميع”  (نجم المجموعة الغنائية “ناس الغيوان”) في (طریق کامیو الشابو)، وبعضها الآخر في سوق الحايط (حيث يوجد سوق السلام فى درب الكدية، (حلاقى من أجواق موسيقية من مختلف ربوع المغرب، مهرجون مضحكون، رواة الأزلية، حلقات الملاكمة الخ…)، ونتمنى أن يخصص مكان لهذه “الحلاقي” في المنتزة الكبير الذي تعتزم المدينة إقامته مكان أحياء الصفيح).

 التفوق الدراسي لدى المرحوم سيشجعه على رفع التحدى وهو في قسم الرابع (المتوسط الأول)، سيحضر مقررين دراسيين اثنين في آن واحد، مقرر قسم الرابع الذي يدرس فيه، ومقرر القسم الموالي، قسم الخامس، أي أن يهيئ نفسه لاجتياز امتحان الشهادة الابتدائية، وهو ما نجح فيه وتخطى بذلك سنة دراسية كاملة، لينتقل إلى “معهد الأزهر” بحي لارميطاج لمواصلة دراسته الثانوية، (وهو معهد كان يستقبل تلاميذ المدارس الحرة، هو وثانوية عبد الكريم لحلو قرب درب غلف)، معهد أغلب أساتذته من المشارقة: مصريون ولبنانيون وسوريون، وحتى فلسطينيين وسودانيين، فقد كان هناك خصاص في الأطر التعليمية التى يمكن أن تدرس الرياضيات أو التاريخ والجغرافيا والعلوم… باللغة العربية (لغة المدارس الوطنية الحرة).

أساتذة حملوا لنا معهم بعض تقاليد المدارس الشرقية: من إنشاء مجلة الحائط فى الثانوية، وتشجيع التلاميذ على نشر إبداعاتهم فيها، سواء تعلق الأمر بالقصة القصيرة أو المقالة أو النصوص الشعرية، أو حتى الرسوم الكاريكاتورية الخ … ومن هذه التقاليد أيضا إنشاء مكتبات في كل قسم، أي أن يأتي كل تلميذ بكتاب أو قصة ويتم التبادل كل أسبوع.

مستعينين في هذه الأنشطة بمكتبة الثانوية التي كان يشرف عليها الوطني سی بوشتى الجامعي (أب الصحفى المعروف المرحوم خالد الجامعي، وجد الإعلامي أبو بکر الجامعی).

المرحوم الحمرى وهو ينتقل مع رفاقه من الحي المحمدي إلى معهد الأزهر سيتعرف على مكتبات “الحبوس”، وعلى “سوق القريعة”، و”درب غلف” و”البحيرة”، حيث يمكن العثور على كتب ومجلات مستعملة زهيدة الثمن وفي مستطاع جيوبنا: مجلات “الهلال”، “روايات الهلال”، “كتاب الهلال”، سلسلة “اقرأ”، “المكتبة الثقافية”، ومطبوعات “كتابي”.. ثم بعد ذلك المجلات القادمة من بيروت: “الآداب” و”الأديب” و”شعر”. وستتوسع مداركنا ومعارفنا، بعضنا سيميل إلى الروايات والقصص، والآخر  إلى الشعر، كما هو حال شاعرنا الحمري.

من حفل تأبين الشاعر الراحل محمد عنيبة الحمري
من حفل تأبين الشاعر الراحل محمد عنيبة الحمري

في هذه المرحلة الثانوية سيبدأ المرحوم في نشر محاولاته الشعرية، سواء عبر الإذاعة في برنامج “مع الصاعدين” بإذاعة طنجة، أو برنامج “السائرون على الدرب” فى الإذاعة الوطنية بالرباط. أو نشر هذه الإبداعات فى مجلات وجرائد ذلك الوقت: مجلة “الأطلس”، جريدة “المكافح”، جريدة “العلم”… الخ .. وطبعاً نشر بعض الإبداعات في مجلة “الأزهر” التي بدأ بعض  التلاميذ يطبعونها على آلة الستانسيل في حوالي 20 صفحة، تضم مقالات ونصوصاً شعرية وقصصاً قصيرة. وكان في هيئة تحريرها تلاميذ نجباء من أبناء الحى الحمدى، نذكر منهم: التلميذ بو شعيب فقار، والتلميذ محمد بلاجي، وبتشجيع من إدارة المعهد برئاسة المرحوم الهاشمي الفيلالي.  

وكان من الذين ساهموا فى هذه المجلة شاعرنا الصديق إدريس الملياني. (في العدد الذي يتوفر الأستاذ بلاجي على نسخة منه توجد مقالات للتلميد بوشعيب فقار، ومحمد بلاجى، ومحمد عنيبة الحمرى، وإدريس الملياني وآخرون).

حين انتقل الشاعر الحمرى إلى كلية الآداب بظهر المهراز بفاس، سيواصل إنتاجاته ولقاءاته الشعرية التى ينظمها مجلس القاطنين بالحى الجامعي، ويرفع تحدياً جديداً، وهو  جمع ونشر وطبع ديوانه الأول، وهو ما زال بعد طالباً في الكلية: فقد أهداه أستاذه الشاعر والكاتب ابراهيم السولامي ديوانه (حب) الذي صدر سة 1967، وفي كلمة الإهداء كتب: “هذا شعرى، وأتمنى أن أقرأ بين دفتى كتاب شعرك”.. وهو ما كان، فقد جمع الشاعر الحمرى أشعاره التي أبدعها فى مرحلة الثانوي، ثم أضاف إليها قصائد أخرى، وصدر الجميع فى ديوان “الحب مهزلة القرون” في مارس 1968، بغلاف من إبداع فنان الحي المحمدى محمد تيسلى، الذى كانت ورشته قرب “عوينة شامة”، وقد منح الفنان تصميم الغلاف للشاعر الناشئ ابن حيه، بالمجان. (هذه المعلومة أخذتها من كتاب الأستاذ حسن نرايس: الحي المحمدى وجوه وأمكنة، فله الشكر).

الديوان لقي من الاحتفاء الشيء الكثير: من القاص عبد الجبار السحيمي، من الشاعرة مالكة العاصمي، من الكاتب والناقد عبد القادر الشاوي… الخ . لتتوالى بعد ذلك الإنتاجات، من دواوين ودراسات مما يعرفه الجميع.

وأعود إلى الحي المحمدي، الحي الذي عاش فيه شاعرنا.. بناسه، بأجوائه الاجتماعية والثقافية والفنية، والذي أنجب كثيرا من المواهب في كل المجالات، بأحيائه البسيطة والصفيحية، بماضية البطولي وحاضره، حاضر الخمسينات والستينات، لا شك أن لكل ذلك أثره فى إنتاجه الشعرى، وهو حين قال في إحدى قصائده “والشعر كان لأكدح الطبقات”، لربما كان يستحضر كل ذلك. لن أخوض في تفاصيل الإشكالية الأزلية عن علاقة الفن بالمجتمع، فذلك متروك لأهله وناسه من الباحثين ونقاد الأدب المتخصصين، ولكني سأقول:  إن المرحوم محمد عنيبة الحمرى سيظل مفخرة ثقافية ومعلمة كبرى لأهل حيه ومدينته وللمغرب قاطبة، هذا المغرب الذي توجه وإن متأخراً بجائزة الشعر لسنة 2020…

بقي رجاء أخير، أن يتم نشر ما لم ينشر من إنتاجه وإبداعاته، وكذا سيرته التي قال في إحدى الحوارات إنه بصدد كتابتها.

____________________________________________________________ 

* نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ أحمد قابيل في الحفل الذي نظمه فرع الحي المحمدي لجمعية “الشعلة”، يوم الجمعة 7 مارس 2025، إهداء لروح الشاعر محمد عنيبة الحمري.

 

Visited 102 times, 102 visit(s) today
شارك الموضوع

أحمد قابيل

رجل تعليم متقاعد