في وداع صبحي زعيتر…

في وداع صبحي زعيتر…

فاطمة حوحو

صباح يوم الثلاثاء 26 أبريل 2022، لفظ الصديق والزميل صبحي زعيتر آخر أنفاسه على سرير في مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت، كان نُقل إليه بعد إصابته بجلطة دماغية يوم السبت 16 من هذا الشهر.

 شكَّل رحيل صبحي صدمة كبيرة لكل من عرفه، ونعاه بحرقة عدد من الأصدقاء، من الصحافيين والمناضلين، على مواقع التواصل الاجتماعي.  

تحت عنوان “صبحي زعيتر في ذمة الله” كتب صديقه د. قاسم قاسم

 حين جاء إلى المقهى في مشواره الأخير، أخبرنا أن رأسه يؤلمه من العمل في منزله الريفي تحت شمس حارقة، مع سرد جميل كعادته، وبعد انفراط عقد الجلسة، طلب من الصديق صالح الرفاعي أن يوصله إلى منزله، تلك الأمتار القليلة التي لم يستطع تحملها، بدت وكأنها تلمح إلى شيء ما. بعد صباح ومساء، علمت أنه يرقد في المستشفى جراء انفجار شريان في الدماغ. الأهل قربه، يسبقهم دمع القلب، يأتون لعل بارقة أمل تعيد لهم رب الأسرة الطيب القلب. 

اليوم أطل حزينًا، حين سمعت آلالم في صوت ابنته، عرفت أن الصديق صبحي زعيتر قد قام ليمشي تلك الخطوات التي تعثر بها. الرحمة له والعزاء لنا”. 

صالح رفاعي كتب أيضا عن آخر اللحظات التي التقى فيها مع الفقيد: 

“كان هادئا يوم الوداع جاء متثاقلا بطيئا في مشيته، وإن كان يشتكي من حريق في الرأس، عزاه إلى العمل في الأرض وضربة شمس قوية… شددنا عليه أنا والدكتور قاسم قاسم بمراجعة طبيبه، وكعادته يأخذ الموضوع ببساطة.. لاحقا غادرت أنا إلى أميركا، وفي اليوم التالي أدخل صبحي إلى المستشفى”.

 اليوم برحيل صبحي زعيتر تموت كثير من الأشياء فينا نحن أصدقاؤه وزملاؤه ورفاقه.. ونحن نودعه، لكنه لن يسمع كلمة الفراق منا.. وداعا.. ما أقساها من لفظة عارية وحارقة حين تخرج من قلوب المكلومين وتكون موجهة إلى أحباب نعرف أنهم رحلوا ولم يعودوا بيننا

 في صفحة أبو خليل، كانت آخر تدوينة نشرها قبل رحيله تحمل تاريخ 28 مارس 2022، الساعة 6,43 بتوقيت بيروت. وخصها كعادته للوضع اللبناني المهموم بمصيره، منتقدا رئيس الحكومة وحاكم مصرف لبنان ووزيري المال والاقتصاد. وختمها بـ: ” يا فرحتنا… اللي خربونا بدهن يصلحون أحوالنا. هزلت ورب الكعبة”، ولم ينس أن يضع ثلاث نقط تعجب في الأخير. 

نعم، “هزلت..” وأكثر من الهزل والهزال.. وأكبر من الهم المضحك المبكي، أما نقط التعجب الثلاث فكانت هراوات قاصمة فوق رأس كل من لا يزال قلبه على وطنه المغبون والمصادر. 

لكن صبحي كما نعرفه لم يكن “الفرح مهنته”، حتى ولو كسا حزنه بابتسامة وطرفة مازحة من أجل طرد غيوم التشاؤم وإشاعة الأمل بالمستقبل والآتي. 

قبلها باليوم نفسه، في الساعة 12:52، كان الفقيد نشر صورة جماعية مع تعليق لصديق جاء فيها: شيوخ، شباب أمضيناه معاً في مهن تعليمية أوصحافية أو أدبية، وهوايات وأفكار، وما كنا نسمّيه نضالات متقاربة، التقينا اليوم في ركننا المنزوي في الحمرا، وخلطنا جدنا بالهزل، واستعرضنا أحوالنا وأحوال البلاد والعباد، على فناجين قهوة افتقدنا فيها طعم القهوة التقليدية، التي ما زلنا نسمّيها قهوة تركية سادة”؟ بعد أن ظهر صبحي الأول على اليسار في الصورة الأخيرة، كان هو أول من سيدير ظهره ليس للكاميرا فقط، بل لهذه الدنيا كلها. ورحل من غير “كلمة وداع”. 

بهذا الصدد كتبت صديقته وزميلته في “النداء” وفي “السفير” فاطمة حوحو: 

لا أعرف ما إذا كان علي الحديث عنك من البدايات أم من النهايات، ذلك أنك كنت صديقا من أحب الأصدقاء، وزميلا من أقرب الزملاء، ورفيقا من أعز الرفاق، كنت من أقرب الناس، صبحي الذي لا يرمي الكلام جزافا، يزين حروفها،  يضحكنا ويبكينا، ينادمنا ويراقصنا ويطربنا، صبحي الكريم النفس والخلق، قلما يلتقي الإنسان بمن يشابهه. صبحي زعيتر، أعرفه منذ زمن الحرب، تلميذة في الثانوية أتحشر بعالم الصحفيين حتى أنشر بيانا طلابيا، أو خبرا عن جمعية عمومية، أو تفصيلا عن تظاهرة في جريدة “النداء” القريبة من مدرستي وبيتي آنذك.

جاءت حوحو”.. عبارته المفضلة، “لنرى ما لديها..”. 

 كبرت وأصبحت أتعلم منه المهنة، وكان يركز على الدقة في نقل الخبر لا على الرأي والتحليل، وكثيرا ما قال لي “الخبر هو الحقيقة والرأي هو ما وراءها”. 

كان صبحي ابن عشيرة آل زعيتر، يحببنا بالعشائر وبأهل البقاع… يبادر إلى إقامة عزومات كبيرة في بيت العائلة بإيعات… رغم جولات الحرب وصعوبة التنقلات، إلا أننا كنا نغامر في الخروج من جحيم جولات الحرب في بيروت والجبل والوصول إلى فسحة في الطبيعة، نستكشف طرقات توصلنا بسلام إلى منطقة بعلبك.. لم يكن منزل صبحي وزوجته هلا كنعان ليقفل في وجه أحد، دائما مفتوح من أجل استقبال الأصدقاء والرفاق، وسط أجواء عائلية لطيفة وحاضنة

 لا أحد يمكن أن يمل من صداقة صبحي، ولا يمكن أن يجافي منطقه وإن اختلفت معه في الرأي، لا يتحدث عن الناس إلا بالخير، ولا يثرثر في كلام لا معنى له، يحب الجميع، لبناني حقيقي زرع صداقاته على مساحات الوطن، يعرف قيمة الانفتاح والتنوع، ولا يحشر نفسه في نطاق محدود. كان متحمسا للكتابة رغم أنه لم يعمل في السنوات الأخيرة، لكنه كان يكتب ولا يتوقف عن إبداء رأي في كل ما يحصل، ودائما في الخط الذي يقتنع به بعيدا عن المناكفات والمشادات والنقاشات الصاخبة، وأكثر قربا إلى العقل، فهو تشبع من لبنانيته، وعلى طريقته كان وطنيا بامتياز بعيدا عن الصراعات التي لا تنتج إلا المحن. قبل أيام من إصابته بالجلطة الدماغية اتصلت به، قال لي أنا ببعلبك، نكشت الأرض وزرعتها، لكني تعب، قلت له سلامتك انتبه لنفسك. بعد أيام قليلة جاء الخبر، صبحي بالمستشفى في حالة خطر…  

من قتل صبحي؟ 

 سؤال يتردد في ذهني اليوم وأنا أتذكر كيف كان يشرح لي تطور الوضع المعيشي في لبنان نحو الأسوء، وعدم القدرة على سحب الودائع، يعني عرق الجبين الذي وضع في البنك وتبخر، نتألم ثم نضحك على غبائنا، كيف لم نصدق أن البلد سينهار وكيف أمنا به، ربما لم نصدق لأننا لم نتصور أن يكون هؤلاء الحكام بمثل هذه الوقاحة والصفاقة، وأنا لم أكن أتصور أن تذهب يا صبحي هكذا سريعا، إذ كنت أمني النفس بالعودة واللقاء حتى نشعر بدفء الصداقة من دون أن ينفطر القلب أو ينفجر دماغ.

أما الصحفية عبير جابر فكتبت:

 بين مكاتب جريدة “السفير” كانت زمالتنا وأوقات جميلة جمعتنا فكنا أسرة واحدة.. كنت أمازحك وأقول لك “جدو صبحي..”، فتضحك.. بعدها غادرتنا إلى السعودية للعمل في صحيفة “الوطن”، وكانت الصدف أن انتقلت أيضًا إليها بعد زواجي، وهناك كان لدعمك أن فتح الباب لي لأبدأ مسيرتي في الصحافة السعودية.. أحزنني خبر مرضك ودخولك الغيبوبة، واليوم آلمني أن يصلني خبر وفاتك”. 

زميل صبحي زعيتر في مهنة المتاعب وفي درب النضال، مصطفى ياسين كتب تحت عنوان “موتك افزعني”، “لم أخاف من الموت يوما  لكن رحيل الرفيق والصديق صبحي زعيتر أفزعني. لم أتآلف مع الحزن، لكن غياب صبحي، عرفني معنى الفجيعة بمن يستحقون الحياة وأبو خليل كان يعرف كيف يعيش! لم أتعايش مع محبي البكاء، ولكن فور تبلغي بوفاة صبحي انهمرت دموعي مدرارًا. تبا أيها الموت لماذا تخطف الأحبة والأوفياء وتترك أبالسة الزمن الرديء يعيثون في الأرض فسادًا. بالأمس كان صبحي كتلة نشاط وحيوية ضحكته مدوية صوته راعد، رأيه سديد، واليوم نتحدث عنه  بصفة الماضي، كأن هذا العالم المتوحش لم يعد فيه مكان للطيبين. لا أجرؤ أن أتذكر أيام “النداء” بحلوها ومرها ، لأنها تأخذني بسرعة إلى الرفاق خليل الدبس وسهيل طويلة وسهيل عبود، والأخ الحبيب ملحم أبو رزق، نبيل حاوي، وجهاد رزق  وغيرهم الكثير (و قد بدأت الذاكرة تخون). وهنا تتجلى عظمة ما نخسره في هذا المشوار الطويل والصعب “.

 وكتب صديقه المغربي عبد الرحيم التوراني، كلمة عزاء لرفيقة عمر الفقيد السيدة هلا كنعان وأبنائه خليل وجهاد وفرح، تفاعل معها عدد من الصحفيين والمثقفين من المغرب، البلد الذي أحبه صبحي زعيتر من دون أن يزوره، ولما لاحت فكرة مشروع استثماري صغير فكر صبحي أولا في المدينة الحمراء مراكش.

 وذكر التوراني أن “صبحي كان من بين الزملاء الذين بادروا بتشجيع تجربة مجلة “السؤال الآن” الإلكترونية، منذ اليوم الأول لانطلاقتها، وزودها بعدد من مقالاته التحليلية التي كتبها حول الوضع السياسي في لبنان”. 

ونعى نقيب محرري الصحافة اللبنانية، جوزف القصيفي، الفقيد، ومما جاء في نعيه:

 “يغيب عنا بصورة مفاجئة الزميل صبحي خليل زعيتر الذي عرفته الصحافة اللبنانية منذ منتصف سبعينيات القرن المنصرم، صحافيّاً مناضلاً، ملتزماً، وفيّاً لقناعاته. ولم يحل إلتزامه يوماً دون صدقيته وحرفيته وموضوعيته. وكان ودوداً، محبّاً، وصديقاً لزملائه وعارفيه، لا يمزج بين الهوى السياسي والميل الحزبي والعلاقة الشخصية، التي كان يحرص على توطيدها مع زملائه، ولو باعدت بينه وبينهم الآراء والأفكار. كان يؤمن بالحوار، منفتحاً، لا يعترف بسدود وحدود داخل الوطن، ويعتبر اللبنانيين عائلة واحدة باجباب متعددة، تشّد بعضهم إلى بعض موجبات العيش الواحد دون تفرقة بين مواطن وآخر، إلاّ بمقدار وفائه للأرض التي تحتضننا والسماء التي نستظلها”.

 كما نعاه الحزب الشيوعي اللبناني في بيان تضمن نبذة موجزة عن سيرة الراحل، جاء فيه:

 “(…) والرفيق صبحي زعيتر من مواليد افقا جبيل في العام 1951. انضم إلى صفوف الحزب في العام 1969، وعند انتقاله إلى بيروت في ذلك العام انتسب إلى معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، ليتخرج بعدها وينضم في العام 1976 إلى أسرتي مجلة “الاخبار” وصحيفة “النداء” محررا ومن ثم رئيسا لأقسام عدّة… ومن خلال عمله في “النداء” قام الرفيق صبحي بتغطية الكثير من الأحداث العالمية في دول أوروبا والعالم العربي، بعدها انضم الرفيق صبحي إلى أسرة صحيفة “السفير” في العام 1993 ليغادرها بعد عشرة أعوام تحت ضغط الحاجة ليعمل رئيسا للقسم السياسي في صحيفة “الوطن”، التي تقاعد منها قبل ثلاثة أعوام. كان للرفيق صبحي دوره الطلابي البارز خلال دراسته الجامعية، كناشط في صفوف اتحاد الشباب الديمقراطي، وكان له إسهاماته الصحافية البارزة التي عكست التزامه بقضايا الوطن وهموم فقرائه، فكان القلم الذي دافع عن التحركات الطلابية والعمالية. وفي العام 1976 عندما كان لبنان في أوج الحرب الأهلية، وانقطاع الطرق، أصدر الرفيق صبحي نسخة من صحيفة “النداء” في منطقة بعلبك – الهرمل، تحت مسمى “نداء البقاع”، وكان يوقّع حينها باسم صبحي خليل.  وعند انطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية في العام 1982، كانت مقالاته  رصاصات تحاكي رصاصات المقاومين ضد المحتل.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

فاطمة حوحو

صحافية وكاتبة لبنانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *