جحيم السلطة البلشفية في رواية روسية حديثة
حسين علي خضير
من الجيد أن تقرا نصا أدبياً يختفي فيه صوت الكاتب وتعلو فيه أصوات أبطاله بقوة، وحركتهم أشبه ما تكون بخلية نحل، وتلعب غريزة البقاء والمشاعر والانفعالات الانسانية دورا كبيرا في حركة كل مشهد في هذه الرواية، أما حبكة الرواية لا تتكرر كما في أعماله السابقة، كل شيء يوحي بغريزة التحرر من الأشياء التي جثمت على صدور الأبطال، إلا أن الحنين إلى الماضي ظل يسيطر على تفكير البطل حتى نهاية الرواية.
تدور أحداث الرواية في بداية سيطرة البلاشفة على الحكم وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ومن ثم ظهور بوريس يلتسن على هرم السلطة. يلخص أحد أبطال الرواية هذه الفترة، قائلاً : “استُبدلت الدكتاتورية بالفوضى. إنهم يسرقون أكثر من أي وقت مضى. في السلطة، رجل مدمن على الكحول. هذا – إجمالاً” (ص53).
أما فكرة تجميد البطل جاءت عن طريق السلطات السوفيتية بعد وفاة لينين: “فقد أثارت حقيقة أنًّ رئيس الدولة بعد الوفاة يخضع لنفس التغييرات التي يخضع لها المواطن العادي. وبدا لهم أن المخرج من هذا الوضع يكمن في الحفاظ على الأجسام في حالة التجمّيد، حتى الوقت الذي يكون فيه العلم قادراً على إطالة الحياة البيولوجية” (ص199)، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي يتم تذويب البطل، ويواجه البطل مشكلة إعادة تأهيل الذاكرة وإنعاشها، وفي ذات الوقت مشكلة دمج البطل في الحياة المعاصرة، لذلك البطل في هذه الفترة يعيش في حالة من التشتت الذهني بين زمنين مختلفين، كل شيء فيهما مختلف، حتى الأصوات مختلفة على حد تعبير البطل بلاتونوف. يمر البطل بمراحل ونوبات صعبة ممكن أن نلخصها كالتالي:
أولاً، البطل يحاول جاهدا معرفة كيف نجا من معسكر الاعتقال الذي كان جحيما بالنسية له في زمن الاتحاد السوفيتي، وبعدها يتذكر موجة من الذكريات العاصفة التي يتخللها سنوات الاعتقال، وكيف عانى ما عانى في تلك السنوات، وكان كل يوم يرى الموت في عينه من جراء العذاب الذي يناله، فيقول بلاتونوف: “وكانت الأصوات في جزيرة سولوفيتسكي عبارة عن ضرب الرأس بأسَّرة السجن، عندما كان الحارس يدخل ويمسك السجين من شعره ويستمر بضربه بقائمة السرير إلى أن يشعر بالتعب” ( ص183)، بعد ذلك يركز الكاتب في هذه الرواية على حركة الحياة في زمن الاتحاد السوفيتي من أجل فضح عيوب السلطة آنذاك، تطور الأحداث في الرواية يعتمد اعتمادا كليا على ذاكرة البطل ومدى قوتها، ولكنها في نهاية المطاف تضمحل، وتتلاشى تدريجيا الخلايا المسؤولة عن ذاكرة.
الشيء الذي يُحسب للكاتب أنه يتلاعب بالزمن بطريقة عفوية وتلقائية، وهذا الأمر أضاف لنص يفغيني فودولازكين قوة وجعله متميزا عن النصوص الأخرى، ليس هذا فحسب، بل أتاح الكاتب مساحة كبيرة لأبطاله للتعبير عن أفكارهم باستقلالية، فيقول : “لو لم يكن التاريخ الروسي بهذا القدر من الظلم لكانت ناستيا حفيدتنا المشتركة أنا وأنستاسيّا. ومع ذلك، هل القضية تكمن في التاريخ وحده؟ وهل يجوز أنْ نُلقي هكذا باللوم على التاريخ في كل شيء؟” (ص220).
بعد ذلك يكتشف البطل أن هناك هوة بينه وبين الناس المعاصرين، فيقول: “لو كنت معاصراً للناس الحاليين، لشعرتُ بالرضا من هذه الشهرة وانتشيتُ بها ولكنتُ لملمتُ أطراف المجد كلها على ما أعتقد. بيد أنني غريب عنهم، فما الذي يُثبت وضعي بينهم؟ إنهم ينظرون إليًّ وكأني سمكة في حوض، في عيونهم الفضول وحده. أشعر بأني لا أعرف من أكون”. (ص 125)، وتتسع هذه الهوة حتى نهاية الرواية، فيقول البطل: “أحاول الاقتراب من الماضي بطرق مختلفة لفهم ما هي حقيقته. هل هو شيء منفصل عني أو مازلت أعيش به إلى اليوم؟ كان لدي ماضٍ قبل سباتي في الجليد، لكن لم يكن لدي انفصال كما هو الآن. كل ما تذكرته عن ماضيّ لم يجعله أقرب إلي. إنه الآن يشبه يداً مقطوعة ومخيطة من جديد. ربما، تتحرك بطريقة ما، لكنها لم تعد يدي” (ص 336).
الشيء الجميل الذي نجده في نص يفغيني فودولازكين – هي الحكمة التي تفوح على لسان أبطاله وآرائهم التي تستند عن بصيرة ثاقبة: “الحكمة، بشكل عام، هي أولاً وقبل كل شيء خبرة. خبرة إدراكية، بالطبع. إذا لم يكن ثمة إدراك، فإن كل الكدمات التي تتلقاها من أجل الحصول على الخبرة لا فائدة منها”. (ص 224). ولم يقف إلى هذا الحد بل راح يدلي برأيه حول الفن، فيقول: “ولكن هناك لحظة مذهلة تبدأ فيها الصورة تشعُ عطراً. لأن الفن الحقيقي – هو تعبير عما لا يمكن التعبير عنه، عما تكون الحياة من دونه غير مكتملة. إن السعي لإتمام التعبير هو السعي إلى إتمام الحقيقة” (ص 397).
وأخيراً، يحاول الكاتب أن يرد على أسئلة حيوية تمس الحياة الروسية في هذه الرواية، فيقول: “إنه كان يعتقد أنّ السلطة السوفيتية سترحل – وستعيش حياة! حسناً، وماذا – هل عشنا الأن واندملت جروحنا؟ كم سنة مرت على رحيل السلطة السوفيتية – فهل اندملت جروحنا وهل شفينا؟” (ص 330)، وهنا الاشارة واضحة، مازال الجرح لم يندمل وعلى السلطة أن تعترف بأخطائها التي مازالت إلى الآن تكابر ولم تعترف. ودليل على ذلك مشهد اللقاء الذي جرى في نهاية الرواية، بحيث يكتشفون بأن أحد الجلادين الذي كان يشرف على تعذيب البطل بلاتونوف مازال حياً وعمره مائة عام، هذا الأمر أعطى حافزا كبيرا للبطل بأن يلتقي بجلاده، أراد الكاتب هنا أن يقول مازلنا نتذكر ولم ننسَ ما جرى في هذه الحقبة المظلمة، فيقول الكاتب على لسان بطله: “أظن أنه اختلق قبضة القدح لشغل يديه. حتى يتمكن من عدم مد يده للسلام أولاً – فقد كان يخشى ألا يُردُّ عليه. وأنا، على سبيل المثال، لن أمد يدي لمصافحته بأي شكل من الأشكال” (ص350)، وهنا على ما يبدو لي أن فلاتونوف يمثل الشعب، أما فورونين الجلاد كان يمثل السلطة السوفيتية. والنقطة الأخيرة والجوهرية التي لابد أن أشير إليها في هذه الرواية البطل يحثنا دائما على الكتابة على أمل إنقاذنا من النسيان، فيقول في نهاية الرواية: “أصف الأشياء والأحاسيس. وأصف الناس. أنا أكتب الآن كل يوم على أمل إنقاذها من النسيان”. (ص396).
يفغيني فودولازكين، رواية ” الطيار”، ترجمة : د. تحسين رزاق عزيز، الناشر: دار المدى، بغداد. الطبعة الاولى، 2020