اتِّحاد كُتَّاب المغرب بين الموت والفناء

اتِّحاد كُتَّاب المغرب بين الموت والفناء

صلاح بوسريف

[1]

انهيار المؤسَّسات، كيفما كانت، سببه انحسار التصورات والبرامج، وتغيير أو تجديد الرؤى والآفاق. كل الجماعات الثقافية والفنية، التي ظهرت في القرن التاسع عشر، وحتَّى قبله، بما في ذلك جماعات البحث في اللغة أو اللسانيات، امتلكت، في لحظة ما، الجرأة في الإعلان عن انتهاء مهامها، وأنها قالت ما ينبغي قوله، وفعلت ما ينبغي فعله، لتترك لغيرها أن يفكر، ويُجدِّد، ويُضيف، أو يبتدع، من خلال المراجعة والتدقيق والتأمّل والقراءة، ونقد ما سبق. فالمعرفة والإبداع، وما يرتبط بالمعرفة والإبداع من نشاط ولقاء واجتماع، كلها تتغيَّر، لا تبقى على حالها، لأنها فكر وخيال، وكل ما هو فكر وخيال، يقبل الصيرورة، ويقبل التجدُّد والانقلاب.

الصيرورة تكون بهذا المعنى، وليست الصيرورة رسوخاً وبقاءً في نفس الفكر، وفي نفس الخيال، أو في التصورات والبرامج والرُّؤى. المجلَّات، بدورها، تعيش هذا المآل، لذلك، تكون محكومة، إما بالتوقُّف، وهذه هي حالة عدد من هذه المجلات، في كل الكون، وإما بإعادة النظر في كل شيء، وفق ما يجري من مُتغيِّرات، في السياق السياسي والاجتماعي والثقافي، أو السوسيو ـ ثقافي، إذا شئنا.

[2]

فلماذا، إذن، سنستثني الجمعيات والمؤسسات الثقافية من هذه الصيرورة التي هي تحوُّل وانقلاب، واستجابة لما يجري من تحوُّلات في الأحداث والوقائع والأفكار، وفي المفاهيم والبرامج والتصورات نفسها، بما فيها معنى ومفهوم الثقافة، والعمل الثقافي، وأيضاً تدبير الشأن الثقافي.

هل من الضروري، مثلاً، في السياقات الراهنة التي دخلت فيها عناصر ومعطيات جديدة، أن تكون الجمعية الثقافية، ضرورة من ضرورات العمل الثقافي، بأي منظور، ووفق أي شكل وصورة أو تصوُّر؟ ثم، هل المثقف ما زال هو نفسه، واحداً، يغلب عليه فكر ما، ليكون داخل هذه المؤسسات التي تمثله، وتمثل فكره، أو تتكلَّم باسمه، وتنوب عنه، أم أنَّ الصيرورة اقتضت أن يتغيَّر كل شيء، بما في ذلك مفهوم الجمعيات والتجمعات، وأن يكون عملها غير ما كان من قبل، في تنظيم لقاءات وتظاهرات ثقافية فنية، أو مهرجانات، وندوات ومحاضرات، وإصدار مجلات وكُتُب ومنشورات، وما الداعي إلى كل هذا، إذا كان هناك من يقوم بهذا، من ناشرين، ومن كُتَّاب، أو من جمعيات تجمع بين الثقافة وغيرها من الأنشطة الأخرى التي لا صلة لها بالثقافة؟

[3]

 هذه الأسئلة وغيرها، هي ما نطرحه اليوم على مؤسسة “اتحاد كتاب المغرب”، هذه الموسسة التي كانت، في وقت ما، وأنا أعود بها في عملها الثقافي الجِدِّي إلى ما قبل عقدين من الزمن، أو يفوقها بقليل، لأن في ما بعد هذا الزمن، بالذات، شرعت الانحرافات والانجرافات الكامنة في هذه المؤسسة تطفو بشكل مفضوح وعارٍ على السطح، ولما كان اعتراها من شيخوخة ووَهَن. الذين كانوا يتبجَّحُون بالحداثة، أو بالفكر اليساري التقدمي، هم من أصرُّوا أن تعمل هذه المؤسسة بنفس العكاكيز، وأن تكون رهينة للسياسة، أو للحزب، بالأحرى، وبعد ذلك للدولة،  أو لوُلّاتها وعُمَّالها، بكل المبررات والأقنعة التي تمَّ ابتكارها، باعتبارها ذرائع لتسويغ هذا الانحراف، لا أن تتحرَّر من هذه السُّلَط، أو، في أقصى الحالات، أن تُحافظ على تعدُّدها واستقلالها، وهو ما لم يتمّ، وما كان من الأسباب الجوهرية في انهيار الاتحاد، وحتَّى في حالات وجوده، فهو كان يعمل، فقط، لتبرير ما يتقاضاه من منح وأموال ودعم، وما يقوم به من سفريات خارج المغرب، وداخله، ومن استعمال لخيرات المؤسسة، سيبدو أنه كان استعمالاً غير مشروع، خلال هذا الزمن الذي نتحدَّث عنه، أي منذ ما قبل تسعينيات القرن الماضي.

[4]

لا يهمنا الأشخاص هنا، رغم أنَّ لهؤلاء، وهم معروفون لدى الجميع، دوراً حاسماً في ما ساد من شطط غير مقبول داخل هذه المؤسسة، وما تعرَّضت له من انتهاك لِقِيَمِها التي تأسَّسَت عليها، وما حدث فيها من اختيارات، أدَّت إلى الرفع من وتيرة الانهيار وتَسْرِيعِه، خصوصاً حين تحوَّل الاتحاد إلى منظمة أو مؤسسة يحكمها الأفراد، أو رهينة في أيديهم، تقوم على الولاءات، وعلى استعمال خيرات الاتحاد كريع وغنيمة حرب، ما أفضى إلى ما أفضى إليه من حروب وتطاحنات، بين أطراف هذا الانهيار، ليس حول التصورات والبرامج والمبادىء والأفكار، بل حول من يأخذ ماذا، خصوصاً في مؤتمر طنجة الأخير، وفي جلسة المفاوضات التي كان التفاوض فيها حول من سيكون الرئيس، ومن ستؤول إليه «دار الفكر»، التي كانت السبب في ما سال من لُعاب مَنْ ظلُّوا يعيشون على هذا النوع من الرِّيع، أو كان هو ما بنوا عليه حياتهم، وما ظنُّوا أنه مجداً، فيما هو وهم، لا غير.

[5]

كتبتُ منذ سنوات، رسالة مفتوحة للأستاذ عبد الحميد عقار، حين نشأ نزاع بينه وبين من سعوا إلى الانقلاب عليه، قبل أن ينقلبوا وينشقُّوا عن بعضهم البعض هم أيضاً، ورأيتُ فيها أن عَقْد مؤتمر للاتحاد ليس هو الحلّ، بل عقد أيام دراسية، أو مناظرة، فيها تتم إعادة النظر في الاتحاد ككل، هل هو اليوم ضرورة، وهل معناه الحالي، القائم على فكرة الاتحاد السوفياتي سابقاً، ما زال يقبل أن نعمل به، في ظل انهيار اليسار، انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه، وما جرى من انقلاب في عدد من السرديات الكبرى، وأن النُّظُم والقوانين التي يقوم عليها الاتحاد، لم تعد صالحة لشيء، وأن مفهوم الاتحاد للثقافة، والعمل الثقافي، يحتاج إلى تجديد، ونوع من التفكير تدخل فيه المعطيات والعناصر الجديدة. لا يمكن أن يبقى الاتحاد يعمل بنفس المنطق وبنفس الحجة، وبنفس العكاكيز، ومن يتولونه يأتون بتزكية من أحزاب شرعت،آنذاك، تنهار هي الأخرى، وغيرها مما هو موجود ومُتاح في هذا الرسالة المنشورة، ويمكن الوصول إليها.

[6]

لا أحد انتبه لما قلته، بل تمّ التغاضي عما قلته وكتبته، وكما نبَّهْتُ، إلى أن عقد المؤتمر، في ظل الشروط الراهنة، في ذلك الوقت، هو نوع من إخماد البركان بِغَلْقِة من فوق، ما يعني تأجيل الانفجار الذي سيكون ذويه، حين يحدث، بما لا يمكن تصوُّره من خسارات ودمار.

[7]

هذا ما حدث بالفعل، وتدخَّل القضاء في فضّ النزاعات، وأصبحت الدولة هي من تحلُّ مشكلات الاتحاد، والكُتَّاب يشتكون ببعضهم، ويستعملون القضاء لترهيب بعضهم البعض، وهو ما كان لحظة مخجلة، استمرت حتَّى آخر لحظات انفضاض اللجنة التحضيرية التي أصرَّ أحد أسباب المشكلة، أن يترافع أمام القضاء ضدّ الرئيس السابق للاتحاد، في الوقت الذي كنتُ فيه أرفض هذه الدعاوى، التي كان فيها الشخصي، يغلب على العام، مع الأسف.

[8]

 لم يكن سبب انهيار الاتحاد، وما يعيشه من انحسار، هو المباديء والبرامج والأفكار، بل كانت الغنائم هي ما حرَّك المفسدين في الاتحاد، لحرب بعضهم البعض، رغم كل ما كنتُ، شخصياً، أنبه إليه من مقالب ومزالق ومؤمرات، لكن اللجنة التحضيرية التي كانت تجتمع في مقر الاتحاد، كانت غير من كانوا يعملون في السراديب السرية، كما تعوَّدوا، لفرض ما يرغبون فيه، وكان المآل، هو وضع الاتحاد في عنق الزجاجة، بل الإجهاز على ما اعتقدنا أنه ضوء في عمق النَّفَق.

[9]

 الاتحاد، في وضعه الراهن، هو منظمة ومؤسسة بدون مثقفين، ما جرى فيه من تدفُّق واجتياح لعدد هائل ممن يكتبون، فقط، أدَّى إلى تعويم الاتحاد في الولاءات، وفي تحويل الأعضاء إلى أصوات أو أرقام، مثلما يحدث، في الأحزاب، وفي مؤتمرات الأحزاب والنقابات من مهازل وكوارث. ما أدَّى إلى حالة الموت الإكلينيكي التي يوجد عليها الاتحاد، في انتظار قُبْلَة الحياة، أو الموت الرَّحيم، وهذا هو الحل، لأن عودة الاتحاد إلى الحياة، بما كان، ومن كانوا يفسرون فيه، وسبباً في انهياره، بنفس الأفكار والبرامج، وطرق العمل، هو أشَدُّ من القتل، لأن هذا سيكون مثل نهاية فيلم «السيّد»، أو «القائد» الذي كان هو من يُلْهِم جيشه، بمقتله، تمّ وضعه على الحصان، وتثبيت جسده بعِصِيّ حتَّى لا يبدو ميتاً، لتستمر المعركة بقيادته ميتاً، لأن من يشرط المعارك والبرامج والأفكار بالموتى، فهو ميّت، لا محالة.

[10]

لا وجود لاتحاد كُتَّاب المغرب على الأرض، الفروع القائمة غير شرعية، والاتحاد بدوره غير شرعي، ورغم ذلك، ما زالت بعض هذه الفروع تعمل كجمعيات مستقلة عن الاتحاد، وكأنَّنا إزاء تركة رجل مريض، أو رجل عالق بين الموت والفناء، مشدود بأخشاب على حصان هَرِم، تلاشت صفائحه، من ينتظرونه، يتعلَّقون بموته، فيما هو دخل تحت التُّراب، وما زال يظن أنّه في ليل، ينتظر طلوع النهار، لا يميز بين النوم والموت، حتَّى وإن كان موتاً صغيراً، كما يُسمِّيه ابن عربي.

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

صلاح بوسريف

شاعر وإعلامي مغربي