السيناريو.. باعتباره شكلًا أدبيًا جديدًا (6)
د. برهان شاوي
السيناريو…. عربيًـا
بعد هذه المقدمة السريعة والمكثفة في إشكالية (السيناريو) باعتباره شكلًا جديدًا من الكتابة الأدبية، أدفع بالحديث إلى الزاوية الحرجة. فلا زالت النظرة إلى (السيناريو) من قبل الأدباء والفنانين في بلدان الشرق الأوسط غير جدية، وموسومة بالتبسيط، وعدم الاكتراث، والاستعلاء الأدبي، علما أن كبار الكتاب الروائيين في العالم كتبوا السيناريو، أمثال: شولوخوف، غوركي، تيخونوف، الكسي تولستوي، وليم فولكنر، جون شتاينبك، دوس باسوس، سالنجر، سارويان، جاك بريفير، ماركيز.. وغيرهم.
هناك إشكالية حقيقية في النقد الأدبي العربي الحديث، ألا وهي إشكالية (المصطلح النقدي)، ففي معظم آداب العالم المتطورة توجد،على سبيل المثال لا الحصر، ما يسمى بـ (القصة القصيرة -شورت ستوري) بالانكليزية،(ايرتسيلونغ) بالالمانية، (راسكاز) بالروسية، كما توجد (القصة الطويلة) التي يتفق الجميع على تسميتها بـ(نوفيل)، وكذلك (الرواية) التي يتفق الجميع ايضا على تسميتها (رومان)، بينما لا نجد مجالا رحبا للتعامل مع (القصة الطويلة)، (نوفيل)، في النقد الأدبي العربي. فـ(القصة الطويلة) تسمى (رواية) أيضا وهذا ما يقود الى فوضى نقدية، ويمكننا أن نستشهد بالعديد من القصص الطويلة التي تحمل توصيف (الرواية)، بل هناك إشكال آخر، الا وهو العشوائية في إطلاق النعوت والتسميات، فبسبب غياب الثقافة الفنية السينمائية، وغياب النقد الفني، والسينمائي الجاد، وغياب البحوث النظرية في علم جمال السينما، وأحادية الثقافة الفنية والنقدية لدى معظم النقاد، لا سيما من العاملين في مجال الصحافة الثقافية اليومية، التبست التسميات، فلو ألقينا نظرة متفحصة على بعض ما تسمى بـ(الروايات) العربية لكتاب عرب معروفين لوجدنا أنها لا تتعدى كونها (سيناريوهات) أدبية جيدة.
فمعظم (روايات) و(قصص) الكاتب إحسان عبد القدوس، و(روايات) عبد الحليم عبد الله، و(بعض) قصص يوسف إدريس، و(بعض) روايات وقصص الكبير نجيب محفوظ. و(بعض) أعمال مجيد طوبيا، وكذا الأمر مع (بعض) أعمال حنا مينة. و(بعض) روايات وقصص اسماعيل فهد اسماعيل، والقائمة طويلة.
وليس في هذا الأمر ما يعيب أبدا، لكن المأخذ الأساس هو عدم تلمس الفروق الأسلوبية والاستسهال في إطلاق التسميات، ويبدو أن هذه إحدى سمات الثقافة العربية المعاصرة. وربما يعود الفضل للدراما التلفزيونية في إعادة الاعتبار للسيناريو ولكتابته وكتابه، فعلى مدى عشرات السنين من نشاط السينما العربية الإنتاجي لم يعرف السيناريو وكتابه هذا الاهتمام كما هو الاهتمام الذي نلمسه اليوم، وهذا يعود بدوره أيضا إلى تألق أسماء أدبية مهمة في عالم الدراما التلفزيونية والسينمائية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أسامة أنور عكاشة، محمد جلال عبد القوي، بشير الديك، وحيد حامد، مصطفى محرم، عبد الرحمن زايد، حسن.م.يوسف، هاني السعدي، وداد عبد اللطيف الكواري، فجر السعيد، محمود عبد الواحد، محمد قارصلي، وغيرهم.
فهذه الأسماء تصطف اليوم إلى جانب أسماء أدبية معروفة. ولو كان هناك تقليد أدبي وثقافي بطباعة السيناريوهات المكتوبة للأفلام والدراما التلفزيونية، لأقبل القراء على كتب هؤلاء مثلما يقبلون على روايات الكتاب الآخرين، بل ولأضاف ذلك متعة جديدة عند القراءة ألا وهي متعة المقارنة بين النص المكتوب والعمل الفني المقدم على الشاشة.
إن النظر الى (السيناريو) بجدية واهتمام، والحث على ترجمة السيناريوهات العالمية، وتشجيع الكتاب في البلدان العربية على نشر اعمالهم باعتبارها أعمال ادبية، وترجمة الدراسات النظرية حول فن السينما وجمالياتها، سيعود ليس على السينما في هذه البلدان بالصحة والعافية الفنية وتمنحها العمق والشاعرية فحسب. وإنما تعود على جميع الكتاب والأدباء بالفائدة العظيمة أيضا، حتى على مستوى كتاباتهم لقصصهم ورواياتهم، وليس لي هنا سوى التوقف عند شهادة الكاتب الكولومبي المعروف (غابريل غارسيا ماركيز) الذي عمل لسنوات ككاتب سيناريو، إذ يقول:
(أعتقد دائما إن السينما بامكانياتها البصرية الهائلة، أداة التعبير المثلى، ولعل كل مؤلفاتي السابقة على (مائة عام من العزلة) متحدرة من هذا اليقين، فهي مطبوعة بتطرف الاندفاع نحو تصوير المشاهد والأشخاص، والصلة المليمترية بين وقت الحوار والفعل، وهاجس التشديد على وجهات نظري وأفكاري… ولم يجعلني عملي في السينما أدرك ما يمكن أن يقوم به الكاتب فحسب، بل ما يجب ألّا يقوم به كذلك. وبدا لي أن سيطرة الصورة على عناصر روائية أخرى، ليست ميزة وحسب، وأنما هي تحديد لها، وقد بهرني هذا الاكتشاف، وأدركت أن الإمكانية الروائية غير محدودة.. من هنا أقوى على القول إن تجربتي في السينما ضخمت إمكانياتي الروائية من دون ريب).
“ماركيز – ترجمة ناديا ظافر شعبان -بالعربية- دار الكلمة- 198”.
* ملاحظة: كل النصوص المقتبسة في الاستشهادات مترجمة عن الروسية من قبلي.
(انتهى)