مكيافيلي ونظرية الطوابير!؟

مكيافيلي ونظرية الطوابير!؟
محمود القيسي
 
“أيها الملائكة الصغار…
لا أجد ما أحميكم به سوى دفاتري،
ولا ما أحمي به دفاتري سوى الوطن…
ولذلك:
فله خبزي وخبزكم
ومائي وماؤكم..
وقوت الفراشات والعصافير،
والصوم والصلاة.. والشهداء
وكل ما في الأرض والسماء
وأعماق المحيطات
هو للوطن…
والوطن لبضعة لصوص”
 
*محمد الماغوط
 
   هناك دائمًا “سر”، أو وسيلة، أو حبكة، أو قطبة مخفية وراء كل نظرية أو فكرة أو هدف أو غاية!؟.. فكيف إذا تعلق الآمر في إحدى أكثر النظريات تنظيمًا ورقيًا وديناميكية فيما يعود إلى تنظيم الطوابير في بلاد وأماكن عديدة ومتعددة في بعض جوانب ومربعات وزوايا ودوائر وطبقات هذا العالم الحاكم بكل طبقية وعنصرية وفوقية وأوليغارشية وجشع رأس المال المالي وتغول القيمة الزائدة بإسم النظام والتنظيم والأنظمة الغربية والطوابير على خلفية “أسطوانة” الغرب المتحضر والشرق المتخلف المشروخة طبقيًا.. واستحداث نظريات طوابير الترفيه والتنظيم الغربية والسر وراء تصميم خطوط الترفيه والانتظار غربًا.. وتتبع الطوابير المعتمدة في مدن وبلاد المعايير الذهبية، إذ يعد الوقوف في الطوابير جزءاً أساسياً من التجربة الذهبية لشعوب الخمسة نجوم الحاكمة.. طوابير الانتظار الأكثر قدرة على التحمل من خلال تمويه الخطوط حول الزوايا أو الجدران لجعلها تبدو أقصر!؟ أو تضخيم وقت الانتظار الموجود عند كل طابور، والمبالغة في تقدير الوقت عمداً، تبعاً (لنقطة ميكيافيلية عبقرية).
   
في حين إحدى أخطر وأبشع النظريات في ظلم وقهر وذل واستعباد أمم وشعوب بأكملها في طوابير أنتظار تمتد الى أيام وليالي على سبيل المثال وليس الحصر من أجل الحصول على علبة حليب أطفال أو بضعة ارغفة لعائلة مكونة من خمسة أو تسعة أشخاص في بلاد وأماكن اخرى عديدة ومتعددة في قارات هذا العالم المقسوم على نفسه أفقيًا وعموديًا وطبقيًا وعرقيًا والموت في طوابير الذل والموت شرقًا!.. في حين تُعتبر الطوابير المرعبة في مناطق النزاع والاستبداد والذل والقهر والظلم والجوع والتجويع اليومي جزءً أساسيًا لا يتجزأ من سياسة الإلهاء والإخضاع والقهر والسيطرة.. طوابير الانتظار الأكثر ذلًا وقهرًا وهدرًا لوقت وجهد وحياة “الموقفين” أو المعتقلين وجودياً في الطوابير الوجودية والتقطير والتبعية الوجودية وإهدار الوقت عمدًا، تبعًا لذات (النقطة الميكيافيلية العبقرية) في حكم الشعوب غربية كانت ام شرقية في نهاية المطاف والطوفان!؟!
عادة ما نقف في الطابور عند طلب شيءٍ ما، أو في أنتظار شيءٍ ما، أو عند شراء شيءٍ ما، قبل الحصول على شيءٍ ما.. أو في استقبال أو توديع أحدٍ ما، أو في الهتاف لأحدٍ ما.. ولكن أوقات الانتظار قد تُشعرنا بالضجر أحياناً، بينما قد لا نشعر بالوقت في أحيان أخرى!؟.. ويبقى السؤال المركزي والأكثر أهمية مركزية: “ما الذي يجعل الانتظار أمراً يمكن الصبر عليه في بعض الأحيان.. ومرغمًا عليه في معظم الأوقات ومعظم الأحيان؟.. أو كما يقال في معظم الأوقات والأحيان مرغمًا أخاك وليس بطلًا في كل الأوقات وفي كل الأحيان…! كنت قد كتبت في إحدى تغريداتي التراجيدية السياسية السوداء على تويتر: أكتشف مرصد الأبحاث والعلوم التاريخية في لبنان “الفذلكة” السياسية والمأساة التاريخية والمهزلة المستمرة.. إن التاريخ يعود إلى الوراء مخالفًا بذلك كل نظريات المنطق والاجتماع والسياسة والتاريخ.. نعم، يعود ونعود معه إلى الوراء إلى الطوابير العديدة المتعددة على كل مقاييس الطول والعرض التاريخية والجغرافية!؟ يقول ابن خلدون: “فساد القضاء يفضي إلى نهاية الدولة”.. لم نرى في لبنان فاسدًا خلف قضبان السجون رغم جهنم التي نعيش فيها ونرى.. جهنم التي نموت فيها ولا نرى!؟.. حيث إن القضاء اللبناني الفاسد في حقيقة الأمر هو أساس الدولة العميقة للمنظومة الحاكمة.. وهو أساس الدولة العميقة الفاسدة..!؟!
 
   في مقابلة له مع CNN خلال مكالمة هاتفية، يقول مدير مختبر التصميم في جامعة “UCSD”، دون نورمان، إن “الانتظار يعتبر حالة نفسية”، مشيراً إلى أن المسألة تعود إلى التصميم المتبع لـ “محاولة فهم الحالة النفسية للأشخاص وشعور الملل والإحباط الذي يشعرون به عند الانتظار”، كما يتطلب أيضاً تصميماً يراعي الأشخاص الذين يقومون بالخدمة والذين ينتظرون بالطابور. كما يقول خبير في (نظرية الطوابير) والأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ريتشارد لارسون، إنه بإمكان الأشخاص إيجاد الحلول بهدف التقليل من شكاوى الانتظار، حتى إذا بقيت المدة غير متغيرة. ونوقشت نظرية الطوابير أو الدراسة الرياضية لخطوط الانتظار منذ أكثر من 100 عام من قبل المهندس الدنماركي، أي كي إيرلانغ، الذي أخترع النظرية لحساب عدد الخطوط والعمال اللازمين لضمان خدمة سلسة، إذ قال لارسون إن إيرلانغ “قد أخترع نظرية الطوابير، وذلك رغم أن حوالي 10 آلاف مقالة قد كتبت عن النظرية إلا أن نظرياته تعتبر الأكثر استخداماً نظريًا وعمليًا في هذه الأيام”.
 
أحد أكثر فصول رواية “الحب في زمن الكوليرا” حدة والم: “أكاد أكمل مئة سنة، وقد رأيت كل شيء يتغير بما في ذلك مواقع الكواكب في الكون، ولكنني لم أرى حتى الآن شيئاً يتغير في هذه البلاد!” نحن من لبنان، أو “الوطن الكبير” الذي صُلب على رغيف الخبزِ، وحبة الدواء، وعلبة التونة وزوارق الموت كلما أشتد الحصار.. كلما أشتد حصار الجوع على علبة حليب الأطفال الرضع.. علبة حليب الأطفال الرضع التي صُلبت في كل حصار.. نحن من البلاد التي صُلبت على أبواب المعابد الوثنية والأصنام الطائفية من أجل كرسي من هنا وكرسي من هناك.. مئة عام من الحروب العلنية والحروب الباطنية والحروب الطائفية والمذهبية والعرقية من أجل كرسي لا يساوي شيء من ههنا ومن ههنا.. نحن من بلاد المئة عام من العزلة الوطنية والدولة الوطنية من أجل اللاشيء!.. هل نحن شعب أَم نبيذ للقرابين الجديدة؟ قرابين عهود الموت في طوابير الذل والانتظار.. طوابير الرغيف وحبة الدواء ونقطة الماء.. طوابير الذل والموت وقوفًا منذ مئة عام من العزلة والاغتراب عن الجغرافيا والتاريخ والذات والموضوع واللغة… هل أمة نحن أَم جثث في مشرحة أمراء الطوائف وأحزابها الخشبية والذات!؟.. أم جثث للتجارب التي تنتظر دفنها عميقاً في التراب أو عميقاً في البحار!؟.. أم مجرد قرابين ونبيذ للملذات وجيم الشهوة الاباحية والاغتصاب والإباحة والغاية تبرر الوسيلة!؟ كنا نرى هاوية كما يقول فيلسوف وشاعر وأديب وجودي.. لكننا الان نحدق في الجحيم!! هناك حلف بين (رجال السياسة) تاريخيًا يقوم على اليقين المشترك بأن العالم لا فائدة منه إلا إذا كان فاسدًا. نعم، لم يعد تراكم الفساد الكمي والنوعي مجرد لغة صامتة بين الكم والنوع – والنوع والكم.. بل لغة مشتركة بين الضحية والجلاد – والجلاد والضحية!
“حلم”، مجرد حلم في لبنان هذا الأيام.. مجرد ان تحلم انك في طابور طويل وبطيء.. طابور يسير تحت الشمس أو تحت المطر.. مجرد أن يظهر الحلم بقائمة أنتظار، وأنت في قائمة الحلم والانتظار تراودك أفكار سيئة ومتشائمة وسوداء من كل الأحلام والكوابيس والتخيلات.. يمكن أن يكون هذا النوع من الأحلام أكثر شيوعًا مما قد تعتقد، لأنه مشهد أكثر شيوعًا في الحياة اليومية التي نعيشها في بلد مثل لبنان هذه الأيام، لذلك يمكن أن يمر هذا الحلم دون أن يلاحظ أحدٍ إنك تحلم أو إنك مجرد حلم.. دون أن يلاحظ احد الحالمين أثناء الحلم انك تحلم مع تراكم وكثرة الكوابيس والطوابير اليومية التي نعيش ونسكن هذه الأيام.. الأحلام والكوابيس التي يصبح معها الاختيار بين السيء والاسوا أفضل الاسوا.. في حين نعيش في لبنان طوابير الذل هذه الأيام أحلام وكوابيس اليقظة وطوابير أسوأ الاسوا.. هناك من يحلم في أحلام الطوابير في لبنان الطوابير والكوابيس وأحلام اليقظة انه يقطع الخط ويقفز في الطابور.. أو يقفز فوق الصفوف أو فوق الطوابير ويحاول الطيران عاليًا وعاليًا إلى ان يسقط في إحدى أحلامه أو في إحدى كوابيسه أو في إحدى حفريات تلك الطوابير العديدة وحفرياتها العميقة المتعددة من كل الأحجام والأعماق والألوان.. ثم يحاول الطيران في أحلامه أو كوابيسه مرة أخرى أو مجرد القيام والوقوف والقيامة مرة أخرى أو مرة اخيرة.. ولكنه يسقط مرة أخرى.. يسقط مرة أخيرة ويمدّد جسده في الحفرة أكثر وأكثر.. أشار إليَّ أن أساعده في الطيران أو في الوقوف آو في ردمه حيا أو ميتًا في حفرة أحلامه أو في حفرة كوابيسه.. تحسست يدي في هذه اللحظة لعلني انا أيضًا أحلم.. فإذا بها مجرفة، أخذت في الردم وينتابني الفضول والسؤال من يدفن من!؟ قربت وجهي إلى الشخص الممدد في الحفرة، ابتسم لي، وجهه يبدو مألوفاً. فزعت، تراجعت إلى الوراء بذعر، صرخت.. وصرخت.. وصرخت.. وتعثرت، وسقطت أرضاً، والأرض تضيق.. وتضيق الأرض أسرع.. وأسرع.. وأسرع.. إنه ليس هو.. لا، إنه ليس هو.. إنه أنا.. هذا وجهي أنا.
Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمود القيسي

كاتب لبناني