توسيع هوامش الحرية وتنقية أجواء المشهد الصحفي
جمال المحافظ
بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي يصادف الثالث من ماي من كل سنة، قدمت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) صورة قاتمة عن وضعية حرية الصحافة بغالبية بلدان العالم خلال السنة الماضية، وقالت ذات الهيئة الدولية في تقرير حديث بشأن اتجاهات حرية التعبير وتنمية وسائل الإعلام، أن أزيد من خمسة أشخاص من أصل ستة أشخاص، داخل بلد سجل تراجعا على صعيد حرية الصحافة خلال السنوات الخمس الماضية.
إذا كانت ذكرى ثالث ماي، بمثابة الضمير، الذي يذكر السلطات بضرورة الوفاء بتعهداتها تجاه حرية الصحافة، ويتيح للعاملين في وسائل الإعلام فرصة للتوقف على قضايا حرية الصحافة والأخلاقيات المهنية، والوقوف إلى جانب وسائل الإعلام المقموعة والمحرومة من حرية الصحافة ومساندتها، حسب ما ذكرته أودرى أزولاي، المديرة العامة لليونيسكو، في رسالة بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، تحت شعار “الصحافة تحت الحصار الرقمي”.
الصحافة تحت الحصار الرقمي وسلاسل العمل الإعلامي الجديد
وإذا كانت الفرص الجديدة التي وفرتها التكنولوجيات الرقمية، فإنها أفرزت تحديات جديدة أيضا، أثرت بشكل كبير على نشوء المنصات الالكترونية، وعلى القدرات الاقتصادية لوسائل الإعلام المستقلة والتعددية، وهو ما أفضى إلى” قلب سلاسل القيمة ونماذج العمل الإعلامي الحالية رأسا على عقب”، على حد قول مديرة اليونيسكو، التي أوضحت أن العاملين في وسائل الإعلام ومصادر معلوماتهم، أصبحوا أشد تعرضا لخطر الاستهداف والمضايقة والاعتداء في العصر الرقمي، نتيجة أسباب عديدة، منها تقنيات الاحتفاظ بالبيانات وبرمجيات التجسس والمراقبة الرقمية، فضلا عن تفاقم انشار مظاهر التعبير عن الكراهية ضد الصحفيين، التي تتضرر منها الصحفيات بوجه خاص اللواتي تتعرضن للعنف عبر الإنترنيت.
ويلاحظ في ظل “الصحافة تحت الحصار الرقمي”، فإن الإنترنيت غيرت بعمق معالم وسائل الاعلام التقليدية، خصوصا مع ظهور فاعلين جدد في بلورة انتشار المعلومة الإخبارية، وبالتالي خلخلت هذه الشبكة الممارسات المهنية للصحافيين أنفسهم، وغيرت جزئيا الطريقة التي يجرى بها إخبار الجمهور، مما جعلها تكون سببا في إعادة توزيع الأدوار بين المنتجين والمستهلكين لمواد الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية، وذلك في تغير تدريجي لطرق اعتماد المعلومات وممارسة القراءة، كما جاء في كتاب ” الثورة الرقمية ثورة ثقافية” للمؤلف الفرنسي ريمى ريفييل.// وفي الوقت الذي يضطلع فيه الصحفيون بدور أساسي في توفير المعلومات الموثوقة، ويقيمونها ويحققون في أمرها وينشرونها، وهو ما يضمن قدرة للأفراد والجماعات على اتخاذ القرارات الصائبة والملائمة مما يجعل من الصحافة ذات منفعة عامة، فإن تقارير المنظمات المهنية تسجل ارتفاعا واضحا للقيود المفروضة على حرية الصحافة عبر العالم، وهذا يعكس ارتفاع عدد الصحفيين المعتقلين، حسب منظمة “مراسلون بلا حدود”، التي أشارت إلى أن حرية الصحافة تعرقل كليا أو جزئيا في 73 بالمائة من البلدان 180 التي تقيم وضعها في سياق البحث الذي أنجزته برسم 2021.
الدول العربية في آخر تصنيف حرية الصحافة
وعلى الرغم من أن حرية الصحافة تعد أحد الدعائم الأساسية لإرساء الديمقراطية، فإن انتهاكات بحق الصحافيين تسجل في بلدان عديدة من ضمنها حتى دول ذات أنظمة ديمقراطية. لكن الدول العربية مازالت تأتي في مقدمة الدول التي تقيد حرية الصحافة وتلاحق الصحفيين. وفي هذا الصدد وصف اتحاد الصحافيين العرب أوضاع الحريات الصحافية، بالمنطقة العربية بـ”السوداوية.. ومازالت تعيش وضعا سيئا من خلال تكميم الأفواه”. وقال رئيس لجنة الحريات بهذا الاتحاد العربي عبد الوهاب زغيلات مؤخرا ” إن دولا عربية ما زالت تجيز حبس الصحفيين، مع الضغوط الجمة التي يعيشونها، وهي حالة شاذة عن التوجه السائد في العالم وسلوكا لم يعد معمولا به”، في الوقت الذي تحتفل فيه الأمم المتحدة بالذكرى السنوية العاشرة للخطة الأممية بشأن سلامة الصحافيين ومسألة الإفلات من العقاب.
وهكذا حافظت الدول العربية على موقعها في مؤخرة التصنيف الأخير الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود”، التي تحتل توجد كلها بعد المائة من أصل 180 بلدا باستثناء ثلاثة دول (جزر القمر الأولى عربيا (83)، تليها تونس (49)، وموريتانيا (97). وتحتل النرويج المرتبة الأولى في التصنيف العالمي تليها الدانمارك والسويد.
صورة قاتمة عن حرية الصحافة
وعلى المستوى الوطني رسمت الفيدرالية المغربية لناشري الصحف ” صورة قاتمة” عن حرية الصحافة بالمغرب (المرتبة 135 في تصنيف مراسلون بلاحدود) ، في ظل ” حكومة الدولة الاجتماعية” وذلك في معرض مداخلتها في ندوة “الإعلام والبناء الديمقراطي”، التي نظمها الأسبوع الماضي بالرباط حزب التقدم والاشتراكية. وقال نور الدين مفتاح “رئيس باطرونا الصحافة” إن الوضع الإعلامي الراهن يعد “السناريو الأكثر سوءا الذي كان يمكن تصوره”، في حين يرى كريم تاج عضو المكتب السياسي للحزب أن الإعلام أضحى يفي ظل الحكومة الحالية، “يشتغل في ظل تلويث السياسة بالمال، والتطبيع مع تضارب المصالح. ويبدو أن حرية الصحافة لم ترتق بعد إلى مقتضيات دستور 2011 الذي نص -لأول مرة- على أن حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية، والحق في الإعلام مع ضمان حق الجميع في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء بكل حرية، مع إلزام السلطات العمومية بالتشجيع على تنظيم قطاع الصحافة بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية، مع الالتزام بما يحدده القانون من قواعد تهم تنظيم وسائل الإعلام العمومية ومراقبتها، واحترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية للمجتمع. فالعديد من هذه المقتضيات الدستورية، ما زال يصطدم بإكراهات موضوعية وذاتية منها البيئة التي تمارس في ظلها الصحافة والإعلام، والنقص الحاصل في التربية الإعلامية، وتراجع منسوب أخلاقيات المهنة، وعدم استيعاب غالبية الفاعلين، بما فيه الكفاية، للأدوار الهامة للصحافة، في مجال النهوض بحرية التعبير وحقوق الإنسان، وفي تحقيق الديمقراطية والتنمية المستدامة.
لا ديمقراطية بدون حرية الصحافة
فالوضع الراهن يتطلب الارتقاء توطين موقع ووظائف الإعلام والتواصل في الديمقراطية والتنمية وطنيا وجهويا، حتى تصبح الصحافة “جهاز إنذار” وأداة لليقظة المجتمعية، وللرقابة ووسيلة لترسيخ الديمقراطية، الأمر الذي يتطلب الانتقال من علاقة التوجس وعدم الثقة بالإعلام التي ميزت على الدوام العلاقة ما بين السلطة والإعلام، إلى علاقة مبنية في ظل الاستقلالية على مبادئ التكامل والتعاون.
وتساهم تصريحات ومواقف بعض المسؤولين الحكومين والسياسين في خلق بيئة معادية للصحافيين، تؤثر بشكل كبير على قدرات الصحافيين على أدائهم المهني بشكل سليم، خاصة حينما تكون مؤسسات الوساطة، (الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني)، قد فقدت مصداقيتها. بيد أن الإعلام، بالمقابل يظل حاضرا، لأنه الأداة الرئيسة لتشكيل الرأي العام وتوجيهه وتوفير المعلومات الموثوقة. فعلى الرغم من أن الإعلام “مؤسسة ديمقراطية” فإنه بالمغرب ظل دوما لا يساير إيقاع الزمن السياسي والاجتماعي، مما يفرض في المرحلة الراهنة، توفير كافة الظروف والشروط حتى يقوم بدوره الحقيقي، إسوة بما يعتمل في البلدان الآخذة بالديمقراطية، وذلك بإعداد برامج واتخاذ مبادرات فعالة لتحفيز النقاش العمومي، وتوطين موقع ووظائف الاعلام في المجتمع والذي يمر عبر توسيع هوامش حرية التعبير ومنها حرية الصحافة والإعلام، وبتنقية أجواء المشهد الصحفي، بخلق بيئة ومناخ مناسبين يسمح بقيام اعلام، جدير بأن يكون سلطة مهنية مستقلة، تضطلع بمهام الاخبار والتثقيف والتوعية، وذلك حتى لا تبقى بالخصوص “تعددية الصحافة بالمغرب مجرد واجهة صورية، حيث لا تعكس وسائل الإعلام تنوع الآراء السياسية في البلاد” حسب ما ورد في تقرير منظمة مراسلون بلا حدود بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة. ولا يمكن أن تستقيم أي ديمقراكية بدون حرية الصحافة والإعلام.