عن الحجاب والتججيب السياسي كسلاح لقمع الحريات والسيطرة
د.عايدة الجوهري: قيم التنوير غائبة والإنسان دمية في يد قوى غامضة
فاطمة حوحو
تشتعل شوارع إيران هذه الأيام، بانتفاضة شعبية ضد قانون الحجاب الإلزامي وطريقة التعامل في تطبيقه من قبل شرطة الآداب، التي أدت إلى مقتل الشابة مهسا أميني، لتعيد الناس إلى الشارع طلبا للحرية والعدالة.
كثيرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي نشروا صورا للنساء الايرانيات قبل الثورة الإسلامية، تعكس أجواء الانفتاح أيام الشاه، وقد حاولت المرأة الإيرانية في أكثر من محطة التخلص من قواعد الحجاب الإلزامي، حيث شهدت السنوات الأخيرة تحركات أدت إلى تخفيف مظاهرةه المتشددة، لا سيما أيام الانتخابات، حيث تسعى السلطة لكسب تأييد النساء ثم العودة إلى قرارات التشدد ما بعدها.
ليست المرأة الإيرانية فقط من تعاني من إلزام الحجاب، فهناك تنظيمات إسلامية سياسية في العالم العربي فرضته أيضا، في محيطها الاجتماعي والسياسي، وإن لم يكن هناك قرار رسمي بإلزاميته، وتم التعاطي معه في دول الخليج كأمر واقع وعادة اجتماعية وكفرض ديني، بعيداً عن الاجتهادات التي رافقت النقاشات حول هذا الموضوع، على الرغم من المحاولات في السنوات الأخيرة إلى إلغاء إلزامية الحجاب قانونا.
تؤشر حالة الإكراه على الحجاب، إلى القمع الذي يعانيه الإنسان، اِمراة أم رجل، في أي دولة من قبل السلطة، وهي تعتمد على الترغيب والترهيب لمن لا يلتزم به، ليصبح الحجاب أمرا وليس خياراً حراً، خصوصاً عندما نجد احتفالات تحجيب فتيات في التاسعة من أعمارهن، يخطب بهن شيخ من حزب ديني يسعى لجمهورية إسلامية، أو يريد فرض الإسلام في كل العالم والعودة إلى السلفية والأخْوَنَة، أو عندما تفرض سلطة سياسية، مثل “حماس” في فلسطين، على موظفات حكوميات ارتداء الحجاب، أي بالإجبار، فإشكاليات الحجاب لا تنتهي في المجتمعات المقموعة.
“السؤال الآن” حاورت الباحثة والكاتبة الدكتورة عايدة الجوهري، مؤلفة كتاب “رمزية الحجاب مفاهيم ودلالات”، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، والتي تقارب موضوعة الحجاب من منظور زمني ـــ سيوسولوجي ـــ سيميائي، وليس من منظور ديني فقهي.
في البداية توضح لنا: “أنا لا أتعامل مع النصوص الدينية، ولست فقيهة ولا مجتهدة، أنا باحثة سوسيولوجية، أتعامل مع الحجاب كدليل وعلامة على شىء آخر، وكظاهرة مرتبطة بنوايا وبظواهر أخرى اجتماعية وسياسية، وأُقاربه كما أُقارب أي أداة ضبط اجتماعي تهدف إلى محاصرة المرأة، مثله مثل الأحكام الجائرة في قوانين الأحوال الشخصية، وكل الممارسات التي ترمي إلى تدجين المرأة ومصادرة إرادتها وإخماد حيويتها وإلغاء ذاتيتها، إنهم يقولون للمرأة لستِ أنتِ من يقرر.. نحن نقرر لك. فمن هذا المنظور أنا أعارض فرض الحجاب بالقوة على النساء”.
من ناحية ثانية، تعتبر الجوهري أن للحجاب المفروض على النساء “بالقوة وبقرار مركزي سياسي أو اجتماعي عدة وظائف ترتكز على تحجيم دور المرأة وتحجيم وجودها والتقليل من حرياتها وفرض وصاية الرجل على حياتها، وإلا لماذا يبادر الرجال إلى تحجيبها أو يأخذون على عاتقهم أمر فرض الحجاب عليها، إنها سيطرة على وجود المرأة من خلال السيطرة على جسدها وطريقة لباسها وعلى أذواقها”.
وتستدرك بالتأكيد “الوظيفة الرئيسية للحجاب، هي احتواء كينونة المرأة والتحكم بإرادتها”، مشيرة إلى أن “الوظيفة الثانية وظيفة سياسية طبعا، ولا تقل أهمية عن الأولى وتتزامن معها، إذ أنها تدخل في استراتيجية القمع السياسي والاجتماعي العامة، التي تعتمدها الأنظمة الاستبدادية، فهذه الأنظمة تدرك أن التطويع السياسي ينطلق من الخاص، أي من الحريات الشخصية، من حرية المأكل والملبس والتنقل والسكن، كما من حرية المعرفة والتفكير والتعبير والتواصل، لذا لا أستغرب قرار الرئيس الإيراني التشدد في قانون إلزام الحجاب، وما يسمى اللباس المحتشم في وسط الاحتجاجات”.
وتحدد الهدف من هذا القرار، بكونه “يرمز إلى رغبة السلطة باِنتزاع الاعتراف بها وفرض الاعتراف بها، والذي لا يذعن لهذه الرغبة السلطوية، يعد من الخوارج. الحجاب هنا هو رسالة السلطة إلى عموم الناس، من يرتديه يعلن إذعانه، ومن لا يرتديه ويتمرد عليها تحسبه هذه السلطة في عداد المتمردين، ولا يغيب عن بالنا أن الرسالة ليست موجهة إلى النساء فحسب، بل إلى الرجال أيضا، فالرجال الذين يعيشون معاناة هذه المرأة المحجبة ويعيشون عزلتها، يفتقدون هم أيضا طعم الحرية وينتهي بهم الأمر إلى الانخراط في النظام العبودي والتآلف معه، فلا نستغرب إذا التشدد في فرض الحجاب من قبل رأس السلطة وأجهزتها ولا نستغرب أيضا وجود رجال يحاربون من أجل سفور المرأة، لأنهم بسفورها يسفرون أيضا عن وجودهم وآرائهم ورغباتهم فهم يفهمون بالحدث أن المقصود بتحجيب المراة هو تحجيب الرجل رمزيا، والحد من عيشه بحرية، فكيف يعيش حرا من يعيش عبدا باِستمرار، وهذا العبد إما زوجته او ابنته أو أخته أو قريبته، الرسالة مزدوجة وليست موجهة فقط للنساء، وهي موجهة للرجال والنساء معا”.
عن مدى تأثير الثورة الإيرانية في نشر الحجاب في العالم العربي والإسلامي وارتباطه بالسياسة، وعن الفارق بينه وبين الحجاب الديني، تجيب الجوهري: “لقد أثرت الثورة الإيرانية لا شك بانتشار الحجاب، وعلى نطاق واسع في العالمين الإسلامي والعربي. ولكن لانتشاره عربيا دوافع أخرى مرتبطة بصعود الخطاب السلفي في أعقاب هزيمة عام 67، إذا أخذنا مصر نموذجا، والسلفيون يستغلون كل الفرص للاِنقضاض على المكاسب التي حققتها المرأة عبر التاريخ، وللإعلان عن وجودهم السياسي والاجتماعي. الحجاب أيضا بالنسبة للسلفيين يمثل دورا مزدوجا. هم يريدون السيطرة على المرأة، هم ذكوريون، بما لا يقبل الشك ولكنهم يريدون ايضا الإعلان عن وجودهم السياسي”.
وتوضح: “يتحول هنا حجاب المرأة إلى علم يدل على سعة حضور هؤلاء الإسلاميين والسلفيين، وهو في الوقت نفسه أداة لمخاطبة السلطة المركزية وسائر فئات المجتمع. هم يقولون لهم نحن موجودون، وكلما اتسع نظاق انتشار الحجاب كلما اتسع نفوذهم، ففي هذه الأوساط للحجاب أيضا أكثر من وظيفة، مثله مثل الحجاب الذي تفرضه السلطة المركزية مع اختلاف بالدوافع، بمعنى أن الأحزاب الإسلامية والسلفية خارج السلطة لا تملك سلطة القرار وتسعى إليها. وهي تسعى إليها انطلاقا من القاعدة، تريد إرسال رسائل إلى السلطة المركزية. أما في الأنظمة الاستبدادية في السلطة المركزية هي التي ترسل رسائل إلى عموم أفراد شعب، علاقات القوة مختلفة في الحالتين، وعندما يفرض الحجاب في نظام استبدادي فالمواجهة تكون أكبر،عندما تفرضه السلطة المركزية المواجهة تكون أكبر وأشد حدة”.
وتشدد على أنه “في جميع الأحوال أن تحدثنا عن الأنظمة الاستبدادية أم عن الأحزاب السلفية والإسلامية التي تتوسل حجاب المرأة للإعلان عن نفسها جميع هؤلاء يستعملون المرأة بصفتها الحلقة الأضعف. يعني النظام الاستبدادي يستعمل المرأة بصفتها الحلقة الأضعف، والأحزاب الإسلامية والسلفية تستعمل المرأة للإعلان عن نفسها بصفتها الحلقة الأضعف”.
وعن الحملات الداعية إلى خلع الحجاب اليوم، ترد الجوهري: “الحملات مفيدة في جميع الأحوال لأنها تشجع الناس والنساء خصوصا على الرفض والتمرد وتفيد في خلق وعي مختلف عند من لا يدرك خطورة الحجاب، لكننا نحتاج الى رؤية فلسفية ـــ انسانية مختلفة، نحن لم نقترب بعد من قيم التنوير وأسسه. حيث الإنسان غاية بحد ذاته لا وسيلة لغاية تتخطاه، وحيث حريته تأتي في المقام الأول وحيث ينظر إلى الإنسان إمراة أم رجل ذكر أم أنثى ككائن عاقل وحر ومستقل الإرادة وسيد نفسه وليس كدمية في يد قوى غامضة”.
وتضيف: “إننا اليوم ما قبل عصر التنوير، ولا زلنا ننظر إلى الإنسان كوسيلة، وللمرأة ككائن قاصر وغير عاقل وغير حر، ويحتاج باِستمرار لمن يتولى أمره ويرشده إلى الصراط المستقيم. وبالتأكيد أنا برأيي أساس المشكلة هو في الرؤية الفلسفية والاجتماعية هي في كيفية النظرة اإى الإنسان كلل، نحن نتحدث غالبا عن المرأة ولا نتحدث عن الرجل الذي يعاني بطريقة أو بأخرى من نفس أشكال الاستبداد، هو يعاني أيضا من ادعاءالأجهزة السياسية والدينية بأنهم بحاجة إليها وأنهم بدونها يخرجون عن الصراط المستقيم، وقد يؤذي نفسه ويسيء إلى القيم الدينية والعليا، الرجل أيضا يعاني بدوره من هذا الخطاب وارتداداته”.
أما عن اختفاء الأصوات النهضوية التي نادت منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين وآخرهم نظيرة زين الدين بحق المرأة في السفور، تقول الجوهري: “برأيي المسألة تعود الى الواقع السياسي السلطوي، الأصوات النهضوية ارتفعت في ظل الحكم الاجنبي، في ظل الحكم الانجليزي في مصر والحكم الفرنسي في لبنان. إذا اتخذنا مصر ولبنان كمرجعيتين، وقد تصح هذه الفرضية في بلدان عربية أخرى، ولا ننسى أن الحركة السلفية في مصر بدأت في عشرينيات القرن الماضي عام 1928 مع حسن البنا، ومع صعود هذا التيار وتفرعاته تعطل الخطاب الديني، وأنظمة الحكم المحلية الاستقلالية لم تكفل حرية الأصوات النهضوية. هو مناخ عام كابح للاصوات المغايرة. وخير مثال على ذلك ما تعرضت له نوال السعداوي من اضطهادات توطأت فيها السلطة السياسية مع الأجهزة الدينية، وما تعرض له نصر حامد أبوزيد وما تعرض له السيد القمني وحسن حنفي فالأصوات النهضوية تعرضت لاضطهاد غير مسبوق ولم تكن لتتعرض له فيما يسمى عصر النهضة، مثلا قاسم أمين لم يتعرض لاضطهاد مماثل ولا الشيخ محمد عبده ولا غيرهما للأسف كان منسوب الحريات في بدايات القرن العشرين وما قبله أعلى، يعني نحن قيد التراجع والتقهقر، في ظل هذا الخطاب التراجعي لا نتوقع أن يتحول المفكرون إلى فدائيين في المناخ القمعي. علما أتوقع جرأة أكبر لكن نستطيع طرح سؤال بطريقة اخرى، نجد آثار هؤلاء النهضويين على صفحات التواصل الاجتماعي وهم يعبرون في مواقع حرة كثيرة، ولكن نرى أن وسائل الإعلام الجماهيري لا تحتضن هؤلاء وعموما هذه الوسائل مثل التلفزيون مثلا أشد تأثيرا، ورسائلهم الإعلامية تصل إلى ملايين الناس في لحظة واحدة، بينما وسائل التواصل تصل لعشرات الألوف كحد أقصى. فوسائل الإعلام الجماهيري متواطئة أيضا مع الأنظمة الاستبدادية. وهي لا تشذ عن القاعدة بمعنى آخر ناطقة باسم السلطة في كل البلدان”.
ولا تشكك الجوهري من استفادة السلطة الاستبدادية من تقهقهر جمهور الفكر الفرد العربي المأخوذ بالغيبيات لن ينتبه إلى تجاوزات السلطة، هو ينتظر الحياة الأخرى، هو ينتظر الحصول على الملذات والمتعة في عالم آخر ولا يلتفت إلى ما يعانيه، هو يعتبر أنه مقدر له أن يعاني ما يعانيه وليس عليه سوى الانتظار، وفي نهاية المطاف يتواءم ويتجانس النظام الذكوري القائم على سيطرة الرجال على النساء مع النظام السياسي الاستبدادي، حيث تتسلط حفنة من الرجال على الرجال والنساء وفي الأسرة يتسلط الرجل على المرأة ويتوهم أنه حر، وأنه كائن ذو إرادة وقرار، هو وهم الحرية فالنظام يريد أن يشعر الرجل أنه قوي ضمن الأسرة ليترك مجالا للاستبداد به خارجها، فالسلطة السياسية توهم الرجل بأنه قوي ويكتفي بهذا الوهم والنظرية التي تقول إن المقموع يقمع نظرية صحيحة لكن الرجال المدركين اكتشفوا هذا الوهم وفضحوه ولم يقتنعوا بأن ما يمارسونه من استبداد في الأسرة يساعدهم على تحقيق ذواتهم فانتفضوا بدورهم، لكن هذه التحليلات التي ترجع الحجاب إلى البنية السياسية على وجه خاص، لا تنفي ضرورة التمرد ضدها، فمن شأن التمرد خلق وعي جديد ولا بد من وعي جديد من أجل التغيير، ولا يكفي بنظري التمرد ضد الحجاب على اهميته، يجب التمرد ضد كل القوانين والأعراف الجائرة، ضد ما يسمى الاحكام الجائرة الموجودة في قوانين الأحوال الشخصية مثلا، ضد ما يسمى جرائم الشرف، التي تبيح للرجل التخلص من المرأة وكأنها كائن نافل، هي معارك عدة يجب خوضها”.