حالة الاستثناء في سورية (1-3)

حالة الاستثناء في سورية (1-3)

لحسن أوزين

       تحاول هذه الدراسة أن تفكر تحليليا ونقديا، الواقع السياسي العربي، من خلال الأدوات والمفاهيم، التي أنتجتها الخلفيات الفلسفية والسياسية للمفكر والفيلسوف جورجيو أغامبين. وهي مفاهيم ساهمت في سيرورة تشكلها الكثير من المرجعيات الفلسفية والمعرفية والابستمولوجية، والسياسية، والأيديولوجية. نذكر على سبيل المثال لا الحصر تفاعله النقدي البناء والخلاق مع كل من كارل شميت، فالتر بنيامين، مشيل فوكو، حنة أرنت…

كما أن الأدوات والمفاهيم النظرية التي اشتغل عليها أغامبين، إنتاجا وبناء وتأسيسا لجدل تكاملها المعرفي النظري والمنهجي، تبقى حاضرة بقوة في ترابطاتها الشديدة التركيب والتعقيد، في تمفصلها وتضافرها وتلازمها البنيوي. وذلك لتعميق الرؤية الفلسفية السياسية، وتوسيع المنظور المنهجي التعددي التكاملي في دراسة الظواهر والقضايا الاجتماعية، والقانونية و السياسية.

 هذا يعني أن دراسة حالة الاستثناء الأبدي التي تعرفها البلدان العربية تترابط جدليا مع مفاهيم ومصطلحات:  الانسان المستباح، حالة الطوارئ، الحياة العارية، السلطة السيادية، السلطة الحيوية، الديكتاتورية، والبيو سياسة، والتناتو سياسة، سياسة القتل، الحصار والمعتقل والتهجير، والعنف السياسي والقانوني…

وهي مفاهيم علمية قادرة على إنتاج تحليليا ونقديا معرفة بواقع حالة الاستثناء السائدة في المنطقة العربية. وسنبحث في هذا السياق، كنموذج، حالة الاستثناء السورية، التي تحضر وتتكشف فيها كل حالات الاستثناء العالمية والإقليمية والمحلية، سواء الصريحة المستبدة منها، أو التي تتقنع برداء الديمقراطية، أو بالنزاهة والعدالة القانونية السياسية، كما هو الشأن بالنسبة للقانون الدولي ومؤسساته الرسمية. وتتجلى، حالة الاستثناء، بصورة واضحة لا لبس فيها بين الطغيان والتوحش الصريح المحلي، و الاستبداد والقهر التسلطي الإقليمي المكشوف، والدكتاتورية  أو الديمقراطية على المستوى العالمي.

بهذا المعنى نعتقد في أهمية وضرورة التفكير نقديا مع جورجيو أغامين الوقائع والاحداث الحية لحالة الاستثناء التي عمت، بتفاوت في الشدة والحدة والمدة والامتداد، العلاقات الداخلية لكل بلد، والعلاقات الخارجية الدولية.

أولا: حالة الاستثناء

    لقد تشكلت هواجس وانشغالات وأسئلة أغامبين الفلسفية والقانونية والسياسية، انطلاقا ليس فقط من هم معرفي نظري علمي، بل أيضا بسبب ارتباطه الذاتي والموضوعي بالصراع السياسي الاجتماعي الذي تعيشه البشرية. خاصة في ظل النظام الرأسمالي الامبريالي والنيوليبرالي، في سيرورة تكونه وتطوره، مع سيطرته وهيمنته وتحكمه في الفرد والجماعة، في العقول والاجساد، في الحريات والحقوق، في المجتمع والدولة والثقافة والتاريخ…

لذلك كان ناقدا شرسا لكل حقائق ومظاهر القهر الديكتاتوري، والاذعان التسلطي، والعبودية المستحدثة باسم حماية الشعب والدولة. وهذا ما جعله يرفض جملة وتفصيلا كل المسوغات والمبررات الفلسفية والسياسية التي أنتجها كارل شميت في دفاعه المستميت نظريا، عن الشمولية النازية، من خلال، مجموعة من الأعمال الفلسفية السياسية، كالدكتاتورية، و اللاهوت السياسي، ومفهوم السياسي…

لهذا نقد ونقض أغامبين أغلب الطروحات النظرية لكارل شميت حول السلطة السيادية الديكتاتورية التي تفرض هيمنتها وسيطرتها وتسلطها الطغياني على العقول والقلوب والاجساد. مختزلة السيادة والقانون والسياسة والسلطة في الحاكم بوصفه صاحب السيادة الذي يستأثر وحده بالسلطة المطلقة، بالتقرير والتشريع والتنفيذ باسم القانون من خارج القانون، مستحدثا وضعا من حالة الطبيعة ، كما هي عند هوبز. يحدث هذا بعد أن قام صاحب السلطة المطلقة بتعليق القانون وفرض حالة الاستثناء التي تجعله وحده خارج القانون، صاحب السيادة، الذي لا شريك له في سلطة السيادة. واضعا الافراد والجماعات والمجتمع خارج دائرة الوجود البشري القانوني والحقوقي، والحضور السياسي الاجتماعي والتاريخي. وهذا ما يسميه أغامبين الحياة العارية، التي تفتح الباب واسعا للنفي والاقصاء والتهجير والقتل خارج المنطق القانوني الحقوقي للجريمة والابادة. لأن هذا الوضع ببساطة يجعل الناس في حالة الانسان الحرام/المقدس، الانسان المستباح، المهدور دمه، خارج منطق القتل والمتابعة القانونية للقاتل.

هكذا هي “مفارقة السيادة، صاحب السيادة كائن في نفس الوقت خارج النظام القانوني وداخله ( أنا صاحب السيادة، الكائن خارج القانون أعلن أنه لا وجود لما هو خارج القانون)”.[1]

انطلاقا من هذه المفارقة المشحونة بالالتباس بين القانون/الحق والواقع تتأس لحظة الاستثناء كعتبة عدم تمايز تفارقية بين الداخل والخارج بين حالة الطبيعة والقانون. ففي هذا الوضع المستحدث من تعليق القانون، من خلال استبطانه واجتيافه، تسود حالة الطبيعة نافية ومستبعدة النظام القانوني والحقوقي السياسي. وهذا ما يسمح لكارل شميت بالقول: “القرار السيادي يبرهن على أنه لاستحداث القانون لسنا في حاجة لنكون على حق”.[2] هذا يعني أن حالة الاستثناء يكون لها شكل سياسي قانوني بما لا يمكن أن يكون قانونيا. ينتج هذا الوضع الديكتاتوري حين تلتهم السلطة المطلقة السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، الى درجة عدم التمييز بين كل هذه السلط. إننا في حالة الاستثناء هذه أمام نموذج للحكم تلجأ إليه السيادة الديكتاتورية للسطو على السيادة الشعبية، بدواع أمنية، حربية، تهديدات مرتبطة بالدولة والشعب…

 وغالبا ما تتستر وراء المصلحة العامة في لجوئها إلى منطق وقانون الضرورة التي لا قانون لها. حيث تجعل هذه الضرورة ما هو غير مشروع في القانون مشروعا. فالضرورة لا تعرف القانون، بل تخلق قانونها الخاص. “خاصية الوضع المستحدث في الاستثناء هي أنه لا يمكن تعريفه لا على أنه وضع واقع ولا على أنه وضع حق. إنه ينشئ بالأحرى بين هذين الوضعين عتبة عدم تمايز تفارقية”.[3]

ويخبرنا أغامبين أن حالة الاستثناء متجذرة بنيويا في التاريخ السياسي الغربي. فقد عرفتها البلدان الغربية، من فرنسا إلى أمريكا، بكل توجهاتها السياسية اليمينية واليسارية. حيث تحولت السلطة التنفيذية إلى هيئة تشريعية، في تخل واضح للبرلمان عن سلطته الدستورية. وبالتالي سادت في تاريخ هذه البلدان حالات الأحكام العرفية وحالات الطوارئ…، وهذا ما جعل ” السلطة التنفيذية تبتلع السلطة التشريعية، مما أدى إلى  بروز جمهورية حكومية وليس برلمانية.”[4].

هذا الوضع المستحدث والناتج عن التقدير الذاتي السياسي، البعيد كليا عن فزاعة الضرورة والمصلحة العامة، يخلق التباسات معقدة في العلاقة بين الواقعة والقانون، بين سريان القانون المعلق واستحالة التطبيق.” بوسعنا أن نصف حالة الاستثناء وفقا لنظرية شميت بأنها الحيز الذي يصل فيه التعارض بين القاعدة وتطبيقها لأقصى درجات التركز. إنه حقل للتوتر القانوني يتلاقى فيه أدنى حد من السريان الشكلي مع أقصى درجة  للتطبيق الفعلي وبالعكس… حالة الاستثناء التي تظل القاعدة فيها سارية دون تطبيق.”.[5]

وفي ظل هذا الالتباس تتغول السلطة المطلقة للحاكم، صاحب السيادة الذي لا شريك له في اعتلاء عتبة حيز المفارقة بين كونه خارج القانون، ومشرعا ومنفذا وحيدا لإجراءات ومراسيم وتعاليم، تكتسب قوة القانون. هكذا يهدر القانون ويهمل رغم كونه ساريا، لكن دون مفعول، وبدون دلالة.

“حالة الاستثناء تشير الى حالة قانون تحتفظ فيها القاعدة المعيارية بسريانها دون أن تطبق ( أي ليس لها قوة) من جانب، ومن جانب آخر ثمة تدابير تكتسب قوة القانون دون أن تكون له مرتبته… حالة الاستثناء فضاء لا معياري مثار الاهتمام هو قوة قانون بلا قانون… إن تطبيق القاعدة يستلزم في النهاية تعليق تطبيقها وإنتاج الاستثناء.”[6]

وينبهنا أغامبين الى أن هذا الحضور القوي لصاحب السيادة في ممارسته للسلطة المطلقة، بعد تعليق القانون، من خلال تخريب متعمد لمضامينه ودلالات قواعده التطبيقية، لا يعني أننا أمام ديكتاتورية من القانون المطلق. بقدر ما أن هذا الواقع يمثلا حالة استثناء تعيش تعليقا و فراغا قانونيا، في ظل دولة البنى المزدوجة. حيث يعمل القانون على استيعاب واحتواء غياب القانون نفسه.

” إن حالة الاستثناء ليست ديكتاتورية، بل هي فضاء ذو فراغ قانوني، حيز من اللامعيارية تتعطل فيه كل التمايزات القانونية وعلى رأسها التمايز نفسه بين العام والخاص”[7].

ثانيا: التلازم البنيوي بين حالة الاستثناء وحالة الطبيعة

    في حالة الاستثناء التي يفرضها الحاكم صاحب السيادة، من خلال تعليق القانون، ووضع نفسه خارج القانون باسم القانون الذي يأخذ شكل إجراءات ومراسيم وتدابير لها قوة القانون. في هذا الفضاء السيادي للديكتاتور ينتشر التصحر السياسي، ويتم الاجهاز على الخصوم الذين يرفضون الاندماج السياسي في حالة الاستثناء. هكذا يسود العنف السيادي ويتحول الوضع الى حالة الطبيعة. وهذه الأخيرة لا تعني الحياة، كمرحلة تاريخية ماضوي من الحياة العارية التي عاشتها البشرية في تطورها التاريخي الاجتماعي. بل يتعلق الامر بوضع مستحدث فرضته حالة الاستثناء التي ابتلعت فيها السلطة التنفيذية السلطة التشريعية، السلطة السيادية للشعب.

لذلك فإن ما بصدد الحدوث لا يعني، “عودة ظهور حالة طبيعية لصراع الجميع ضد الجميع… وإنما بالأحرى على أنها بروز حالة الاستثناء من حيث هي بنية قارة لزعزعة الموضعة وللتصدع القانوني السياسي. لا يتعلق الامر بتقهقر التنظيم السياسي نحو أشكال بالية، وإنما بأحداث متوقعة تنبئ، وكأنها نذر دامية، بناموس الأرض الجديد.”[8]

هكذا يعيش الناس الحياة العارية معرضين لكل المخاطر والنبذ والنفي والتخلي من قبل القانون، أي بصفتهم الكائن المتخلى عنه. واستحداث هذا الوضع من حالة الطبيعية التي تصير فيها حياة الانسان مستباحة، معرضا للقتل، دون أن تكون له صفة الضحية، ولا يسمى القاتل مجرما، أو يمكن أن يتعرض للعقاب والمتابعة القانونية. لأن “العنف السيادي يفتح منطقة عدم تمييز بين القانون والطبيعة، بين الداخل والخارج، بين العنف والحق.”[9]

فالحياة العارية هي الشكل السياسي للسلطة السيادية في سيطرتها وهيمنتها. إنها تعمل على إنتاجها باعتبارها “الأداء الأصلاني للسيادة. الخاصية المقدسة للحياة التي نحاول اليوم إبرازها بوصفها حقا إنسانيا أساسيا ضد السلطة السيادية، على العكس من ذلك هي في الأصل تعبير عن إخضاع الحياة لسلطة الموت، عن عرضها المحتوم في علاقة الإهمال.”[10]

وليس غريبا في ظل هذا الوضع أن يسود نوع من الترابط الجدلي بين التحكم الأبوي في الرقاب والسلطة السيادية. وهو ترابط بين النظام الأبوي وسلطة الحاكم المطلقة، ويعني هذا تحكم السلطة بالحياة والموت. وهذا ما يجعل خطاب السلطة المطلقة اليوم مفعما ومشحونا بعبارات الأب القائد، والأب الخالد، في تماه واضح بالأب والإله. “نفوذ الحاكم ليس هو غير تحكم الأب برقاب أبنائه ممتدا الى كل المواطنين…قد لا يسعنا أن نقول بأكثر وضوحا إن الأساس الأول للسلطة السياسية هو حياة معرضة بإطلاق للقتل الذي يتسيس عبر إمكانية الإعدام هذه ذاتها… استحالة فصل السلطة عن التحكم بالحياة والموت”[11]

هذا هو واقع حالة الاستثناء التي يفرضها الحاكم الدكتاتوري، كما يمكن أيضا أن تأتي حالات الاستثناء من البلدان الديمقراطية. ولعل في السرد التحليلي النقدي الذي قام به أغامبين في كتاباته، وبشكل خاص في كتاب (المنبود السلطة السيادية والحياة العارية) وأيضا في كتاب (حالة الاستثناء الانسان الحرام)، حول حالة الاستثناء في البلدان الغربية من فرنسا الى أمريكا، خير دليل إلى عدم ارتباط حالة الاستثناء بالأنظمة الديكتاتورية. والأكثر من ذلك في تناوله لحالة الاستثناء التي فرضتها أمريكا داخليا وخارجيا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. حيث مارست نوعا قذرا من الحياة العارية في حق الكثير من الشعوب أفرادا وجماعات. وخرقت كل الشرائع والقوانين الدولية والإنسانية، وتصرف حكامها باعتبارهم صاحب السيادة الذي يمكن أن يعتدي كما يشاء على الناس، بوصفهم ما دون البشر.” على عكس ما اعتادت الحداثة تصوره على أنه فضاء للسياسة في صيغة حقوق المواطن، الإرادة الحرة والعقد الاجتماعي، من وجهة نظر السيادة وحدها الحياة العارية سياسية على الحقيقة. لذلك لا يتمثل أساس السلطة السيادية عند هوبز في تنازل الرعايا عن حقهم الطبيعي بقدر ما يتمثل في كون صاب السيادة يحتفظ بحقه الطبيعي في الفعل دون حدود إزاء أي إنسان وأي شيء، وهو امتياز يمثل منذ تلك اللحظة بوصفه حقا في العقاب.”[12]  

وهذا الواقع الجديد من الحياة العارية، أو حالة الطبيعة التي لا تعني النكوص والعودة الى ما قبل الثقافة والقانون، بل هي حالة استثناء بامتياز كبير، تم فيها السطو على سلطة السيادة، وإخراج الناس من دائرة السياسة، وتعليق القانون. وفرض حالة الطبيعة والحياة العارية داخل المجتمع. يتم ذلك من خلال اللاتمايز الذي يسود بين الحق والواقع، وبين واقع التخلي والإهمال والنبذ والاستباحة والقانون. وهذا ما يجعل العنف السيادي سيد الموقف. “حالة الطبيعة وحالة الاستثناء ليستا غير وجهي نفس المسار الطوبولوجي حيث ما كان مفترضا خارجا (حالة الطبيعة) يظهر حاليا من جديد في الداخل بوصفه حالة الاستثناء.”[13

Visited 33 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي