عودة ترامب.. قراءة في الأسباب
نضال آل رشي
في نهاية أبريل- نيسان عام 2011 وفي حفل عشاء مراسلي البيت الأبيض، يبدأ باراك أوباما خطابه بوابل من الاستهزاء والتهكم على شخص واحد فقط من بين الحضور في القاعة، هذا الشخص هو دونالد ترامب الذي كان مدعوّاً على ما يبدو لهذا السبب لا أكثر ولا أقل على خلفية اتهام رجل الأعمال الأمريكي البارز لباراك أوباما قبل الانتخابات بأنه ولد في كينيا وليس في الولايات المتحدة الامريكية ما يتعارض مع قانون الانتخابات في الولايات المتحدة الامريكية وأجبر باراك أوباما على استصدار وثيقة ولادة ونشرها في وسائل الإعلام.
إحدى النكات التي أطلقها أوباما على ترامب كانت تتحدث عن أنّ ترامب لو كان يوماً رئيساً للولايات المتحدة، فإن البيت الأبيض سوف يتحول إلى كازينو قمار وحدائق البيت الأبيض ستتحول إلى ملاعب غولف. بعد موجة الضحك الهستيري التي اجتاحت القاعة على وقع النكات، غادر ترامب القاعة متخذاً قراراً مهماً جداً سيغير حياته وحياة الكثيرين، مفاده “سأصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية”.
فعلها ترامب في 2016 أمام المرشحة الديمقراطية هيلاري كلنتون، أمّا عن كيف استطاع النجاح في 2024 وكيف تمكن من اكتساح الديمقراطيين بهذه الطريقة، فالأسباب كثيرة والنظام الإنتخابي الأمريكي معقّد، ولكن بإلقاء نظرة شاملة على نتائج التصويت الشعبي ومقارنتها مع نتائج انتخابات 2020، يبدو جلياً أنّ الديمقراطيين خسروا قرابة ال 8 ملايين صوت (81.3 مليون صوت لجو بايدن في مقابل 73 مليون لكاميلا هارس). فيما لم يستطع الفائز دونالد ترامب إضافة أكثر من 2 مليون صوت (74.2 ملون صوت في انتخابات 2020 مقابل قرابة 76 مليون صوت في الانتخابات الحالية).
من الواضح أن ترامب استطاع انتزاع جزء لا يستهان به ممن كانوا يصوتون للديمقراطيين ولكن الأبرز هنا أن الجزء الأكبر الذي خسره الديمقراطيين لم يصوتوا لترامب ولكن الأهم أنهم لم يصوتوا للديمقراطيين أيضاً.
بايدن وهاريس، السياسة لا ترحم المترددين
أخشى أنّ التاريخ الأمريكي لن يحكم على جو بايدن بلطف. لو كان آل أوباما قد فضّلوا بايدن على هيلاري كلنتون في 2016، لكان بايدن قد فاز في تلك الانتخابات وحكم ولايتين متتاليتين بكل أريحية ولهزم ترامب مرتين بكل أريحية، ولكان التاريخ رحمه بعض الشيء.
ما فائدة الفرضيات الآن؟ لا شيء، في 2020 خاض بايدن الانتخابات وهو يعاني من تراجع إدراكي مبكر، الأمر الذي أنكره هو والديمقراطيون علناً، تحت شعار إنقاذ الديمقراطية من ترامب.
بعد مناظرته مع ترامب في 2024 بات واضحاً أنّ بايدن أعجز من أن يتنطّح لمركز الرئاسة مجدداً، فخاض معركةً شكسبيرية مع الجانب المظلم لروحه وقرر أنه بحاجة إلى التنحي!
في الواقع، لم يكن ينبغي له أن يسعى لأن يكون رئيساً لفترتين، وكان عليه ترك كامالا هاريس تترشح قبل عام بدلاً من تركها في العراء وسط عاصفةٍ هوجاء. هاريس التي لو فازت، لكان قد تم الحكم عليه بناءً على تاريخه الطويل في المؤسسة السياسية الأمريكية، أما الآن بعد أن خسرت، سيتم الحكم عليه في المقام الأول على أنّه الرجل الضعيف الغير سوي عقلياً الذي سلّم الديمقراطية الأمريكية على طبق من ذهب إلى ترامب.
ما حدث مع كامالا هاريس هو أنها في فترة قصيرة للغاية تجاوزت قدراتها وتغلبت على نفسها كمتحدثة، ثم تجاوزت نفسها مرة أخرى لتصبح مناظرة ماهرة ومستعدة تماماً وفعّالة. كان أداؤها مثالاً مذهلاً للقدرة على التعلم السريع في وقت قصير. كان على كامالا هاريس أن تؤدي أداءً بدرجة 7 من 10 بالنسبة لموهبتها، لكنني أعتقد أنها قدمت أداءً بدرجة 9.5 من 10 لأنها فعلياً تفتقر إلى مهارات القيادة والخبرة السياسية في المستويات العليا.
الخلاصة أنه كان هناك بعض الأمور التي واجهت هاريس صعوبة في القيام بها، كصعوبة في تحديد هويتها وشرح أجندتها الاقتصادية، ولكنها بذلت قصارى جهدها، وأدت بشكل استثنائي بالنسبة لموهبتها، وأُعطيت وضعاً شبه مستحيل بسبب طبقة سياسية ديمقراطية متساهلة ورجل غير مدرك غادر السفينة متأخراً.
اللاواقعية السياسية في مواجهة الابتذال
مواجهة ترامب من قبل أيٍّ كان تخلق معضلة صعبة؛ حيث عليك أن تنخرط في خطاب شعبي إلى حد ما، ولكن إذا انخرطت فيه قليلاً لن يصل إلى الجمهور وإذا انخرطت فيه كثيراً فإن هذا الخطاب نفسه سيبدأ في تقويض المؤسسات الديمقراطية التي تحاول حمايتها، وهذا أشبه ما يكون بإدخال خيط رفيع في ثقب إبرة من مسافة بعيدة، لكن ليس هناك خيار آخر سوى المحاولة، محاولة فشل بها الديمقراطيون ومن لفّ لفيفهم.
عادةً يجب أن تتغلب على الشعبويين المبتذلين أمثال ترامب، ولكن عندما تخسر أمامهم مراراً، هنا تحتاج إلى التوقف والتفكير. يجب أن تفكر في مدى تجسيد ترامب لحالة المجتمع التي تنكرها وأنت جزئياً سبب في حدوثها. عليك أن تنظر إلى الناس في الأراضي الزراعية المتدهورة، وأن تنظر إلى الفقراء في المدن، وبعض أفراد الطبقة المتوسطة الذين لا يعانون فقط، بل يعيشون في خوف – خوف من عدم القدرة على دعم عائلاتهم، وخوف من أن يستمر هذا الخوف. في نفس الوقت، يرون أن بعض وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وبعض الطبقات السياسية التي تعودوا على دعمها، ينخرطون في سياسات الهويّة المفرطة كالجندر والتحول الجنسي والمثلية، في نوعٍ من المسرح السياسي المجرّد الذي يمنح مزايا وظيفية واجتماعية لطبقة مهنية دون أن يحسّن حياة الناس المحرومين الذين من المفترض أن يدافع عنهم ودون أن يضع وجبةً ساخنة على طاولة العشاء.
ممارسو هذه السياسة المجرّدة قد ألقوا بالفعل باللوم على “البيض” في فوز ترامب، بينما في الواقع، الحزب الديمقراطي أصبح أكثر “بياضاً” مما مضى، بينما الحزب الجمهوري وسّع قاعدته متعددة الأعراق بضم اللاتينيين والأفارقة الذين صوتوا لترامب. هذا لا يعني أن المشاكل والقضايا العرقية والجندرية والجنسية ليست قضايا مهمة، بل يعني فقط أنها ليست أولويات وأنه يجب معالجتها بالسياسات الحقيقية بدلاً من المسرح السياسي لفئة مرتاحة اقتصادياً لا ترتقي فعلياً لمعالجة القضايا الأساسية التي تضغط وبشدّة على حياة المحرومين.
موت الفكر المحافظ
“لماذا أنت غير منصف مع ترامب والمحافظين”؟
في الحقيقة، وإن كنت لا أتفق معهم في الكثير من القضايا إلا أنه ليس لدي مشكلة جوهرية مع الفكر “الأمريكي المحافظ التقليدي”، ولكن ترامب ليس محافظاً؛ إنه شعبوي تسلطي بعيد عن الحقيقة ومناهض للديمقراطية.
لدي سؤال لهؤلاء: لماذا يُصر المحافظون الجدد أنفسهم على عدم الاعتراف بهذه الحقيقة؟ هل التنكر لمبادئ التجارة الحرة والهجوم على المهاجرين والتخلي عن حلف الناتو وإلحاق الضرر بالديمقراطية تصرفات تمت للجمهوريين أو للمحافظين القدامى أو الجدد بِصِلة؟
أنا سأجيب، إنهم واقعون تحت سيطرة الخوارزميات وضغط الجيوش الإلكترونية والخوف من إغضاب العامة، وتفضيل المصالح الشخصية والغرائز الضيقة على القضايا الكبرى والأكثر أهمية للولايات المتحدة والعالم، يتظاهرون بأنهم ناقدون للحداثة الاستهلاكية وقضايا الهويات الجامحة، لكنهم في الواقع أصبحوا التجسيد الأكثر تفاهةً للرأسمالية غير الهادفة، والمسيحية النكوصيّة.
في النهاية يبدو أننا نعيش ثقافة سياسية جديدة يختفي فيها المحافظون الدستوريون من كلا الحزبين الرئيسيين ليحل محلهم الشعبويون التسلطيون الثوريون بملابس المحافظين.
السيكولوجيا الانتخابية
هنالك نمط سيكولوجي يحكم الانتخابات في السنوات الأخيرة، هذا النمط يجب على كل من يهتم بالديمقراطية أن يراقبه. لفهم هذا النمط بشكل أدق، علينا أن نتوقف لنلقِ نظرة على سيكولوجية المصوتين لترامب، وفقاً لدراسة أجرتها Journal of Politics حول الدوافع الانتخابية تتناول علاقة الشعور بالتهديد الاجتماعي، 30٪ من ناخبيه مدفوعون بالرغبة في التدمير و70٪ بالرغبة في التحرر.
الجزء الراغب بالتدمير يرتبط بالشعور بأن المؤسسات السياسية غامضة وأن السياسيين خونة وأنّ هناك مؤامرة ما لا يدركونها تريد تحقيق أهداف يجهلونها ينفذها أشخاص لا يعرفوهم لأسباب يجهلونها، كل ما يؤمنون به هو أنهم مستهدفون من قبل الساسة والمؤسسات وبحاجة إلى منقذ.
أما الجزء الراغب بالتحرر، فهو يعكس تعطشاً للتمثيل السياسي من قبل أشخاص يشعرون بأنهم بلا صوت وما من سبيل آخر لديهم لدخول اللعبة السياسية إلا بتمثيلهم من قبل أشخاص أقوياء وشجعان حتى ولو كانوا كاذبين وقمّة في الابتذال.
الحرمان الراديكالي والاستبعاد الذي يجعل الناخبين يشعرون بعدم الثقة وانعدام الأمان والخيانة والعجز والشعور بالغموض، إلى الإحساس بأنهم لا تستطيعون الوصول إلى المؤسسات السياسية هو ما يدفع أشخاص مثل ترامب إلى الواجهة.
الديمقراطية والمؤسسات
كان خطأ من إدارة بايدن أن تعلن أن الديمقراطية على المحك، حتى لو كان هذا صحيحاً، وكان من الخطأ أيضاً من إدارة هاريس العودة إلى نفس الرسالة عن الديمقراطية في الأسابيع الأخيرة من حملتها وتصوير الديمقراطية كأنها على المحك وترامب كخطر. ليس لأن الناخبين الأمريكيين لا يهتمون بالديمقراطية، بل لأنهم لا يثقون في الديمقراطيين بشأن الديمقراطية أكثر مما يثقون في ترامب.
لا شك في أن فوز ترامب بالانتخابات يستحق الدراسة على أنه حالة استغلال الديمقراطية لتقويض الديمقراطية نفسها. هذا هو جوهر “مشروع ترامب 2025″، وسيتم تنفيذه في واحدة من أكثر الديمقراطيات المنقسمة على نفسها في الغرب.
الخطر من وصول أشخاص مثل ترامب لا يكمن كما يصفه البعض في أنه كاذب أو مبتذل، فمن من السياسيين الحاليين لا يتمتع بمثل هذه الصفات الرفيعة. كما أنني لطالما كنت مقتنعاً بأن إدارة بلد فيه مؤسسات قوية لا يحتاج إلى أكثر من شخص بمهارات إدارية عالية المستوى، وبهذا الخصوص فالرجل يدير امبراطورية مالية ناجحة وبالتالي بإمكانه إدارة دولة. أين تكمن المشكلة إذاً؟ المشكلة في أنّه لا يريد إدارة الدولة وإنّما يريد إعادة تشكيلها. امبراطورية ترامب الماليّة لمن يعرف تاريخها الحقيقي، بناها ترامب بطريقة مافيوزيّة وأدارها بطريقة مافيوزيّة وسيحاول إدارة الدولة وإعادة تشكيلها على هذا الأساس.
ما ذكر سابقاً هو الأخبار السيئة، أما الأخبار الجيدة؟ هي أنَّ الولايات المتحدة تمتاز بمؤسسات متينة ومعقّدة أكثر من أي ديمقراطية أخرى في العالم، وفترة ترامب الثانية لا شك في أنها ستلحق ضرراً بالمؤسسات الأمريكية، لكن من غير المرجح أن تنهيها.
تاريخياً، من الطبيعي أن تعاني الديمقراطية من صراع حاد بشأن “ماهيّة الديمقراطية”، وعندما يحدث هذا الصراع وتكون الديمقراطية في أزمة كهذه، فهذا لا يعني أن الديمقراطية ستنهار ولكنه يعني بأنّنا بحاجة إلى الواقعية السياسية أكثر من أي وقت مضى وبحاجة إلى التكاتف والتضامن في وجه أي محاولة للانقلاب عليها.
ختاماً، لم يقم دونالد ترامب بحملة انتخابية مبهرة عدا عن محاولة الاغتيال التي تعرض لها وكانت بمثابة دفعة إلى الواجهة من جديد، ولم يجمع من المال أكثر مما جمع خصومه، ولم ينفق أكثر مما أنفق خصومه، ولم يعد الناس بأي شيء استثنائي. دونالد ترامب حصل على ما يستحقه فقط وسط هذا الخواء السياسي الأمريكي الغير مسبوق.