السودان الجريح (1)
جورج الراسي
من دكتاتور إلى آخر…
على فظاعة ما جرى ويجري في غزة ولبنان، فإن مأساة السودان أفظع بكثير من حيث حجمها وضحاياها وآثارها المدمرة..
نحن أمام بلد من نحو 44 مليون نسمة، بمساحة تتجاوز مليون و886 ألف كيلومتر مربع (أي أكثر من ثلاث مرات مساحة فرنسا مثلا)، مع نحو 40 بالمئة من السكان تحت خط الفقر وفق أرقام المؤسسات الدولية. يخوض منذ أكثر من عام حربا “أخوية”، يقودها جنرالان لهما حسابات وارتباطات خارجية، وقد كلفت حتى اليوم “ارتقاء” أكثر من 150000 ألف مواطن، لا على طريق القدس هذه المرة، بل على طريق خدمة مخططات وطموحات بائسة… إضافة إلى اضطرار نحو 12 مليون مواطن على النزوح عن منازلهم، ونحو مليونين ونصف المليون على اللجوء إلى الدول المجاورة.
ولم يكتف المتحاربان بهذا البؤس، بل هما يضعان العراقيل أمام وصول العون الغذائي لنحو 25 مليون نسمة، أي نحو نصف عدد سكان البلاد، اللذين يعانون من سوء التغذية ويقفون على حافة مجاعة شاملة.
يحدث ذلك في بلد طالما وصف بأنه “سلة غذاء العرب”، وتتسابق جهات عربية وغير عربية على اقتطاع مساحات زراعية فيه لإطعام شعوبها.
وبعكس ما هو الحال في غزة ولبنان، فالصراع ليس مع عدو خارجي، بل بين أبناء البلد الواحد…
أول دكتاتور: ابراهيم عبود
يعود استقلال السودان إلى 1 – 1 – 1956 بعد أن خضع طويلا للحكم العثماني، ثم في أواسط القرن التاسع عشر إلى حكم تركي- مصري مشترك، ثم إلى حكم مصري – انكليزي.
عام 1899 واستمر هذا الوضع حتى وصول جمال عبد الناصر إلى السلطة في مصر عام 1952، وكانت له اليد الطولى في منح السودان استقلاله بعد ذلك بأربعة أعوام.
أول دكتاتور عرفه السودان كان ابراهيم عبود الذي أرسى دعائم حكم عسكري دكتاتوري ، و كان أول من زرع بذور الفساد في البلاد . فقد كان يرسل الضباط الوطنيين للقتال في الجنوب لدرء خطرهم على حكمه، ويزودهم بأسلحة فاسدة على أمل أن لا يرجع أحدٌ منهم!
وجرت في عهده انتخابات لم يتوافق عليها الجميع، وشابتها الكثير من المخالفات…
تميز حكم عبود كذلك بموجات من الغلاء الفاحش جعلت الناس تنتفض ضده. ومن اللافت حينها أن الجيش رفض التدخل لحمايته واستعمال القوة ضد القوى الشعبية، بل تشكلت “كتلة الضباط الأحرار” على غرار ما جرى في مصر، وتحالفت مع القوى الشعبية، وجرى إسقاطه في ثورة 21 أكتوبر/ نوفمبر عام 1964، بعد حكم مضطرب دام نحو 5 سنوات.
ثاني دكتاتور: جعفر نميري
بعد سنوات أخرى من الاضطراب، كان أهم حدث فيها انعقاد القمة العربية في الخرطوم، تلك التي أطلقت شعار”اللاءات الثلاث” (يا حسرة عليه)، بعد الهزيمة العربية المدوية في “حرب الأيام الستة” عام 1967، استلم مقاليد الحكم ضابط آخر هو جعفر نميري، لم يلبث أن أسس بدوره لحكم دكتاتوري.
وصل نميري إلى السلطة في 25 أيار/ مايو 1969، وكان احتدام الصراع في جنوب البلاد السبب الرئيسي وراء وصول “لدرء الأخطار التي تهدد وحدة البلاد”.
وقد حظي في بداية مساره بدعم جمال عبد الناصر، وتكاثرت الدعوات الوحدوية للتعويض عن انفراط الوحدة السورية – المصرية (1958- 1961)، وطرح حينها مشروع وحدة ثلاثية بين مصر والسودان وليبيا، حيث كان الأخ العقيد معمر القذافي قد استولى على السلطة في فاتح أيلول / سبتمبر عام 1969، فيما عرف بعد ذلك بـ”ثورة الفاتح”… كما طرحت فكرة “الوحدة المائية” بين مصر والسودان للحفاظ على مياه النيل (يا حسرة مرة أخرى…!).
لكن رحيل جمال عبد الناصر بعد ذلك بعام أعاد خلط جميع الأوراق… وقد تميز حكم النميري بحدثين أساسيين:
الأول كان الانقلاب الشيوعي الذي جرى في 28 تموز / يوليو من عام 1971، ولم يستمر إلا ثلاثة أيام وانتهى بإعدامات كثيرة، كان على رأسها قادة الحزب الشيوعي والنقابات العمالية: عبد الخالق محجوب، وهاشم العطا، والشفيع أحمد… وتجدر الإشارة إلى أن العقيد القذافي لعب دورا مهما في إحباط الانقلاب…
ومن الآثار المهمة لفشل الانقلاب وتصفية قيادة الحزب الشيوعي السوداني – الذي كان من أقوى الأحزاب الشيوعية في العالم العربي وفي افريقيا – أن ابتعد السودان عن موسكو وارتمى في الأحضان الأميركية- الإسرائيلية. فقد كانت تل أبيب غارقة حتى أذنيها في شؤون السودان الداخلية منذ زمن بعيد..
وقد أثلج هذا الحدث قلب الإدارة الأميريكية التي بدأت تخطط لإقامة قواعد عسكرية في السودان…
قد تخلل حكم نميري الكثير من القلاقل الداخلية.
ففي 20 – 9 – 1973، قطع نميري حضوره لقمة عدم الانحياز المنعقدة في الجزائر، وعاد على وجه السرعة إلى الخرطوم – دون أن تاح الفرصة للرئس بومدين لتوديعه – وذلك لأن نائبه اللواء محمد الباقر فرض حالة الطوارئ تحسبا لتحرك يقوم به توافق غريب عجيب يجمع الإخوان المسلمين والشيوعيين لقلب نظام الجكم.
وكان عمال سكك الحديد وطلاب الجامعات على رأس المنتفضين. تكرر ذلك الانفجار بعد عام في شهر تموز/ يوليو من عام 1974 منطلقا من الجامعات .
كانت المطالب أساسا إنهاء الحكم الدكتاتوري، ودعم ثوار اريتريا (قبل أن ترث إسرائيل الثورة برمتها بعد انتصارها…!).
أما الحدث الثاني الذي ميز حكم نميري فقد كان هبوط الوحي الإلهي عليه – وهو الذي لم يكن يبخل على خليلاته في لندن وباريس – فقد رأى ضرورة تطبيق أحكام الشريعة، وأعلن العمل بالتشريعات الجنائية الإسلامية التي عرفت في أدبيات السياسة السودانية بـ “قوانين سبتمبر 1983″، بما في ذلك على سكان الجنوب المسيحيين والإحيائيين، مما زاد تأجج الثورة، وأعطى إسرائيل سلاحا لم تكن تحلم به…
يا جماعة أين لا إكراه في الدين…؟ لا حياة لمن تنادي..
أضف إلى ذلك الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية عامي 1984 … وقبل سقوط حكم نميري بعام واحد في عام 1984 أعلن القطيعة مع الإخوان وحالة الطوارئ من جديد …لكن القطار كان قد فاته….
استمر حكم نميري 16 عاما، وذهبت به هو الآخر ثورة شعبية لكي تشهد البلاد بعده تجربة ديمقراطية رائدة وقصيرة….
فاصل ديموقراطي: الجنرال سوار الذهب
كما أن لكل قاعدة شواذ كذلك لكل ثورة.. بعد الانتفاضة الشعبية في 2 – 3 نيسان/ أبريل 1985 ضد الغلاء وتدهور الأوضاع، استلم المشير عبد الرحمن سوار الذهب السلطة على رأس مجلس انتقالي إلى حين قيام حكومة منتخبة …
بعد عام واحد على حكمه سلم سوار الذهب مقاليد السلطة للحكومة الجديدة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي رئيس حزب الأمة، وريث الثورة المهدية، إيفاءً بالوعد الذي قطعه بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة .
أعلن عقب ذلك اعتزاله العمل السياسي ليتفرغ للعمل الطوعي وخدمة المسلمين عبر “منظمة الدعوة الإسلامية”، وهي منظمة إقليمية كانت تتخذ من الخرطوم مقرا لها .
رحل سوار الذهب في 18 – 10 – 2018، ونقل جثمانه ليوارى الثرى في البقيع في المدينة المنورة.
هذا على الأقل مشير استحق اسم…
ثالث دكتاتور: حسن البشير …
في 30 حزيران/ يونيو 1989، استيقظ سكان الخرطوم، البالغ عددهم آنذاك خمسة ملايين نسمة، على قرقعة السلاح، واحتلال مباني الإذاعة والتلفزيون، والبلاغ رقم واحد في الانقلاب أو محاولة الانقلاب رقم 15 التي مرت على السودان منذ استقلاله عام 1956 ..
إنها “ثورة حزيران/ يونيو”.. كل المسؤولين في أجهزة الدولة “إلى مزبلة التاريخ”: مجلس السيادة الأعلى – الرئاسة الجماعية – حكومة الصادق المهدي المدنية إضافة إلى البرلمان …
الجنرال عمر حسن البشير – 44 عاما – من موايد “حوش بو ناقة” بلدة صغيرة على بعد نحو مئة كيلومتر شمال الخرطوم ، قائد الوحدات المدرعة، يعلن استيلاءه على السلطة…
تلقى تعليمه العسكري في الأكاديمية العسكرية في كل من ماليزيا والقاهرة. وهو صاحب تاريخ حافل في محاربة “الجيش الشعبي لتحرير السودان “، الذي كان يقوده جون قارنق في جنوب البلاد..
طبعا أول إجراء أقدم عليه، كان فتح أبواب السجون واسعة أمام أهم القادة السياسيين في البلاد، حل الأحزاب، ومنع صدور أية صحيفة ما عدا أسبوعية “القوات المسلحة” الناطقة بلسان الجيش، التي تحولت بين ليلة وضحاها إلى يومية …
قيادة الجيش بأكملها تمت الإطاحة بها: ثلاثون من كبار الضباط تمت إحالتهم على التقاعد، إضافة إلى عشرات الضباط من قادة الوحدات… بمن في ذلك الجنرال فتحي أحمد علي، القائد العام، ومهدي بوبو نمر رئيس الأركان..
كامل السلطة أصبحت بين أيدي “مجلس قيادة الثورة للإنقاذ الوطني”، الذي يضم 15 عضوا، ولكن البشير هو الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس الأركان …
هكذا بدأت الحكاية …
أول إجراء كان معالجة الوضع الاقتصادي المنهار: عجز هائل في الخزينة، 85 بالمئة التضخم، بطالة مستشرية …
بدأ إذا بإطلاق حملة لمحاربة الفساد، وفرض تجميد الأسعار للمواد الأساسية كالخبز والسكر، ومد يد المصالحة إلى ثوار الجنوب، لوضع حد لحرب تكلف خزينة الدولة مليون دولار يوميا. (يتبع).