الْعِرَاقُ.. حَقْلًا لِلشَّظَايَا

كاركاسون – المعطي قبال
حل كاظم جهاد بفرنسا وتحديدا بباريس عام 1976 أتيا من جنوب العراق كلاجيء سياسي. ترك خلفه صدام حسين يقطف رؤوس المعارضين إن لم يرم بهم في غياهب السجون. في باريس كانت السيادة للثقافة النقدية من بنيوية، شكلانية، وظيفية وكانت الأسماء التي تدمغ حقل الفكر والإبداع الروائي والشعري تدعى فرنسيس بونج، آلن روب غريبه، ميشال بيتور، مرغريت ديراس، فيليب سوليرس، جوليا كريستيفا، جاك دريدا، كلود ليفي ستروس، ميشال فوك، جيل دولوز وآخرين الذين كانوا من وراء تثوير الخطاب البلاغي السائد وفتحه على افاق جديدة.
التقينا أنا وكاظم في ظرفية الانفتاح هذه. وكنا الإثنين نعيش وضعا ماديا صعبا، جعلنا نتجه صوب الصحافة بحيث عمل هو في “اليوم السابع”، فيما تعاونت أنا مع جريدة “الحياة” اللندنية. ما يميز كاظم، من بين ميزات عديدة هي إرادة المعرفة دينامية الانخراط في الكتابة التي قربته من بعض الأعلام الأدبية والفكرية. وكانت علاقته بمحمود درويش وبالمجموعة الفلسطينية المنشطة لمجلة “دراسات فلسطينية” سندا معنويا لأفقه. وقتها، كانت باريس «عاصمة الصحافة العربية» وملتقى الشرق بالغرب. واستقبلت آمال وآلام الدياسبورا الوافدة من كل الأقطار العربية. وكان لإطلاق دار سندباد للنشر عام 1972 من طرف بيار بيرنار صدى قويا في الحقل الثقافي، بحيث اهتمت الدار بترجمة ونشر الأعمال الأدبية والفكرية والتاريخية. ويحتل الشعر حيزا هاما في كاتالوج الناشر. وقد أصبحت السلسة التي تعنى بدواوين الشعر مرجعا أساسيا يعرف قراء الفرنسية بالشعراء وبنتاجهم.
في هذه السلسلة أصدر كاظم جهاد مؤخرا أنطولوجية شعرية من توقيعه تحت عنوان «شظايا» تليه قصائد «هجرات» . وتتضمن هذه الأنطولوجيا أشعارا مترجمة عن العربية أو مكتوبة بالفرنسية. وقبل وفاته بأشهر أنجز البروفيسور أندريه ميكال قسما هاما من ترجمتها كما قام بتقديمها وتقديم الشاعر. يمكن أن نترجم العنوان أيضا بكلمة «تطايرات». لما يقع الانفجار وتتطاير الأشلاء.
يلج الشاعر مجال الإبداع الشعري وهو متمكن من اللغة الفرنسية التي اقتنصها بمتعة ومكنته من نقل بعض أعلامها إلى العربية من أمثال رامبو، دانتي، بودلير، غويتسولو، دريدا، ريلكه.
في تقديمه للمؤلف يشير البروفيسور أندريه ميكال إلى أن كاظم جهاد «يحتل موقعا مميزا ضمن هذه الخريطة كونه كمترجم يحمل أو ينقل اللغات بعضها إلى بعض. غير أنه سيبقى دوما وبامتياز شاعرا». لأن لغة المنفى هي الشعر، هي التعبير عن شتات وقطائع الفضاء قبل أن يستجمع الشاعر ذاته ويرتب الرؤيا على تواجده وعلاقاته في الزمان والمكان. تنقسم هذه الأنطولوجيا إلى ثلاثة أقسام رئيسية: إعادة ابتكار الريف، شظايا، هجرات. ويتضمن كل قسم عددا من القصائد متفاوتة العدد. وتتقدم القصائد على شكل لوحات فنية صقيلة ومصقولة في ترسيمها بحيث تقرب القارئ من الوضعيات والأغراض التي تعالها. في القسم الأول حضرت صورة وذكرى الأم والأب والصديق أحمد أمير. ثم هناك مديح الأشباح وبكاء الشاعر على موته. نحن إذا في أجواء مفعمة بالموت، بغياب الأقارب والأصدقاء، بالحضور الهيامي والهلالي للعراق، بانتفاض الظلال والجلود المستعارة. وحين يغادر الشاعر بلده تاركا وراءه الوجوه، الروائح، الأصوات، لا يبقى في حوزته سوى القول الشعري الذي هو المبتدأ لما يشرع في صياغة عالم جديد بالمنفى. لا يتبدد عالم العراق، بل تخف ألوانه تارة وتنمحي تارة أخرى.
يظهر كاظم جهاد براعة فائقة في توصيف الأشياء ونسج استعاراتها المركبة وذلك بلغة متقشفة وخارقة لا تترك مكانا للبلاغة والحشو. لذا فإن الشاعر تعرف به لغته. إعادة ابتكار الريف، القسم الذي يأخذ حيزا هاما في الديوان، هو بنوع ما ترميم لأركيولوجية ماضي الطفولة والمراهقة الآهل بالطير، بالحيوانات، بالأحياء والأموات. في القسم الذي يحمل عنوان « شظايا العراق » يكتب الشاعر بأحرف نارية مرثية صديقه ك…الذي هو ذاته، كا…ظم. الذي انتهى به المطاف بباريس بعد تنقله بين مدن إيطاليا وإسبانيا إلى أن انقشعت الأشياء وعاد إلى الحياة ليكتشف معنى الحرية، معنى حرية التجول، والكتابة. هكذا بدأت أزمنة جديدة وحديثة. من بين المراثي التي جاءت في الديوان، تبقى المرثية التي كتبها الشاعر في حق الفنان أحمد أمير، أحد أهم الفنانين التشكيليين العراقيين، صديق الطفولة والذي توفي ببرلين عام 1994، من بين المرثيات المؤثرة كونها تقربنا من حياة فنان لا يعرفه الكثيرون لكنه يبقى حيا في مماته وتحييه الكلمات الشعرية الأخاذة لكاظم. تشعرنا بقربنا وبقرابتنا منه ومن هلوسة اسمها العراق. مع الصوفية يتقاسم أحمد أمير التيه في الفضاءات الغريبة، في الانزياح إلى الهامش، في الصمت. ووجد في كل من الحلاج وابن عربي هداية لتيهه . تكريم آخر كتبه كاظم في حق الشاعر حيدر صالح، الذي اختفى ولم يعثر له على أثر. قلد رامبو في انسياقه الجنوني.
وهو في باريس، استسلم لعنف مرير في سلوكه وتعامله مع الآخرين. جيل من المبدعين أحرقت أجنحتهم في «جنة الغربة» بعيدا عن تربة العراق وترابه. ويشغل الأب في الديوان حيزا رمزيا هاما. في بضع كلمات يتحدث الشاعر عن اختفاء الأب. توفي في الرابعة والسبعين من عمره وبقي محافظا على استقامة قامته ومن دون ان يتراجع عن قناعاته. شجنه الوحيد كان من أجل ابنه لما غادر هذا الأخير العراق. اعرب عشرين يوما قبل وفاته عن رغبته في ان ينقل إلى بيت ابنه الأكبر. هناك وافته المنية. كما أعرب في خضم صراعه مع الموت أن يحصل على صورة هذا الابن. ولم يكف عن مساءلة الأشخاص الذين عادوا إلى البلد بعد خروجهم إلى بلدان أخرى وكانت لهم به معرفة. استغرب الفلاحون من أفراد عائلته هذا المنفى الذي هو رديف للعزلة ولانعدام العناية في حالة المرض. لكن الأب كان الوحيد الذي أدرك ما قام به ابنه. يعرض علينا قسم «هجرات» سلسلة كليشيهات بالمعنى الفوتوغرافي حيث نلج غرفا فندقية، وضعية انتحار، بيت الاب، الجنوب، جلود مستعارة. خاصية هذه النصوص هو أنها عبارة عن مقبرة بلا أسماء ولا شواهد تعرف بأصحابها من الموتى .
هذه النصوص هي أقرب إلى سرد وحكي على النمط الروائي وفي كل مرة نجدنا أمام حاكي أو سارد لا يلبث أن ينفسخ أو يصبح بديلا. إن كانت الأم حاضرة ما بين ثنايا الأسطر، فقد خصها الشاعر بقصيدة في عنوان «نسوية»، مشيرا إلى وحدتها لما تتوجه إلى حقول الثلج، لوحدها ضمنت الأكل للعائلة، أخفت باحتشام مرض الأب، غذت الأرض بدم أقدامها وكانت وحيدة في بؤس الانتصار وها هي وحيدة في عظمتها اللامحدودة. تتكرر بعض القصائد لتحمل نفس الاسم: طفولة، الأب، لكنها تختلف في مضمونها ومحتواها وكأن النسخة الثانية قد اكتملت ونضجت في لغة أكثر قوة ودلالة. في عملية الازدواجية هذه قد تستعصي ذات الشاعر على الإمساك. في خاتمة الديوان، والخاتمة هنا مسألة اعتباطية، ماذا يمكن أن يقوله الشاعر أو يتحدث عنه إن لم يكن الشعر. فهو «يفضل حياة الكلمات والصور بدل هذه الانسانية التي يراها راكدة داخل تناقضاتها المهرجة. في وحشته، وكما جاء في قصيدة «الفن الشعري»، «يجلس الشاعر إلى طاولته وبمجرد خطه لكلمة على الصفحة البيضاء، تركض في شرايينه حماسة حشد من الشعوب… يجلس وحيدا أمام القصيدة». الشعر عزلة، يتم، يبقى أفقه الغياب بل الموت. وينعت لنا كاظم جهاد في هذه الأنطولوجيا وبفرادة شعرية فائقة، الحدود المنشطرة لهذه التجارب.
_________________________________________________________________________________________________________________________________
كاظم جهاد حسن، شظايا العراق تليه هجرات أشعار ترجمها من العربية أندريه ميكال والمؤلف. دار النشر سندباد- أكت سود. 202 صفحة