تحولات التاريخ العربي بين سلطة الصعاليك وصعاليك السلطة (2-2)
حسن عثمان
إن الإشارات المتكررة إلى فروسية وبطولة العيارين والشطار بفروعهم ومسمياتهم المتعددة تحيلنا على ما يمكن وصفه ب”إعادة الاعتبار” إلى تلك الفئات وإنصافهم بعد الهجمات التحقيرية التي شنها عليهم مؤرخو السلاطين كلما رفعوا قبضاتهم في وجه السلطة والمنتفعين منها والمتحلقين حولها انتظارا لعطاياها. ويذهب دكتور النجار في هذا الاتجاه إلى التركيز على روايات الأدب الشعبي حول أشهر أبطالهم (علي الزيبق وأحمد الدنف ودليلة المحتالة)، ليستخلص منها أنهم لم يكونوا مجرد لصوص وقتلة وهمج وإنما حركة شعبية تضم في صفوفها الكثيرين من أهل الأصناف والصنايع أي الطوائف والحرف الصغيرة، وأن هدفهم الأساس كان موجها للتجار الموسرين الذين لا يخرجون الزكاة والصدقات بتواطؤ مع حماتهم من رجال السلطة دون أن تخطر ببالهم فكرة الثورة على نظام الخلافة أو ذات الخليفة باعتباره خليفة الله في الأرض. وللدلالة على تمايزهم عن سائر اللصوص التقليديين، يشير النجار إلى منظومتهم الأخلاقية، أو ما يسميه بالفلسفة التي برروا بها “صناعتهم”، ويورد في هذا السياق وصية عثمان الخياط ـ الزعيم الفكري للصوص ـ الذي قال: “ما سرقت جارا، وإن كان عدوا. ولا كريما ولا كافأت غادرا بغدره”. وزاد موصيا رجاله اللصوص الفتيان “جسروا صبيانكم على المخارجات وعلموهم الثقافة، وأحضروهم ضرب الأمراء أصحاب تصوير الجرائم لئلا يجزعوا إذا ابتلوا بذلك، وخذوهم برواية الأشعار من الفرسان، وحدثوهم بمناقب الفتيان وحال أهل السجون، وإياكم والنبيذ فإنها تورث الكظة وتحدث الثقل، ودعوا البول والنوم ولا سيما بالليل، ولا بد لصاحب هذه الصنعة من جراءة وحركة وفطنة وطمع، وينبغي أن يخالط أهل الصلاح ولا يتزيا بغير زيه “يقصد زي الشطار.
وفي الفصل المعنون بـ “فتوة الفتيان والأفول الحضاري”، يسعى دكتور النجار إلى إقامة روابط تاريخية بين الفتيان والشطار رغم اعترافه بأن مصطلح الفتوة “تطور تطورا عجيبا على اختلاف العصور بدءا بمعناها العشائري الضيق المرتكز على فضائل المروءة والشجاعة والكرم والضيافة، ونكران الذات والتضحية والإيثار، وإغاثة الملهوف وانتهاء بمعناها الديني والقومي الواسع.
وبعد عصر صدر الإسلام بفتوته الدينية من “المطوعة الفتيان المرابطين المجاهدين دفاعا عن دار الإسلام، ظهرت طبقة الفتيان في أواخر عصر بني أمية بعد أن انفصلت تدريجيا عن الفتوة الجادة لتصبح “فتوة لاهية تدين بالشطارة والعيارة ولها أتباع أكثرهم من الثائرين على المجتمع والدولة، ومن الرعاع والنهابة”، كما جاء في دائرة المعارف الإسلامية حول مادة ألف ليلة وليلة.
ويذهب النجار أبعد حين يمد أصول كل هذه الحركات ويصلها بحركة الصعاليك في المجتمع العربي الجاهلي، لما بينها من “وشائج عميقة في البواعث والدوافع والوسائل والغايات”، كما أنها “جميعا طوائف يوحد بينها أسلوب الاقتصاص من الهيئة الاجتماعية والسياسية في عصرها. ورغم تعدد طوائف الصعاليك ـ ومنهم الخلعاء والأغربة والفقراء، إلا أن الصعلكة ـ كما يصفها ـ نزعة إنسانية نبيلة، وضريبة يدفعها القوي للضعيف، والغني للفقير.
وكانت المعاجم العربية قد أجمعت على وصف الصعاليك بأنهم “ذؤبان العرب” ولصوصها، كما وصفهم صاحب أساس البلاغة بأنهم شطار العرب في الجاهلية. غير أن أهم ما يجب الانتباه إليه، في رأي دكتور النجار، هو أن صعلكة الجاهلية كما يمثلها عروة بن الورد، أشهر الصعاليك وأكثرهم حضورا في روايات وقصص الأدب الشعبي العربي القديم، كانت خيارا ومغامرة فردية لم ترتبط بوجود كيانات منظمة، على غرار ما عرفته حركات الشطار والعيارين والفتيان.
هذا السياق التاريخي المتصل لحركات التمرد العربية، يدفع دكتور النجار إلى القول بأن ظاهرة الشطارة والعيارة والزعارة والفتوة قد سايرت التاريخ العربي والحضارة العربية، بشكل يجعل من قصصهم أحد مصادر المعرفة التاريخية والاجتماعية. كما أن حركات العامة التي قادتها تلك المجموعات في بغداد ـ دمشق ـ القاهرة التي كانت تشكل في مجموعها المحور الحضاري العربي، كانت تهدف إلى تحقيق هدفين جوهريين هما: التحرر السياسي من حكم أجنبي متسلط والتحرر الاجتماعي من ظلم إقطاعي مستبد. وطوال ألف عام من عمر هذه الظاهرة، يؤكد النجار أن بعض الخلفاء والسلاطين في بغداد ودمشق والقاهرة ” استعانوا بزعماء العيارين ورؤساء الأحداث لإخماد الفتن الداخلية.. كما أن بعض القائمين على السلطة كانوا يوالسون ويتسترون ويقاسمون هذه العناصر المشبوهة نظير إطلاق يدهم والسكوت عليهم.. بل إن بعض هؤلاء القائمين على السلطة كثيرا ما كانوا يثيرون الشغب عن عمد ويبعثون بشطارهم وعياريهم فيكبسون البيوت ويقطعون الطرقات”.
وكان دكتور النجار قد أشار في معرض حديثه عن ” الفتوة الرسمية” إلى أن الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله تقرب إلى الفتيان العيارين عقب موت السلطان مسعود سنة 547 هـ ، ودعاهم للانضمام إليه، في محاولته الناجحة للاستقلال بالحكم في العراق، وجند كثيرا من الفتيان العيارين في الجيش العباسي الجديد، الذي اعتمد عليه محاربة السلاجقة.
أما الخليفة الناصر لدين الله فلم يكتف باستقطابهم لاستثمار التعاطف الشعبي مع أولائك الخارجين على القانون، وإنما نصب نفسه زعيما لنظامهم الذي عاد به إلى أصوله الأولى أي (فتوة السلف الصالح) على قول ابن المعمار. هذه الفقرات الأخيرة تحملنا على التساؤل عما إذا كنا نعيش استنساخا حرفيا لتاريخنا العربي ونحن نستحضر وقائع “موقعة الجمل” في مصر، ومشاهد الشبيحة السوريين الذين يسدون منافذ المدن والقرى برصاصهم المحتمي بالدبابات والمدرعات. ففي الحالتين وغيرهما، تنتزعنا تلك المشاهد من ربيع 2011 لتعيدنا إلى بغداد القرن السادس الهجري. ولعل الفارق الوحيد أن أيا من الأنظمة العربية المنهارة أو الآيلة للسقوط لا تملك شجاعة الخليفة الناصر لدين الله الذي نصب نفسه الخليفية زعيما للعيارين والشطار، رغم أن نظام مبارك، على سبيل المثال، كان يعرفهم بأسمائهم وألقابهم وعناوينهم وهواتفهم المحمولة.
ومثلما كانت دراسة الدكتور محمد رجب النجار رائدة في التأريخ لتلك الحركات الممتدة عبر تاريخنا العربي، سيصبح لزاما على مؤرخي ثورات الربيع العربي كشف المستور عن الارتباطات والوشائج السرية والغباء المفرط، الذي خيل لبعض الأنظمة العربية أن مجاميع البلطجية والشبيحة، من أحفاد الشطار والعيارين والصعاليك والزعار، يمكن أن تغير مجرى حركة تاريخ تكتبه الأمم والشعوب بدمائها.
وإذا كان دكتور النجار لا يجد حرجا في تبنيه لقراءة حداثية بحمولة تقدمية باذخة ، فان انحيازه إلى تلك الطوائف العديدة، وسعيه إلى تبرئتهم من الأوصاف القدحية التي رماهم بها مؤرخو وكتاب السلاطين لا ينتقصان من قيمة كتابه الذي يظل ، في كل الأحوال ، جديرا بالقراءة. (انتهى)