تحولات التاريخ العربي بين سلطة الصعاليك وصعاليك السلطة (1-2)
حسن عثمان
في كل الساحات التي شهدت فصولا دامية من ثورات الربيع العربي، كانوا هناك، في ميدان التحرير بالقاهرة، وفي ساحات التحرير بالمدن اليمنية، وفي شوارع المدن السورية النازفة كانت مسمياتهم تختلف وتتنوع ويبقى جوهرهم واحدا فردا.
هم “البلطجية” في مصر، و”الشبيحة” في سوريا ، و”البلاطجة” حسب التحريف وجمع التكسيراليمني. ولأن “ثورة الياسمين” لم تعمر طويلا قبل هروب زين العابدين بن علي وبطانته، لم تحتفظ الذاكرة إلا بحضورهم العابر في مسار الثورة التونسية. أما في ليبيا، فقد شكلوا العمود الفقري للكتائب العسكرية الخاصة لآل القذافي.
وإذا كانت الأحداث الدامية، التي عرفتها وتعرفها ثورات الربيع العربي، نتاجا لمواجهات بين المتظاهرين المحتجين والدروع الواقية للأنظمة، بوجود متفرجين ينتظرون أن تضع الحرب أوزارها قبل إعلان انتماءاتهم ومواقفهم، فإن الحوليات التي ستسرد وقائع تلك المواجهات لن تتمكن من إغفال الدور الذي قامت به مجاميع البلطجية والشبيحة في وقائع ومسارات الثورات العربية.
وقبل أن نتساءل عن ماهيتهم وهويتهم وتنازعهم بين المعية والضدية [مع الأنظمة/ضد الجماهير أو العكس]، ربما يجدر بنا أن نستقصي بعض الأخبار مما ورد في تاريخنا العربي الإسلامي عن أسلافهم من “الصعاليك والشطار والعيار والفتيان والذعار والدعار والحرافيش والعياق”، وأصحاب المهن المحقرة وأشباههم من المعدمين والفقراء والجياع والعاطلين عن العمل، الذين طحنهم الفقر وأعجزتهم البطالة، بسبب سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن مصالح العباد، وانهماكهم في الملذات – على حد تعبير المقريزي – فضاقوا ذرعا بغياب القانون وغيبوبة السلطان وغباوة العسكر وأهل الدولة”، كما يشير إلى ذلك د. محمد رجب النجار في كتابه “حكايات الشطار والعيارون في التراث العربي” من منشورات ” عالم المعرفة، سبتمبر 1981.
ولمعرفة هوية هذه النماذج التي أثرت الأدب العربي بكثير من قصص اللصوصية والخروج على القانون وطاعة أولياء الأمر، تفيدنا المعاجم والقواميس العربية بتعريفهم على نحو دقيق وبالغ الدلالة.
فالشاطر لغويا هو: من أعيا أهله خبثا، ويقال شطر على أهله، بمعنى نزح عنهم، وترك موافقتهم وأعياهم خبثا ولؤما. والشطارة: الانفصال والابتعاد. والشاطر هو الذي عصا أباه أو ولي أمره وعاش في الخلاعة. وشطر فلان شطارة: اتصف بالدهاء والخيانة: المفرد شاطر والجمع شطار.
والعيار، لغويا: الكثير التجول والتطواف، الذي يتردد بلا عمل، يخلي نفسه وهواها. والمعار، بالكسر، الفرس الذي يحيد عن الطريق براكبه. والعيار، الكثير الذهاب والمجئ، وهو الذكي كثير التطواف.
ويقال: زعر ريشه، أو شعره، أي قل وتفرق فانكشف الجلد وبان. وزعر الرجل: قل خيره. أما الأزعر، وجمعه زعر وزعران، فهو اللص الخاطف المارد. والزعارة: شراسة الخلق، ورجل زعرور يعني: سيئ الخلق.
والرجل العائق، هو المانع الذي يعوق الطريق ويقطعه على الناس. أما الحرافيش فمفردها حرفوش، وهو ذميم الخلق والخلق وهو المقاتل والمصارع واللص.
وعلى اختلاف هذه المسميات والتوصيفات يرى دكتور النجار أن ما يوحد بين هذه الفئات هو انتماؤها إلى دائرة اجتماعية هامشية منبوذة طبقيا واجتماعيا من الفئات الاجتماعية الأعلى، كما أنها تلتقي في قيامها بأعمال “بطولة خارج القانون”، لوجودها في حالة صراع ضد المجتمع والسلطة المؤطرة والمنتجة لأوضاع فاسدة ومحمية بقوة القانون.
واستطرادا، يذهب دكتور النجار إلى القول بأن “موقف أصحاب هذه الطوائف المتمردة من أحداث عصرها ومن الهيئتين الاجتماعية والسياسية موقف رافض متمرد. وطبيعي أن يكون لهذا التمرد دلالاته الاجتماعية والثقافية، مثلما كانت له مبرراته ودوافعه وبواعثه السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا سيما في عصور التمزق السياسي أو التحول التاريخي أو الاضمحلال الحضاري”.
ولأن لكل ظاهرة بوادر تاريخية سابقة ، يرى النجار أن تلك الفئات بدأت بالظهور منذ عهد الخليفة العباسي الثالث (158-169 هـ) اعتمادا على ما أورده “البلاذري” بقولـه: “فلما كثر الصعاليك والزعار العيارون وانتشروا بالجبل في خلافة المهدي، جعلوا هذه الناحية ملجأ لهم فكانوا يقطعون الطريق ويأوون إليها فلا يطلبون”. ويعني ذلك أنهم لم يشكلوا حتى عهد أمير المؤمنين الرشيد خطرا يتهدد سلطة الدولة أو مركز الخلافة.
ويشير النجار إلى أن ما تم العثور عليه من أخبارهم في المصادر التاريخية إنما كتب بلغة “متعالية” من طرف المؤرخين الموالين للسلطة الذين لم يترددوا في وصفهم بـ(الغوغاء من السفلة والأوباش والحثالة العامية). ورغم أن بعض الكتابات المتأخرة عند الجاحظ والتوحيدي، على سبيل المثال، أفسحت حيزا أوسع لأخبار الشطار والعيارين والزعار بعد أن أصبحت قصصهم ونوادرهم جزءا من الذاكرة والخيال الشعبيين، إلا أن دكتور النجار يرى ضرورة إعادة النظر في تاريخ ثورات العامة وانتفاضاتها وحركاتها الشعبيـة “لأنهم ليسوا لصوصا بالمعنى التقليدي الشرير وإنما هم متمردون أصحاب” سدت في وجوههم السبل الشرعية أو المشروعة، فلم يجدوا إلا اللصوصية والشطارة والعيارة وقطع الطريق سبيلا للتعبير عن أنفسهم وقضيتهم”.
ويخلص النجار، عبر قراءته الحداثية لتاريخ تلك الفئات، إلى القول بأن تلك الطوائف من “المتلصصة “ـ حسب توصيف الرواة والمؤرخين المنحازين إلى السلطة ـ “لم تكن وجها ايجابيا من وجوه المعارضة الشعبية العربية ضد قوى الظلم الاجتماعي والبطش العسكري والتناقض الاقتصادي الرهيب فحسب، بل كانت كذلك باعتراف المؤرخين أنفسهم، مهما تحاملوا عليهم، هي نفس الطوائف الشعبية التي تزعمت حركات المقاومة الشعبية في بغداد ـ دمشق ـ القاهرة، المحور الحضاري آنذاك ضد الغزاة والمحتلين والدخلاء والسيطرة الأجنبية، حين كان النظام الرسمي ينهار مع مجيء الغزاة أو المحتلين أو الدخلاء، والقائمون على الدولة والجيش يستسلمون عادة، والطبقات العليا تهادن خوفا على مصالحها وممتلكاتها دائما بإعلان ولائها للسيد الجديد ، ولا يبقى في ساحة المقاومة الشعبية إلا هذه الطوائف التي تصدر في دفاعها القومي عن نزعة وطنية أصيلة، يستوي في ذلك شطار العراق وعياروها وأحداث الشام وفتيانها وزعار مصر وحرافيشها”.
واستنادا إلى مقارنة كتابات المؤرخين ورواة الأدب الشعبي، يشير دكتور النجار إلى أن هذه الظاهرة عرفت مدها الأقصى منذ أن ضعف أمر الخلافة العباسية في أواخر القرن الثالث الهجري عندما وصل عدد العيارين في الانتفاضة الواحدة أيام الفتنة بين الأمين والمأمون “مائة ألف عيار” بينما كان أكبر رقم تقوده “دليلة المحتالة” لا يتجاوز 24 ألف عيار. ورغم أن النجار لا يميل إلى التشكيك في الرقم الأول، إلا أنه لا يملك إلا أن يتساءل عما إذا كانوا لصوصا بالمعنى التقليدي للكلمة. ففي اعتقاده أنه يعقل أيضا أن يكون أولئك العامة الذين توسلوا بالتلصص والتشطر والتفتي والعيارة والزعارة متمردين اتخذوا من الأساليب غير القانونية مظهرا اجتماعيا من مظاهر الصراع التاريخي عند الشعوب بوجوهه الاقتصادية والسياسية والطبقية. ويبدو واضحا في هذا السياق مدى تأثر دكتور النجار بمقاربة لوي ماسينيون الذي وصف بطولات الشطار والعيارين ، في التاريخ العربي ، بكونها [بطولة خارج القانون] ووصف فروسية أصحابها بالفروسية المتمردة. (يتبع)