أنا واليتم والأم الثورية

أنا واليتم والأم الثورية

اسماعيل الأمين

عايشت اليتم في خمسة أجيال من عائلتي الصغيرة.. مسلسل اليتم في عائلتي يمتد منذ أوائل القرن الماضي حتى أوائل العام الذي نحن فيه.. ومع قسوة اليتم وشدته يظل الأشد وطأة منه اللغط الذي يدور حوله.. أمي..

 توفي جدي لأمي وزوجته، التي هي جدتي، الأذرية (أذربيجان الغربية*) الفائقة الجمال في التاسعة عشرة من عمرها. وكان جدي المتوفي وأخته جدتي لأبي، قد ورثا عن جدتهما الحاجة مشعل نحو ثلاثة آلاف دونم أرض. جمال جدتي  وثروتها أسالا لعاب بعض دهاقنة العائلة على غرار ما كان يحدث في عالمنا الإسلامي. لكن دهاقنة آخرين لم يرضوا  بأطماع أي من الزيجات المرجوة، وللحفاظ على ثروة الأيتام قرروا إعادتها، كي لا نقول طردها، إلى أهلها في النجف الأشرف.. 

تركت أيتامها  الثلاثة (خالي في السادسة وأمي في الرابعة وخالتي في الثانية)، وحملت رضيعها المحموم ورحلت. وما أن وصلت الى مدينة – أو قرية النبطية في حينها – حتى اشتدت الحمى على الرضيع ومات.. وتم دفنه حيث مات مخافة إعادتها إلى قرية زوجها “شقرا”، وتأجيل عملية طرد الأرملة الثكلى من غربتها. عاشت أمي حالة يتم مزدوجة، وأشرفت على تربيتها مع أخيها وأختها عمتها التي لم تتزوج، ولم ترث شيئا من ثروة والديها الهائلة، وانتهت حياتها في مأوى للعجزة. 

الثروة الهائلة  التي وصلني منها مؤخرا، وبعد دحر العدو من الشريط الحدودي، ورغم التعداد الهائل للأبناء والأحفاد، نحو ثمانين دونما.. صاحبة هذه الثروة، التي كابدت اليتم مع أخيها باكرا، لم تتزوج. 

جدتي الأذرية تنتمي إلى المنطقة الشهيرة في العالم التي يبلغ فيها معدل الأعمار بضع سنوات بعد المئة.. و منها اشتهر في ستينيات القرن الماضي المعمر السوفياتي آنذاك مسلموف، الذي قيل في وقتها إنه عاش 163 عاما. وجدتي عاشت بعد المئة بضع سنوات. 

ومع انتصار الثورة الإيرانية زار شقيقي إيران وسأل عنها، وتبين أنها ما زالت على قيد الحياة، لكنه لم يتمكن من زيارتها بسبب كثافة برنامج زيارته لطهران. والسؤال عنها  في إيران كان سهلا، لأن ابن أختها آية الله روحاني يعيش في قم حاليا، وقد زاره بعض علماء آل الأمين رغم معارضته لأئمة الثورة. وابن أختها الثاني كان يعيش في باريس معارضاً لقادة الثورة.

 جدتي هذه كانت تزور أطفالها في لبنان. وقد عرفناها سيدة أرستقراطية تدخن نوعا غريبا من السجائر القصيرة، وتحتسي الشاي بأكواب صغيرة جدا. وتحمل الأكواب والسجائر معها من النجف الأشرف. وسمعنا منها عدة مرات قصة زواجها من جدنا و ترملها ورحيلها من شقرا إلى النجف..

 ويبدو أنها لم تكن تُكِن الكثير من الاحترام  للعرب وتقول لنساء العائلة اللواتي يزرنها عندما تأتي إلى لبنان: “بخرو برو”. يعني كلوا وغادروا.. وخلال الحرب العراقية الإيرانية قرر النظام العراقي طرد جميع العراقيين من أصول إيرانية، وكانت جدتي من بينهم، وهي في السادسة والثمانين، وتم رميها مع مواطنيها على بعد مسافة طويلة عن الحدود الإيرانية، قطعوها سيرا على الأقدام. وفي عودة إلى اليتم، فقد سمعت من أمي ومن جدتي أساطير حول اليتم والترمل، ومضاعفة شدتهما بفرقة قسرية بين الأم والأبناء. اليتم الذي كابده فيما بعد والدي بأبناء إخوته الثلاثة وأنا واخوتي وأبناء إخوتي.  

***

 يؤكد أحد قضاة العائلة، وهو من سلالة علماء وفقهاء، أنها من أرمينيا وليس من أذربيجان. لكننا لم نسمع منها ما يشير غلى ذلك.. في هذا الواحد والعشرين من آذار – مارس: أمي.. وفيما درجت عليه المسلسلات التلفزيونية: فيما سبق قلت: 1- في السياسة.. – كانت تعارض الإمام الخميني لأنه رجل دين و يتدخل في السياسة.. بالمناسبة والدها رجل دين. 

– كانت تؤيد ميشيل عون أيام الحكومة العسكرية، لأنه يتمتع بما يلزم الزعيم من الجرأة. 

– كانت تؤيد الفدائيين الفلسطينيين وتحثني على الاتصال بهم. 

– كانت تؤيد الشيوعيين رغم أن اثنين من أبنائها كانا بعثيين، بخلاف ابنها البكر الذي كان شيوعيا وانتهى مؤيدا لحزب الله. 

– كانت تستمع إلى أكثر من عشرين نشرة أخبار في اليوم وتتابع احداث العالم من إذاعة لندن.

 2- في الاجتماع.. – كانت تشعل السيجارة الأولى، بعد صلاة الفجر ومع استكانة الشاي الأولى، من الولاعة، وتشعل البقية من بعضها البعض حتى آخر سيجارة قبل منتصف الليل.. 

– كان لديها اثنان من الأباريق. واحد للصديقات الخلص والسيدات المحترمات وموجود على رف في المطبخ والآخر للأخريات وموجود بين يديها في غرفة جلوسها و منامها.

 – كان لديها صندوقان من الشوكلاطة.. واحد لذيذ من نوع “بافكا”، وآخر طعمه سكري وحسب. الأول لزوار الإبريق الأول، والثاني لزوار الإبريق الثاني. وكنت أسرق حاجتي من الصندوق الأول.  

هجرت قرية شقرا لأنها لم تحتمل الحياة  تحت الاحتلال وتعسف العملاء، وعاشت وحدها في منزل ولدها الذي هجر إلى باريس. زارها أحد الأصدقاء واشترى لها تموينا من الفواكه والخضار. ولما أصرت على دفع ثمنها أبلغها عن أسعار تساوي ربما 1% من السعر الحقيقي.

 صادف أنني عدت من باريس لزيارتها بعد بضعة أيام، واشتريت لها تمويلا مشابها.. وحين سألتني عن الأسعار أخبرتها بسعرها الحقيقي فسخرت مني قائلة إنني لا أجيد التسوق مثل فلان الذي اشترى بأسعار أرخص من هذا بكثير. أضافت إنني لا أعلم أن أيام مشيل عون غير الأيام التي سبقته.. 

كانت محظوظة بالأصدقاء، فقد زارتها صديقة ورنت جرس الباب عدة مرات، ولم تفتح لها.. سألت الجيران فقيل لها إنها عجوز وتستغرق وقتا لتصل من غرفتها إلى الباب. عندئذ ركبت الصديقة جهازا كهربائيا يمكنها من فتح الباب بكبسة زر وضع إلى جانبها.. مع ذلك لم تستخدم ذلك الجهاز لأنها كانت تريد معرفة الشخص قبل أن تفتح.. 

– في مشاهدة التلفزيون، كانت تفضل الأفلام الأميركية. رغم أنها كانت أمية لا تستطيع قراءة الترجمة. بالمناسبة لم يدخل ولد من أولادها المدرسة إلا وطلبت منه أن يعلمها القراءة والكتابة، إلا أن أحدا منهم لم يستجب لطلبها بصورة جدية.. إذن تشاهد الفيلم الأميريكي ولا تقرأ الترجمة، إنما تركب فيلما آخر وفق تصوراتها للمشاهد.. إذا قبَّل أحد امرأة فهو زوجها، وإذا قبلها آخر فهو والدها، أما الثالث فهو أخيها. وإذا قبلها الرابع فهي شرموطة. وتبني الفيلم على هذا الأساس. أحيانا كان الفيلم الذي تتخيله أفضل بكثير من الفيلم الحقيقي. 

وحين كنت أجيء بيروت كنت أصرف معظم أوقاتي معها. فهي  تحدث في كل شيء. وتحفظ فتاوي في معظم مناحي الحياة،وتبادرك إلى القول: أنا سألت السِيد السِد محسن (تقصد جارها في القرية، المرجع الشيعي الشهير العلامة السيد محسن الأمين) وقال كذا وكذا. أنت لا تملك إزاء هذه الحجة سوى الصمت ومحاولة الدخول من باب آخر. 

باختصار، كانت مسامراتها ممتعة جدا، وكان الكثير من رجال العائلة يواظبون على زيارتها.. إحدى زياراتي إلى بيروت كانت في عطلة الميلاد ورأس السنة.. وسهرنا هي وأنا ليلة رأس السنة سوية.. اشترينا لكل منا ورقة يانصيب رأس السنة، وكانت جائزتها كبيرة ويجري سحبها بعد منتصف الليل. 

سهرنا تلك الليلة حتى طلوع الشمس، وقد فاتتها صلاة الفجر. حتى الصباح أنا أحتسي البيرة وهي تحتسي الزهورات، تحدثنا في كل شيء وروت معظم مراحل حياتها بتفاصيل كثيرة. وسألتها بشيء من الخبث إذا ما كان فعلا أحد أقاربها قد أحبها وأنه أمضى حياته دون زواج بعدما زُوِّجت إلى ابن عمتها، على عادة تلك الأيام وحفاظا على الثروة. وردّت على خبث السؤال بابتسامة ساخرة، أصابتني بتعرق شديد، رغم أني كنت متأكدا من صحة الأمر، بعدما روته لي امرأة رافقتها في الأعمال المنزلية منذ زواجها المبكر طبعا. ف

ي تلك السهرة العرمرمية سألتني عن صديقاتي واحدة واحدة. “لانة والله طيوبي ليش ما تزوجتها. وفلانة زارتني وأخبرتني أنها تزوجت، لكنني شعرت أنها غير مرتاحة مع زوجها..”… الخ الخ..

 كانت تتعامل مع صديقاتي بحب ولهفة واهتمام.. مرة رحت إلى شقرا مع صديقة لي بسيارة صديق من القرية المجاورة. أمضينا السهرة مع الصديق الذي استبقيناه على العشاء. في نهاية السهرة وقف الصديق وقال لصديقتي: يللا نمشي. إلى أين ؟؟ اإى منزلنا حيث تنامين مع شقيقاتي.. يا ريت.. بس أمه لن تقبل.. سمعت أمي الحوار فصرخت من غرفتها: 

– لا.. لا.. فلانة تنام هنا في قلبي. 

رضخ الصديق وغادر مطمئنا لسلامة الموقف. مرة سهرنا ليلة رأس السنة في منزلها في شقرا، وكنا صبيان وبنات.. في اليوم التالي قالت: لماذا يقولون عنكم إنكم زعران؟؟ أنا واجهت عليكم من ثقب المفتاح وكنتم بمنتهى الأدب، باستثاء واحد كان ممددا وراسه على ركبة إحداهن. ربما هي أخته. لما تأخرت كثيرا في الزواج، كانت صديقاتها يسألن متى سيتزوج. وكانت تجيب: – لماذا يتزوج؟؟ ها هو يتزوج كل يوم واحدة وكل واحدة ” أحسن من التانية”. 

أما إذا كانت السائلة ممن لديهن فتيات في عمر الزواج فتكون الإجابة بشيء من الخبث..

– حتى نجد له العروس المناسبة.. 

والحديث في هذا المجال لا ينتهي، لأن عزوبيتي امتدت حتى الثالثة والأربعين.. وكانت في تلك الفترة تسير متكئة على كرسي تدفعه أمامها. ولا تتحرك إلا إلى المطبخ أو الحمام.. بقيت معها نحو أسبوعين. وكنت أطبخ لها يوميا وأعزم صديقاتها على الغداء، وأمضي معظم النهار والمساء معها. حتى لاحظت يوما أنها قامت إلى الحمام وراحت ” تكرج كرج الحجل دون الكرسي”، سررت كثيرا وقررت أن أعرض عليها السفر معي إلى لندن. ولكن في اليوم الثاني جاءنا أحد أقربائنا فجرا ليبلغنا أن ولدها توفي في ليبيا.. ذهبت معنا إلى القرية حيث جرت مراسم الدفن وذكرى الأسبوع وأعدناها إلى بيروت.

 وجاء أحد الجيران بكرسي لتجلس إليه في المصعد كالعادة ويسحبها بالمنيفيل Manevelle، لأن الكهرباء كانت مقطوعة.. لكنها أزاحت الكرسي من أمامها وصعدت الدرج إلى الطابق الرابع. دخلت غرفتها وجلست على فراشها ولم تقم بعدها أبدا حتى رحيلها بعد أكثر من عقد من الزمن.. يجب التوقف هنا لأن سيرتها لا تنتهي..

Visited 8 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة