بمناسبة اليوم العالمي للشعر.. دفاعاً عن الشعر
ترجمة: صلاح محمد خير
تعبان لو ليونغ
السادة أعضاء مؤسسة الشعر الدولية، الزملاء الشعراء، أيها السيدات والسادة: لأنني نشأت أصلعاً، سأخاطبكم جميعاً وإكليل من الغار يتوج رأسي؛ ابتسمت (سليو) ربَّة التاريخ، في وجهي، وما زالت مبتسمة. وكلَّي أمل ألا تحرمني (سليو) من نعمها لحين الانتهاء من إلقاء هذه المحاضرة العاشرة المكرسة للدفاع عن الشعر. لذا، فأنا ممتن لــ (سليو)، واعدُ بذبحِ كبشٍ مُسمَّنٍ على شرفها فور الانتهاء من هذه المُهمَّة.
ابتهل إليك يا (سليو)، وأرجوك أن تُبقي مركبك المقدس بحوزتي لحين الفراغ من إلقاء هذه المحاضرة. وأنتن يا عرائس الشعر، وراعياته: اجعلن من روتردام، هذه المدينة الشاعرية، مكاناً للسُكنى طيلة أيام هذا الاحتفال. كلنا يقين يا (سليو) أن اختك (كاليوبي)، ربَّة الشِعر الملحمي تُرفَّرفُ بأجنحتها حولنا، ومستعدة لأن تهبنا أجنحة نحلق بها إلى فضاءات ملحمية. نتضرع لأختك (إراتو)، التي ما انفكَّت تُلازم كتاب الشعر الغنائي وشعر الغزل، ألا تهجرنا.
نحن نحتاج للحب أكثر من أي وقت مضى. علينا أن نفسح مجالاً للقصائد الغنائية، وإلا استحالت آذاننا حجارة صماء. على (يوتيربي) أن تضخ دماء الموسيقا في شرايين الشعر؛ موسيقا نعزف ألحانها هنا حتى يُجبر الأمريكيون المتوحشون اللذين يتبعون فرنسيين متشاعرين، على ألا يشوهوا الشعر الذي نكتبه حول المنحوتات الخشبية الإفريقية. كان يمكن لإمبراطورتيكم الأمريكية أن تكون أفضل حالاً لولا “التخريب الشعري” الذي مارسه (عزرا باوند). اختك (تيربسخوري) ربَّة الرقص الكورالي والغناء، ما زالت تمسك بقيثارتها، لا سيما في مناخات الأناشيد الرعوية، التي نعيشها في أيام هذا المهرجان. (بولهيمنيا)، ربَّة الإنشاد، يُعكَّر صفوها حرجٌ، إذ أن معنى «”لمقدس” قد ضاع، أو في طريقه إلى الضياع. كيف يمكن للشعر الذي يمجد فضائل الطبيعة المقدسة للآلهة والبشر أن يُكَّتب في غياب فكرة المقدس والقداسة؟ (ميلبومينين)، ربَّة التراجيديا، هي الأُخرى يُعكَّر صفوها حرجٌ، ففي غيابِ تعريفٍ؛ تعريفٌ متفقٌ عليه للمقدس وللمأثرة المُمجدة، سواء اُنجز أم لم يُنجز، اُستفيد منه لم يُستفد، تحت وطأة ظروف معينة، كيف يمكن لنا أن نحوز على تعريفٍ للتراجيديا، مع أن التراجيدي يُمكن أن يُعرف في إطار معناه الديني الحقيقي. في غياب معايير كونية واتفاق حول ما الخير، وما الشر، وما المقدس، وما الشيطاني، يمكنكم أن تحصلوا على ترهات موظفين وأفكار سافكي دماء تُحدَّد السُبل “الصحيحة” و”الخاطئة” لإنجاز مأثرة من المآثر.
لم يُعد في العالم ما هو صحيح أو خاطئ، ولا توجد مأثرة طبيعية. أناسٌ مخادعون هم الذين مزقوا جسد (يوليوس قيصر) بوجه حق، أو دون وجه حق، حسب ما أوردته كُتيبات كُتبت أو لم تُكتب. هذا شيء يحط من قدر المناهج العلمية. ربما كانت مأساة زماننا تكمن في غياب تعريف متفق عليه للتراجيديا. يخيل لي أن معنى “التراجيدي الشعري” أكثر أهمية الآن من معنى “المقدس الديني”، فحياة (أوديب) تقدم موعظة، بينما تدعو حياة (أيوب) إلى التمرد. بالنسبة إلى (تاليا)، ربَّة الكوميديا والشعر الرعوي، فنحن الآن في مدينة ابنها الأعظم (إيراسموس)، الذي نظر إلى الحياة بوصفها سلسلة من الحماقات، وعمل على تمجيد مناقب الحماقة.
لا يوجد شيء أكثر إثارة للضحك من أبٍ في الكنيسةِ يؤلف مجلداً يخبر فيه أبناء بلده، والعالم، ألا يأخذوا الحياة مأخذ الجَّد، لأن كل شيء في الحياة حماقة وهزل. هذا هو الموقف الأكثر تفضيلاً لوعي (دانتي اليغري) الذاتي، ولوعي عمله الناقص: (الكوميديا الإلهية)، المليء بالحقد والنكد.
إذا كان حب المرء للخالق يخول له أن يحشر أعداؤه في المطهر، ويذهب بعد ذلك للشماتة بهم، وهم يعانون، فإن معنى الكوميديا في هذه الحالة سيأخذ في الاتساع. لكن بالتأكيد، إذا لم يُحدد معنى التراجيدي، سيجد المرء نفسه يسبح في بحر من الشك الأخلاقي. لذا، ربما ينبغي أن تكون هناك ربَّة مؤقتة تنهض بمهام “التراجيكوميدي”. لهذا السبب حينما يجاهد أحدنا للوصول إلى التراجيدي ليشكل مأساته الشخصية، ويتم تلقي جهوده وتفسيرها على أنها “كوميديا”، سيولد كائن بهيمي جديد يطلق عليه “التراجيكوميدي”! هذا إذا كان الكائن محظوظاً. ربما حفزتنا (أورانيو)، ربَّة الفلك على فهم طبيعة خلق العالم، وبروز العناصر إلى الوجود، متمثلة في الهواء والماء، والضوء، والأرض، والسماء، والنجوم، والقمر والشمس؛ لتُشكَّل جميعاً الفصول، وباختصار أصل الكون الذي لا تحده حدود، والبيئة والمكانة التافهة للإنسان فيها؛ الإنسان الذي رفع رأسه إلى ذرى مكَّنته من المفاخرة بمنتجاته العقلية.
الملوحة التي في دم الإنسان مأخوذة من البحر. للإنسان سرة، لكن القابلات لم يخبرنه عن سر تعالقها مع الكون.
تمكَّن الإنسان الآن من كشف القناع عن الآلهة، ووجدها أداة مستحدثة توازي الرجال العقلاء، الذين هم مخلوقات ابتدعها شعراء الماضي. انتبه الإنسان إلى أن الذاكرة المشوشة، والأفكار الراسخة تشكل خطراً حتى على نفسها. لذا، وكما يقولون: “خُلِق المقدس، وهو يحوي آلهة تتخذ مكانها في المركز؛ لكي تحافظ على الإنسان عاقلاً ومتخذاً لمكان خاص به”.
إن الابتعاد عن هذا التصور يؤسس للتراجيدي. عشاق الشعر الأعزاء: إن اليونانيين القدماء، في المرحلة العقلية من استقصائهم للكون، وصلوا إلى ذرى فلكية. كانوا يدركون أن عقل الإنسان هو سبب خرابه الأساسي.
لذا، من الأفضل أن يتم إخبار الإنسان، وبترتيب مسبق، أنه بمفرده لا يستطيع أن يُنجز الكثير. هناك في الهواء، وفي قمم الجبال، وفي أعماق المحيطات، وإلى آخره من الأمكنة القصية والشاهقة والعميقة تعيش قوى خارقة تتفضل بتقديم العون لمن يملكون قدرة إبداعية، ولمن تحبهم لينجزوا وليبرزوا أسمائهم تحت حمايتها التي تمنحهم منتجات استثنائية.
في قسم الكتابة الإبداعية، حيث أقوم بالتدريس، ضمَّنت مسبقاً، الربَّات التسع، أو عرائس الشعر التسع اللائي يرأسن تسعة مواقع معلومة من مواقع الإبداع، في المقرر الدراسي. أولئك الربَّات التسع حينما لا يتم استدعاءهن إلى مهام عاجلة مثل هذه الاحتفالية التي نحن بصددها الآن في روتردام، فإنهن يتخذن من جبل (بارناسوس) مكاناً للسُكنى، يتقاسمنه مع (أبوللو) كبير الآلهة وراعي الإبداع والنبوءة. إذا رضى عنك (أبوللو) فإنه يجعل من نبوءاتك شيئاً قابلاً للتصديق مثلما فعل مع (تريسياس)، امَّا إذا لم يرضى عنك، فإنك ستكشف عن نبوءة قلبك ولن تجد أحداً يصدقك مثل (كاسندرا). (أبوللو) هو أيضاً الراعي الذي يتبرع بهباته الإبداعية للموسيقا والشعر والشمس (بصفتها جزء من الكون)، والعقاقير الطبية. إن الإله الذي يُلهم الإبداع يُستحسن أيضاً أن يأتي بالعقاقير الطبية ليرعى ويعالج ضحايا الأمراض الناتجة عن الإبداع.
أعتقد أيضاً أن شعراء الأساطير الإغريقية يؤمنون بأن الإبداع الخيالي يجب أن يُترك إلى (أبوللو) وحده، أو إلى عرائس الشعر وحدَّهن. إضافة إلى ذلك، فإن الشمس والنبوءة يعتريهما ذبول بحيث يٌتركان إلى تصاريف الإنسان وحده. انظر إلى ما حل بــ (كاسندرا) المسكينة! كانت هناك أيضاً حلبات، ولا أدري أية حلبات كانت أكثر وحشية: الحلبات التي يواجه فيها مجالدون أسوداً تتضور جوعاً، أم تلك التي يواجه فيها المجالدون بعضهم البعض. اعتقد أن المجالدين الأكثر تدميراً هم الكائنات البشرية التي تُصارع عقلياً في حلبات، أو ساحات جمباز، قبل أن تذهب إلى ساحة الإبداع. إذا كنت تعتقد أن الإنسان، الذي يحمل كلمات، أقل فتكاً من الملاكمين؛ عليك أن تتأمل في حيوات هؤلاء الجنرالات الرومان: (بومبي)، و(قيصر)، و(بروتوس)، و(كاسيوس)، و(أنطونيو)؛ بل وحتى (كليوباترا)! إذا كنت تعتقد بأن هؤلاء الجنرالات يحملون جينات شعرية، فإنك ربما تنسب تصوراتهم إلى ربات الشعر التراجيدي. لكن طالما أنهم شخوص تاريخية فإنني سأقدم دعوى ضدهم أمام محكمة (سليو)، الربَّة التي تضخ في قلب الجنرال دماً رائعاً، حينما ينتهز الجنرال الفرصة، ويقرر، وينجز المأثرة التاريخية. بالنسبة لحصان (سليو) وإذا ما كان سيُعرقل أم لا، فإنني أترك القرار لأولئك الذين عانوا تحت وطأة المآثر التاريخية. البطل التاريخي يمتطي صهوة حصان مُطَّهم ليتفحص المقهورين. في نظر الضحايا يجب أن يُرسل مثل هذا “البطل” إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. الآن وصلنا إلى اللحظة التي أدركنا فيها مع اليونانيين أو عبرهم أن القوى التي نتمتع بها ليست مِلك لنا. ما الذي بإمكاننا أن ندافع عنه؟ أي نوع من الشعر الذي أنتجناه يستحق الدفاع عنه؟ رأسي متوج بأكاليل الغار لأنني تحت رعاية (سليو) ربَّة التاريخ؛ التاريخ الذي يخرب وينهب بسيف يحمله في اليد اليمنى، لكنه باليد اليسرى يُعين العِلم على ابتكارات علمية تضع بنود الحرب والتقدم. هل قدمتُ عرضاً مقبولاً من الناحية التاريخية؟ وما الجملة التي سأضعها؟ ألا يمكن أن تكون: “اسمحوا لنا أن نراجع فكرة الإبداع الشعري علاوة على الإبداع المُلهم حسب تقاليد اليونانيين، أو اسمحوا لنا نعزو مآزقنا إليهم ونتركها لهم وحدهم، ونختلف معهم بشكل واعٍ لأننا وجدنا أسساً منطقية للبراعة الفنية والإبداع؟” إذا لم أكن أثق في مقدرتكم الفكرية، لكنت رددت الجملة الأخيرة. ألا يدعو هذا الأمر إلى حفريات آركيولوجية تنقب في العصور وتقودنا إلى طبقة تعود إلى ثلاثة ألف عام؛ حينما شكَّل اليونانيون عالمهم الأيديولوجي بوعي تام. كان ذلك العالم “أسطورياً ايدلوجياً” وأسطورياً دينياً”. بعدها يجب أن نعتقد فيما يقول به اليونانيون طيلة مدة هذا البحث، ونعتقد فيما تسميه الأديان والنزعة العقلانية: “الخرافة”؛ حتى لا نجعل من وليام شكسبير مادة تدعو إلى الضحك. إذا لم تكن تعتقد في المنديل السحري الذي حمله (عطيل) عن أمه، هل كان (عطيل) سيحمل أي معنى؟ إذا لم تكن تعتقد في الأشباح السائرة، هل كان انتقام (هاملت) سيحمل بالنسبة لك أي معنى؟ يجب أن نحتفظ ببعض الخرافة حتى نستطيع فهم المخلوقات التي أتت بها اخت (منيموسين) إلى الحياة.
لأننا ما زلنا نؤمن بالخرافة، نجد أن الكنسية الكاثوليكية ما زالت تحرق البخور لطرد الأرواح الشريرة، ؛ لذا لا يمكننا أن ننكر (هاملت) مهما فكرنا في الدنماركيين الذين يعيشون في هذا العصر، ولا يمكننا أن ننكر «أوديب» مهما فكرنا في يوناني اليوم. اتعاطف في بعض الأحيان بعمق مع المتدينين في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، الذين يرفضون نظرية النشوء والتطور. إذا لم تكن تتبع نبياً يُجدَّد الخلق حسب (سفر التكوين)؛ كيف يمكن لك أن تعتقد في الخلق الديني، أو النشوء والتطور، اللذين رآهما (تشارلس داروين)؟
أتعاطف أيضاً في بعض الأحيان مع طائفة (الهندوس) الذين أخبروا أن الإنسان حلَّ على سطح القمر. تساءل الهندوس: “أيُّ قمر؟ وماذا يريد أولئك الرجال هناك، وهُم لم ينجزوا لنا ما يكفي على سطح كوكبنا؟”.
لم نجد مركباً يلهم مجددي الشعر المقدس ليُمكَّنهم من تجديد (سفر التكوين) لأننا تجاهلنا الربات التسع، و(بولهيمنيا) على سبيل المثال. في غياب موقف ديني لا يمكن أن يكون هناك إبداع عظيم؛ إبداع حي يمتلك حياة تشكل ملجأ للحياة، وتتضوع بالشذى.
يقول أحد الشعراء المقدسين: “إذا لم يكن قلبك عامراً بالإيمان فإن كل ما تكتبه من قصائد ستصير أُنوفاً من صفيح.” لقد قدَّتكم إلى داخل مسار آركيولوجي، ونقبنا داخل العقل، طبقة بعد طبقة، حتى وصلنا إلى أعماق تحوي الآثار التي أنشأها العقل البشري في اليونان. أُريد أن نتوقف مع الطور التاريخي الذي بدأ فيه (هوميروس)، معلم المعلمين، ومتوج المتوجين، والشاعر النافذ البصيرة، عمله مخلفاً لنا أثرين أدبيين هما (الإلياذة) و(الأوديسة). قلبت صفحاتِ كتبٍ لا يُحصى عددها، لكن مجهوداتي لم تُكافأ بأي ذكاء يتعلق بما سيحدث حين يبتهل الشاعر ويتوسل إلى عرائس الشعر. هل يجلس الشاعر وأوراق على الطاولة أمامه، ثم يحدق في الحائط مترقباً الربَّة لكي تأتي وتلهمه؟
أعرف صائدي تماسيح من قبيلة (كوكوروكو) في غينيا بيساو، ينزلون إلى نهر (فلي) مجدفين بمراكبهم في الليل، وهم يحملون مصابيح منيرة، ويستدَّعون التماسيح – أو ينومونها مغنطيسياً- ثم يقتلونها من أجل الاحتفاظ برؤوسها. هل هذه هي الطريقة التي يستجدي بها الشاعر المرتقب العون من ربَّة الشعر؟ أعرف أن الشاعر الإنجليزي (السكندر بوب) يفخر بأنه في المرات النادرة التي يزرر فيها بنطاله كانت تأتيه بحور الشعر، ويبدأ في الترنَّم بها. لكن «إليكس» كان طفلاً معجزة. في الموسيقى، كما في الشعر المقفى يوجد عباقرة وأطفال عباقرة مثل (فولفغانغ أماديوس موزارت). في علم الرياضيات يوجد أيضاً عباقرة مبكَّرين خاصة من شبه القارة الهندية.
بالنسبة لنا جميعاً يجب أن نقدم إلى ربَّة الشعر ما يساعدها. أولاً هناك عنقاء مدينة طيبة التي تطَّرح مثل كل العنقاوات السؤال الأكثر بساطة على كل من يعتقدون أنهم أذكياء. يكون الموت هو عاقبة كل من يخفق في الإجابة على السؤال. جاء (أوديب)، ووجد أن اللغز في غاية البساطة، ومن ثم أجاب عليه. قفزت العنقاء في مياه البحر تاركةً (أوديب) وهو متورط في لغز أكثر تعقيداً: “ما هو المخلوق الذي يسير على أربع في الصباح، واثنين في منتصف النهار، وثلاث في الليل؟” هل هو الإنسان؟ لا يفترض أن يكون هذا السؤال صعباً، لكنه كان ينطوي على استبطان داخلي لمن يستطيع أن يقوى على ذلك، ويقول: “أيها الإنسان أعرف نفسك.” بعد ذلك أفسحوا المجال لــ (أرسطو) ليعتلي خشبة المسرح ويحدثنا عن الخصائص المميزة التي يحملها شخوص المسرحيات التراجيدية.
أورد (أرسطو) أن هذه الشخوص يجب أن تكون نبيلة ومنتمية إلى بيوت معروفة بعلوِ المنزلة؛ لو أن (ارسطو) لم يورد الدفق التراجيدي والطبيعة القاهرة ضمن هذه الخصائص لكُنت قذفتُ كتابه المعنون: (الشعر) بعيداً. دعوتكم للغوص في عمق الطور التاريخي الذي ألَّف فيه (هوميروس) كتابيه (الإلياذة) و(الأوديسة). كان (هوميروس) في ملحمتيه، و(سوفوكليس) في أشعاره التراجيدية، معلمين في فن دراسة الشخصية. طالما أنه يجب على المسرحية والرواية والملحمة أن تمضي إلى الأمام؛ فلابدّ للأحداث داخلها أن تتطور، كما لابدّ أن تؤثر طبيعة وأفعال شخوصها على الشخصيات الأخرى، أو تقودها إلى اتجاهٍ مضادٍ أو معاكس. اليونانيون عرفوا كل هذا؛ إذ أن دحرجة الكرة أسهل بكثير من إيقافها. في بعض الاحيان نحتاج إلى تدخل إلهي حتى تصل المسرحية إلى النهاية. طالما أنكم تنتمون إلى هذا الجزء من العالم الذي أنتج (الإلياذة) و(الأوديسة)، سأبدأ معكم وفق المنهج الذي تقره كتابة الأوراق البحثية. سأتبنى هذا المنهج، لكنني أدعوكم أن تنضموا إلىّ في هذا التنقيح. كان للملك (مينلاوس) ملك (أسبرطة)، وحليف (أجاممنون) ومملكته الواقعة في أرض (آراخيا) زوجة جميلة تدعى (هيلين).كان الملكان منخرطين في تسلية زوارهما.
الآن أفسحوا المجال لـ (باريس)، الغر والأكثر وسامة، أن يأتي إلى داخل البيت من القرية المقابلة. ترك (مينلاوس)، الزوج الذي لا تساوره شكوك حولها، والذي لا تنطوي سريرته على المُكر والخداع، زوجته (هيلين) وحيدة مع (باريس)، حينها بدأت عناصر كيمياء جسديهما في التفاعل. حبُّلت (هيلين) ابنة (زيوس)، وهي على هيئة إوزة، من والدها بمخلوق يفوق جماله الوصف. هل كانت تسلك مسلكها الغريب هذا وفقاً لقوانين الإنسان، أم وفقاً لقوانين الإله، أم أنها قوانين الإوزة؟ هل يمكن لكم أن تحكموا عليها وفقاً لقانون الإنسان؟
على أيِّ حال، وافقت «هيلين) على الهروب مع الضيف (باريس). هذه هي الحركة الأولى التي أطلقت العنان لكل شيء. وافقت (هيلين) على ترك زوجها وهربت بعيداً مع الضيف (باريس). كان (باريس) وسيماً وغضاً ومليئا بالنزوات. لم يأبه لمكرمة استقباله كضيف؛ إذ خرق قواعد الضيافة وهرب مع زوجة مضيفه. أطلقوا أحكامكم ونحن نمضي قدماً. كان الملك (أجاممنون) ربيب دولة أثينا حليفاً لـ (مينلاوس)، وملكاً متضلعاً في إدارة شؤون الدولة، ومُحكماً قبضته على شعبه، وعلى حلفائه. وُضِعَ شرف البيت الملكي في أرض (آراخيا) على المحك؛ فزوجة (مينلاوس) يجب أن تعود إليه. ربّما الهمت الربَّة (سليو)، حامية (مينلاوس) بما يتوجب عليه أن يفعله. كان (مينلاوس) على وعي بمكانة ما سيقوم به، إذ جهّز جيشاً لخوض الحرب. مكث الجيش لمدة عشر سنوات على شاطئ البحر، لكن الريح لم تكن مواتية حتى يعبر الجنود إلى (طروادة)؛ تعب الجميع، وكان يجب فعل شيء ما. ذكر العرّاف بأن الإله الذي يتحكَّم في الريح يحتاج للاسترضاء.
تم إنجاز الحركة الشعرية الثالثة حينما قدّم (أجاممنون) ابنته قرباناً لإله الريح. هبّت ريح مواتية وعبر الجميع إلى (طروادة(. حقَّق اليونانيون نجاحات في المعارك الأولى، إذ أسروا عبيداً، واستولوا على غنائم، وزعوها في ما بينهم. نال (آخيل) الأكثر إجادة لاستعمال الرماح النصيب الأكبر في قتل الأعداء، ثم قام بأسر الفتاة الجميلة (كاسندرا). كان ينبغي أن تكون (كاسندرا) من نصيب (آخيل)، لكن (أجاممنون) استولى عليها، لأنه ملك، والملك يجب أن يؤول إليه كل شيء. لم يرض (آخيل) بهذا الأمر لأن النصر الذي تحقَّق جاء بقوة ساعده. في معركة لاحقة؛ أقام الطرواديون مذبحة للآراخيين. اعتكف (آخيل) في خيمته، متجهماً ورافضاً للحديث. بقى «آخيل» في معسكره وهو يرعى نوازع حقده. تقلد (باتروكلوس) صديق (آخيل)، وربما عشيقه المثلي، درع (آخيل) وذهب إلى ميدان القتال. حُظي (باتركلوس) بنجاحات في البداية، لكن درع «آخيل» كان ثقيلاً على جسده الناحل، حينها تعرف الطرواديون على هويته وقتلوه.
اتخذ (باتروكلوس) قراراً شعرياً، عَبَر عنه بالقول: “الأمور التي تخصنا جميعاً، أكثر أهمية مما يخصني وحدي.” لان صديقه لقي حتفه في ساحة القتال، نهض (آخيل) متقلداً درعه، وذهب إلى الساحة لإلحاق الهزيمة بقواتِ الطرواديين. كان (آخيل) يعرف أنه كائن كُتِب له الخلود، لكن نقطة ضعفه كبشر فانٍ، كانت تكمن في كعبيه. كان يعرف أن القدر كتب عليه أن يموت في سن مبكرة (مثل فولفغانغ أماديوس موزارت) لكن (آخيل) كان مستعداً لان يُلهب قبة السماء مثل نيزك، ويحيل السماء إلى كتلة حمراء. عندما ذهب للقتال، كان يعرف أنه يٌقدم نفسه قرباناً. بالنسبة لــ (آخيل)، فإن “روحه والأمور التي تعنيه كانت الأكثر أهمية.”
عندما قتل (آخيل) (هيكتور)، قيده على مركبته الحربية وجرجر جثته في ساحة القتال. كان ما أقبل عليه (آخيل) يمثل تدنيساً للمقدسات، لا ترضى عنه الآلهة، ولا يُحظى بالقبول عند بني البشر. فليذهب أصحاب (هيكتور) لمواراة جثمانه وفقاً لكل الطقوس التي تُناسب عظمته. يمجد قدماء الاغريق هذه الطقوس، كما أن الشعوب الافريقية تعرفها حتى الآن جيداً. أن تُلبِس جسد الميت أثواب الخزي والعار فإن ذلك يعني انحدارك إلى هاوية الجنون، بل ودنو أجلك. لم يسقط حصن طروادة لأن (آخيل) قد قتل (هيكتور)، أو بعد إقدام (آخيل) على قتل (هيكتور).
بالنسبة لـ (هوميروس) أو من اقتفى أثره من المؤلفين، هنالك شيء يفوق سلطة الملك والقدرة العسكرية لمحاربيه. المقاتل الشرس لا يعني نهاية كل شيء، وإلا لكان نجاح (آخيل) في ساحة الوغى شيئاً كافياً. هنالك مصدر ثالث للقوة يتمثل في الخدعة الحربية والدهاء. كان لأسوار مدينة طروادة الحصينة أن تتصدع، ولكن كيف تم إنجاز هذا الفعل؟ ادعى (أوديسيوس)، الجندي البارع، الجنون لكي لا يذهب إلى ساحة الحرب، حتى أحضروا ابنه الرضيع (تليماخوس) ووضعوه على الأرض التي سيمر عليها المحراث. لو كان (أوديسيوس)، الذي سيحرث الأرض السبخة، مصاباً بالجنون، لشطر ابنه إلى نصفين، لكنه لم يفعل ذلك. آلت الجولة الأخيرة من القتال في طروادة إلى يد رجل عُرف بابتداع الحيل. جاء (أوديسيوس) بفكرة صنع الحصان، راقت حيلته لأهل طروادة الذين يُشار إليهم في العديد من صفحات (الاوديسة) بصفتهم مروضي خيول ومدربي خيول، لكنهم لم يفكروا إطلاقاً في أن يروا ما بداخل الحصان خارج أسوار مدينتهم. وضعت الحرب أوزارها. استعاد (مينلاوس) زوجته، وعمَّت العدالة الأرجاء. تم تعويض (باريس) بمنحه امتياز قتل البطل اليوناني (آخيل). رجع (أجاممنون) إلى الديار صحبة زوجته (كاسندرا) ذات النبوءات. كانت (كاسندرا) عرافة بإمكانها رؤية حتفها وهو يسرع الخطى نحوها، لكنها كانت عاجزة عن فعل أي شيء أمامه. بعدها أخذت حركة شعرية أخرى في الوقوع. اتخذت الملكة (كليتمنسترا)، التي قدمت ابنتها قرباناً لإله الريح، عشيقاً. كلا الملكة والعشيق توقعا أن يقتلهما (أجاممنون) و(كاسندرا.( بعد تعرض طروادة للنهب والسلب، أبحرت اطلال المدينة إلى (روما) لتؤسس الامبراطورية الرومانية. قام (أينيس)، الذي يمثل نسخة طروادية من (أوديسيوس)، بحمل والده (أنخيسيس) على ظهره وأوصله إلى روما ليصبح الأب المؤسس للإمبراطورية. بالمقابل قام (اوديسيوس) بجولة في جزر البحر الأبيض المتوسط ومناطقه الساحلية. عندما وصل أخيراً، إلى أرض الوطن وجد زوجته، وهي تتخلص بمكر من الرجال الذين لم يذهبوا إلى ساحة المعركة، لكنها بالمقابل، كانت تستمتع بأوقات بهيجة مع زوجات الرجال الذين التحقوا بالحرب أو سجلوا في عداد الموتى. قام (أوديسيوس)، وابنه (تليماخوس)، وراعي أغنامهما، بوضع حد لحياة أولئك الرجال. كان فعلهما هذا يقوم بتحويل العدالة الشعرية عن مسارها. يمكن أن تشكل (الإلياذة) رحلة مصحوبة بعرض مُصور ينبغي لكل مدير مؤسسة سياحية في اليونان أن يقوم بالتسويق له.
أما بالنسبة للشعر، سواء أن ولدت شاعراً يحظى بالتدليل من ربات الشعر، أو ألهمتك الربات بكتابة الشعر، أقبل على تدريب نفسك وستكافئك الربات بحصة من الإلهام الشعري. أنا متأكد أنه يتوجب عليك أن تستمر في التمارين وإلا هجرتك الربات. يقال أن الطبول الملكية الافريقية تحن إلى من يقرع عليها وتشتاق إلى من يحملها إلى ساحة الرقص. إذا بقيت هذه الطبول مدة طويلة دون أن يقرع عليها أحد، فإنها تقوم بفعل القرع على نفسها، إذا حدث هذا، ينبغي لاحد الأفارقة أن يؤدي رقصة طقسية سريعة، وإلا مات أحدهم، الأمر الذي يؤدي إلى قرع الطبول لمدة أسبوع على الأقل. ربما كان الإكراه طبعاً من طباع ربات الشعر وجزء من التوجيهات التي يصدرنها. ربما كان الشاعر الملهم لا يطيق أن يكون مكرهاً وعنيداً، ومجاهراً برأيه، ومتدثراً بالجنون.
هنالك الشاعر، وهنالك الحركة المشحونة بالشعر. هل يمكن لك أن تكون شاعراً دون امتلاك القدرة على الاعتراف بهذه السانحة. هل كان يمكن أن يتم تأليف (الإلياذة) إذا: أ) لم ينتهز (باريس) السانحة ويقوم بإغواء زوجة مضيفه، وبتحوير قليل، مالم تكن هنالك (هيلين) مستعدة لخرق الناموس المتمثل في جعل نفسها متاحة للضيف (باريس)؟ أطلقت (هيلين) شرارة كل شيء، لأن هذه اللحظة بالذات والهروب الذي نشأ عنها، هما اللذان شكلا أصول البرهة المشحونة بالشعر وكل التطورات اللاحقة التي أدت إلى نهب طروادة. هل كانت جوانح (مينلاوس) تضم شعراً؟ هل كان هذا الشخص، المتسمة طبائعه بنبالة الملوك، لا يشك في شيء لأنه كان غير قادر على الإتيان بجريرة التشرد.؟ كتبت عليه الأقدار أن يكون له زوجة جميلة، وأن يكون الشخص المناسب للابتلاء بدور الديوث؟ قام (أجاممنون) بواجبه وعزَّز تجهيز الجيش. ب) لم تجئ اللحظة المشحونة بالشعر عندما قتل (أجاممنون) ابنته استرضاءً لإله الريح. بالغ قائد الأمة في إغضاب زوجته، لذا فإنها أقدمت على قتله فور رجوعه لأنه قتل ابنتهما الوحيدة. هل يستوجب الإقبال على اغتراف فعل يغضب أمنا الأرض، دفع الثمن، عاجلاً أم أجلاً، ليعلق سيف (داموكليس) فوق فراش السيد، ويكون ذلك السيف على أهبة الاستعداد لان يتدلى ويختار اليد التي ستقوم بإغماده؟ القتل في الحرب كان موطن قوة (آخيل). لكن بالنسبة ليونانيي ذلك الزمان كانت القوة تتمثل في الخدمات التي تؤديها للملك ولبلادك. كان الملك أول من يستولي على الغنائم. كرس (باتروكلوس) الفاني، والمطالب بخلافة عرش (آخيل)، نفسه لساحة القتال. بيننا نحن الشعراء من هم الذين على شاكلة (آخيل) أو (موزارت) أو (باتروكلوس). أو من هم الذين على شاكلة (ساليري)؛ أي أولئك الذين يفعلون ما بإمكانهم فعله، لكنهم يعلمون أنهم لا ينتمون إلى الطراز الأول؟ لذا يتوجب عليهم أن يبحثوا عن أكثر اللحظات المشحونة بالشعر ملاءمةً وتقديمها لنا لينالوا قسطاً من ذلك المجد. )آخيل) أو (موزارت) أو (كيتس) أو (شيللي)، ربما كانوا محقين فيما فعلوه وإلا تحولوا إلى شيء مضجر على شاكلة الملك (بولوينوس)، أو طعنوا في السن مثلهم مثل (الكسندر بوب) أو (لورد الفرد تينسون). عندما لا يروق لأحدهم المكان الذي يعيش فيه، يذهب إلى الأماكن التي تندلع فيها الحروب مثل يونان ذلك الزمان أو عراق اليوم. بحث اللورد «جورج غوردون بايرون» عن ميتة مبكرة، بعد أن تم تتويجه أميراً للشعراء، وزيراً للنساء يفوق جميع أقرانه. إن الذي يمتلك كعباً يجلب له الكوارث، ويشكَّل مصدر قوة في آن، عليه أن يتذكَّر أنه عندما يذهب للانتقام لصديقه، ربما يعود موشحاً بدرعه، (كان الجنود اليونانيين القتلى يسحبون من ساحة المعركة موشحين بدروعهم). ربما كانت آخر معركة يخوضها الجندي اليوناني تجعله ثملاً؛ ثملاً بالدماء. يستمر التوشح بالدرع برهة قصيرة، لتُكون بقية المأثرة مشهداً مسلياً تؤلف له الأغاني، ويتم تذكره، وتكتب حوله قصائد يرد فيها ذكر تجهَّم (آخيل) وآخر حرب خاضها. تمثل جرجرة جثة (هيكتور) في ساحة الحرب شهادة على جنون (آخيل)، وعلاوة على ذلك، علامةٌ على تحول ملكية تُمنح في ساحة الحرب وتبيح القتل. لكن هنالك ثمة أعراف، أعراف أُودعت بقداسة في أوعية معاهدات كُتبت في زماننا، وفي أزمنة أُخرى حتى يتم توقيرها، لأجل خاطر الإنسانية، ذلك إن لم يكن لأجل خاطر الإلهة. إذا لم تكن تؤمن بالإلهة، أدر ظهرك لها بكافة السبل، ولكن يجب أن تولي اهتمامك المباشر ببني البشر حتى تغفر لك الالهة. الآن يجيء دور الروائيين، سادة صناعة الحبكة، الموزعين بين صانع الحبكة الانجليزي (تشارلس ديكنز)، والروسي (فيودور دوستويفسكي). أُواجه صعوبة بالغة في تشبيه حبكة أحدهما بحبكة حصان طروادة، لأنها تحوي لحظات كوميدية. أجدني في هذا المقام خاضعاً لـ (تشارلس ديكنز)، اذ أن حبكات (دوستويفسكي) تتسم بالقتامة. هل خطر ببالكم مرة أن يقوم الطرواديون بتفتيش الحصان قبل سحبه إلى الداخل؛ حيث يُكتشف أمر الجنود الذين بداخله ويتم قتلهم ؟ ثمة أمثال تضرب لمعارضة رؤية حصان يجسد هبة تقف عند المدخل، لذا فليتلقى الطرواديون، (مروضو الخيول) دميتهم العملاقة التي يجسدها حصان خشبي خلَّفه أعدائهم السابقون. إن الولع بالخيول يمثل نقطة ضعف الطرواديين؛ مثلما كان كعب (آخيل) يمثل نقطة ضعفه. ربما كانت هذه نقطة مناسبة لي للتوقف. وتسجيل ملاحظات ختامية: أعذب الشعر، هو شعر الملاحم الشعبية التي احتلت مكانة عالمية، خاصة (الالياذة) و (الاوديسة) اللتين كتبهما (هوميروس) إضافة إلى (المهابهاراتا) الهندية و (الكاليفالا) الفنلندية. تنهض جميع هذه الملاحم بصفتها اعمالاً تحتاج للدراسة وتفاعل الأجيال، التي تحويها كل ثقافة ولغة، معها. لا تجسد هذه الملاحم ابداعاً لشخص بعينه أو جيل بعينه، إنما تُجسَّد الإبداع الجمعي لشعب من الشعوب حول مكانة الإنسان في العالم. لذا لا يمكن لأحدنا أن يكذب حينما يقول إن الملاحم هي نفحة من نفحات الام (منيموسين) ربة الربات، وملهمة الإبداع السابق واللاحق. بدأ إنتاج الملاحم بعون الربة (كالوبي) نصيرة الشعر الملحمي. تلفتُ يُمنة ويُسرى، وراء ً وأماماً، لكنني لم أر قصيدة ملحمية تسجل وقائع زماننا، بوصفي الابن المدلل للربة (سليو) في هذا اليوم، أجد صعوبة في الدفاع عن الأشعار الجزئية. أين هي القصائد الموغلة في الإحاطة ؛ القصائد التي تمنح الإنسان مكانة تراوح بين الآلهة وطبيعته الهشة، ومكانة تراوح بين الإنسان والحيوانات؟ الإنسان الذي يمشي على أربع واثنين وثلاث. اغفر لي (ياديسيدريوس أراسموس) إذا أتيت بعزف نشاز يُخالف رفاقي المغنين ويخرج عن المألوف في أزمنة القصائد السريعة هذه. سامحني إذا حاولت ان أكون جاداً، رغم إنني لا أجرؤ على التحديق في وجه الشخصية الكوميدية التي نحتها. أعذرني إذا انتهيت بامتداح الحماقة في روتردام مرة أخرى. لكن إذا كانت النزعة الإنسانية هي عشقي المكنون؛ هل أكون مخطئاً في السعي لتوجيه الأنظار إلى إنسانية محبوسة داخل الاقفاص؟ هل أكون مخطئاً اذا حاولت أن أدل رفاقي على عالم من الشعر والقيم والأهمية يتجسد في محاولات سابقة رمت إلى وضع الإنسان في مكانه، ولفتت الأنظار إلي إبداع شامخ خطه أسلاف تاريخيون ربما أرغمونا على إضفاء شرف على راهننا بكتابة منتجات أدبية تضاهي منتجاتهم وتناسب أزمنتنا وما سيجيئ من أزمنة. الأجلاء أعضاء المؤسسة العالمية للشعر، الزملاء الشعراء، عشاق الشعر، السيدات والسادة : ينبغي أن ندافع عن الشعر؛ حتى الشعر المعوج الذي يتم إنتاجه في هذه الأيام، ينبغي أن ندافع عنه؛ كي تبقى جذوة الشعر متَّقدة، ونتطلع لأن نكون شعراء أفضل؛ شعراء ملاحم يمتلكون القدرة على إنتاج شعر يطالب بالدفاع عنه. شكراً للربة «سليو»، لأنها ثابرت على مرافقتي طوال زمن هذه المحاضرة. أنا ذاهب الآن للبحث عن كبش مسمَّن أذبحه أمام باب محرابها.
(أُلقيت هذه المحاضرة في مهرجان الشعر العالمي في مدينة روتردام الهولندية، يوم 19/ يونيو/ 2006)