أفق: الجريمة والعقاب

أفق: الجريمة والعقاب

صدوق نور الدين

1/

 لم يكن دستيوفكسي يعتقد، وهو يكتب رائعته “الجريمة والعقاب” (1866)، أن هذه الرواية ستمنع في  بعض دول الغرب، وذلك في سياق العقوبات المفروضة على روسيا في الحرب التي تخوضها ضد أوكرانيا. وليس هذه الرواية وحسب، وإنما جملة الآثار الأدبية التي كانت تدرس في بعض المعاهد والجامعات الغربية. على أن الفن والرياضة لم يسلما من سيف العقاب.          

 2/ 

 ظهر فن الرواية في الغرب كشكل جديد للتعبير عن الذات والمجتمع. الشكل الذي خضع لتحولات وتبدلات قادت إلى الاستقرار على الصورة التي انتهى إليها، علما بأن ليس لكتابة الرواية قواعد وضوابط تفرض السير على منوالها. ومن ثمة خيض في التجريب الروائي، حتى أن نماذج من الروايات الغربية لو كتبها روائيون عرب لاعتبرت بمثابة عبث أدبي. ومثلما ظهرت الرواية في الغرب، ارتبطت بفضاء المدينة. الفضاء الذي يحوي العلاقات الإنسانية في استقرارها وفي غيابه، في صراعها وتصدعها، وفي رصد التباينات بين الفئات الاجتماعية. بيد أن من يعيش في المدينة، الفرد الذي يفعل بقوة الحضور وإنتاج المعنى المتعلق به ككائن، وبغيره على السواء. وحتى يعبر عن الفردية، لجأ إلى الرواية لترجمة ما يراه. وبالتالي، يجسد حلمه، حنينه، ويقول ذاكرته. أذكر الروائي السوري الراحل حنا مينه في ندوة عن الرواية العربية، وبالتحديد في إحدى الدول الخليجية. أذكره ينتفض في وجه كاتب خليجي ادعى بأن الرواية ولدت مرتبطة بالقرية ولن تعبر سوى عن  المجتمع القروي. حينها تدخل حنا مينه في غضب ليؤكد بأن جنس الرواية ارتبط بمجتمع المدينة. وهو ما تؤكده أغلب الدراسات الغربية.        

3/ 

 إذا كان جنس الرواية ظهر في الغرب، فالأخير يمارس اليوم، وفي سياق الحرب الروسية/ الأوكرانية – إن لم تكن الغربية – ديكتاتوريته عليه. فأكثر من روائي أوروبي يستحضر في مقروئه كما في كتاباته الأدب الروسي كما أبدعه دستيوفسكي، تولستوي، غوركي، تشيخوف و تورجنيف. فلم تعد الرواية تنتج الوعي بقيم الحرية، التسامح، العدل والحب. من ثم فهي تحاكم مثلما تفرض العقوبات على الأبناك، التبادلات التجارية والأسواق المفتوحة على البيع والشراء. لم تنج الرواية من ديكتاتورية الغرب حيث ظهرت. إنها ضحية سياسة تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان متى ما كان الأمر في صالحها. وفي حال الانتفاء، تحارب بأساليب ماكرة واحتيالات بشعة.         

4/ 

 إذا كان دستيوفسكي حورب في بعض الكليات والمعاهد بالمنع من التدريس، فإن الخالدات : “الجريمة والعقاب”، “الإخوة كارامازوف”، “الأبله” وغير ها من الأعمال، لا يمكن أن تمحي من ذاكرة العالم. الذاكرة التي كتبت تاريخها الرواية وليس السياسة، إذا ما ألمحنا بأن قرارات المنع كهذه لا يمكن أن تجبر عشاق الأب الرفيع على إدارة الظهر له. فكم من رواية قرئت في مرحلة وفسرت تفسيرا كما أولت تأويلا في حدود، إلا أنها في مرحلة لاحقة اكتسبت معنى آخر مستجد. وهكذا يمضي نهر القراءات مثلما يتفاعل صراع التأويلات لتظل أرواح المؤلفين نائمة في المكتبات الشخصية و العامة، و لا تستيقظ إلا في اللحظات التي تقع فيها عين على عنوان ولدت الرغبة لقراءته و التفاعل معه.       

5/ 

 إن الأدب، أدب، وسيظل مستمرا باستمرار الحياة./.

Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

صدوق نور الدين

ناقد وروائي مغربي