الفعل الثقافي دعامة العمل السياسي
أحمد حبشي
لعب المثقفون دوما دورا بالغ الأهمية في صياغة الأفكار وتوسيع مجال الرؤية، لتدقيق المفاهيم وبلورة التصورات، وبالتالي فسح المجال للفعل السياسي وإبراز دوره ومسار تطوره، قبل أن ينحسر أداءهم المعرفي في تخصصات تكتسب طابعا مثقفيا صرفا. يلامس قضايا فكرية من زاوية البحث والتدقيق في الوقائع التاريخية والمسارات الفكرية، عندما تطال اهتمامهم قضايا المجتمع وأواصر علاقاته، في الوقت الذي كان المثقفون يسجلون حضورهم القوي في الصراع السياسي والتواجد أللافت في قيادته ومراكزه الأمامية.
فهل مازال العمل السياسي يحتاج إلى الفعل الثقافي ليدعم مساره ويوسع مجال تأثيره؟ أم أن الفاعل السياسي يخشى سلطة الثقافي ويسعى إلى تهميشه والحد من قوة حضوره؟
ما يدعو إلى التأمل في ملابسات علاقة السياسي بالثقافي، هو العتاب الذي يتوجه به السياسيون للمثقفين ومؤاخذتهم على ما يمكن اعتباره تخل عن دورهم في تحرير الفكر وتقوية ملكات الوعي بالوجود المجتمعي، والرفع من مستوى التفاعل مع مستجدات الواقع والمساهمة في خلق شروط تغييره. في المقابل يتهم المثقفون السياسيين بالسعي للحد من الحضور الثقافي بتكييف خطابه لتكريس سلطتهم الرمزية والعملية، وبسط سيادة الفكر السائد وأدواته المعرفية وتحديد مجالات الابداع، ومحاصرتها بما يقوي الهيمنة والتدبير الأحادي للشأن العام.
ولإن المثقف يخشى احتواء السياسي لعمله الفكري وحصر مجال تمثلاثه للواقع وكيفية التعبير عن تطلعاته، فإنه يسعى باستمرار لوضع العلاقة بينهما في إطار يضمن استقلاليته وحرية تفكيره، معتقدا في حقيقة أن السياسي في حاجة لخدماته قصد تسهيل تواصله بينه وبين محيطه المجتمعي، بأدلجة الخطاب السياسي وإسناده بخلفية فكرية، تسمح بتأويل معرفي للوقائع والأحداث.
في الممارسة العملية يتضح التباين القائم بين المثقف المهووس بالمعرفة وتجلياتها الفكرية والنظرية، وحرصه على تدقيق المفاهيم وتحليل بنياتها وصلتها بالواقع وتحولاته، وبين السياسي المحتاج لتأطير أيديولوجي يبرر ممارساته ويضع أفقا لفعله وتطلعاته.
في ظل هذه العلاقة المتوترة بين طرفين مرتبطين بحكم اهتمامهما بنفس القضايا والمجالات يبقى السؤال الملح والمثير للجدل، هو كيفية يمكن للسياسي أن يستفيد من خدمات المثقف دون الحد من حرية هذا الأخير وتحديد إطار فعله وتفاعله؟ كيف تخدم الثقافة الفعل السياسي وتساهم في تطوير مساره وإبراز معالم أفقه؟ دون أن يفقد المثقف سماته وخصوصياته كمبدع ومبلور لأفكار وتصورات تبرز مكونات الواقع وتجلي مخارج لكل القضايا التي تعيق تطور المجتمع وتحد من توسع أفقه.
إن العودة للنقاش ستسمح بتحديد مجالات وأدوار كل من المثقف والفاعل السياسي، وهو ما يوسع إطار الفعل المشترك والتفاعل الموازي مع الواقع المجتمعي واستثمار نتائج عمل كل منهما. فكيف سيتم كل ذلك؟
فهل ما يعتزم بعض المثقفين القيام به يوم 26 مارس هو وقفة للتأمل، أم صحوة للدفاع عن الموقع الاعتباري الذي طاله التهميش، أم فتح جبهة الصراع من أجل الحد من هيمنة السياسي ومغالاته في تهميش المثقف والاستخفاف بدوره في الرفع من منسوب التنمية الاجتماعية والرفع من قيمة الفعل الإنساني في كل تحول مجتمعي مأمول؟ أسئلة لا يمكن أن تبقى عالقة.