الروس وماسح الأحذية
د. خالد العزي
منذ فترة طويلة لم أعد أتردد على كثير من الأماكن العامة، كما كانت الأحوال سابقا، وذلك بسبب الأوضاع الاقتصادية المريرة على الجميع، بالإضافة إلى ضيق الوقت، وعدم وجود فراغ يدفعني لارتياد أماكن الترفيه. وكذلك إلى الفترة الصعبة التي يعيشها العالم من تداعيات وباء كورونا، التي فرضت نظاما جديدا على الأماكن المغلقة وهددتها دائما بالإقفال أو اتباع تدابير معينة.
وشاءت الظروف حديثا، أن أذهب إلى شارع الحمراء في بيروت، شارع الأيام الخوالي الجميلة، لمقابلة زميل لي في الجامعة، حيث التقينا بإحدى المقاهي، واسمها “لاروزا”. بالطبع لم تعد مقاهي هذا الشارع أماكن مميزة كما كانت سابقا، إذ غاب عنها المثقفون وقراء الصحف، وجماعات النقاشات الثقافية والسياسية الصاخبة، التي اشتهرت وتميزت بها الجلسات في بيروت عن أخواتها في الدول المجاورة.
في هذه المرة أحببت الجلوس في الخارج، كي أتسلى بتأمل المارة، وتلاحق السيارات على الطريق العام، وأتفرج على مشهد المحلات الفارغة من الزبائن، وعلى الحركة الخجولة للناس. كأننا في أيام الحرب، لكن تلك الأيام كانت أرحم لجهة الحركة والازدحام، لنحتسي القهوة ونتسامر بكل أنواع الأحاديث، من الثقافة والأدب والسياسة ومواضيع التدريس والتنسيق في الأسئلة المشتركة للامتحان الفصلي للطلاب.
فجأة تقدم أحد الشاب صوب طاولتنا، عارضا علينا خدمته لتلميع الأحذية. تلقائيا رفضتُ، معتذرا بلطف عن الخدمة التي لا أحب من أحد أن يقدمها إلي، حتى لو دفعتُ أجرتها، مع العلم أني أحترم ممتهنيها.
لكن زميلي بادر وطلب من الشاب تلميع حذائه، وهو جالس على الكرسي، لا يعير اهتماما لأحد، ثم تابع حديثه معي دون أي ردة فعل، لأن المسألة في بلدي عادية، بل تجد من الناس من ييتباهى بها.
سارعت بي الذاكرة إلى أيام دراستي وإقامتي في الاتحاد السوفياتي “روسيا الحالية”، ولم يكن لهذه المهنة أثر بها أو أي وجود، لا في العصر الشيوعي، ولا الحديث. ولا أذكر مطلقا بأننا التقينا بماسح للأحذية، لا في العواصم السوفياتية، ولا في الشوارع الرئيسية للمدن، ولا حيث تنتشر الحدائق والمكاتب العامة والمقاهي والفنادق.
ولكوني قد نسيت مع الزمن وجود هذه “المهنة”، خاصة أن باستطاعة أي شخص القيام بها، رجلا أو امرأة، كبيرا أو صغيرا، كونها تخص التنظيف والترتيب الخارجي لمظهر الإنسان، والطلاب بالاتحاد السوفياتي كانوا يملكون مقتنيات التلميع المتوفرة في كل محلات البقالة والسوبرماركت، فمثل هذه المقتنيات ضرورية لكل الأفراد، إذ أن عملية تنظيف وتلميع الأحذية لا تقل أهمية عن غسل الوجه، وحلاقة الذقن، وتنظيف الأسنان، وما إلى ذلك. وأنا تعلمت تنظيف أحذيتي وتلميعها، وغالبا ما كنت أقوم بذلك عند مدخل البيت، اتقاء للحد من رائحة الصباغ التي تحوي مواد كيماوية على الجهاز التنفسي…
ولكن بعد انتقالي إلى شقة خاصة، مع زوجتي والأولاد، كانت شريكتي هي من تتولى في الشتاء تنظيف الأحذية وتنشيفها من مياه وأوحال المطر، للحفاظ عليها، لا سيما وأن فصل الشتاء طويل، والأيام مثلجة، والملح الذي يرش فوق الأرصفة والطرقات لإذابة الثلج يتسبب بتلف الأحذية، لذلك كانت زوجتي تنظفها وتضعها في قوالب للحفاظ عل شكلها، وتدعم هذه القوالب بأوراق الصحف القديمة. كانت حريصة على هذا العمل، بينما كنت أنا عديم الخبرة في ذلك، فهي بنت البلد وتعرف الأمور، ولكن ضاع باع زوجتي مني ومن أولادي، نتيجة طبيعة عملي والعودة متأخرا، وعدم الاهتمام بالأحذية، وقد سمعت أن هذه الحوادث تحدث كثيرا في روسيا، وتسبب مشكلات بين النساء والرجال الذين لا يهتمون بنظافة أحذيتهم وتنشيفها. ولم نكن نكترث على الرغم من تنبيهات زوجتي لنا، فلا حياة لمن تنادي، وهو ما دفعها إلى مشاكستنا لإجبارنا على أخذ الموضوع بعين الاعتبار وبالجدية المطلوبة. في هذا السياق قامت بافتعال حوادث عديدة، منها أنها تعمدت تنظيف فردة حذاء واحدة وتركت الأخرى، وفي الصباح خرجتُ مسرعا إلى الجامعة لمقابلة المشرف، وبما أن الوقت قصير وكل دقيقة مهمة، انتعلت حذائي مسرعا وغادرت البيت. في المترو أثارني اتجاه النظرات تركز على حذائي، وسار بي الظن أول وهلة هل انتعلت كل فردة معكوسة، أو كأني أدخلت قدمي في حذائين مختلفين، جديد وقديم، ولم أنتبه رغم وضوح الفرق، أكلتني نظرات الاستهجان وغرقت في خجلي.
فور عودتي أخبرتُ زوجتي بالحادثة، فهزت رأسها وقالت: “أنا من فعلت ذلك، كي تنتبه وتقوم بمسح الفردة الأخرى لكنك رجل لا يهتم ولا يبالي”.
حادثة أخرى، كنت أريد الذهاب إلى إحدى المؤسسات الرسمية، وحصلت معي نفس الحادثة، بعد العودة علا الصوت مجددا، وقلت لها أرجوك، لا تلمسي أحذيتي واتركيها وشأنها، فكان جوابها: “سأبقى أفعل ذلك كي تتعلم وتهتم بحالة أحذيتك قبل المغادرة بسرعة، وأن تعمل على تنظيف أحذيتك، كما تقوم بحلاقة ذقنك وتلبس ثيابك، لأن الاهتمام بالأحذية والاعتناء بها، يدل على المظهر الراقي والمتأني للشخص”.
عد صراع طويل، وانتقالي إلى انتعال أحذية تتناسب مع لباسي الرسمي، باتت المهمة تفرض علي، وصرت أنتبه لنظافة أحذيتي، فأقوم بمسحها دون العودة إلى ماسحي الأحذية، مع أني أكره هذه “المهمة” التي يضطر البعض لممارستها من أجل بضعة قروش، حتى صارت صنعة رائجة ومنتشرة جدا في بلداننا العربية، وربما اعتاد بعض الناس عدم احترام تعب الآخرين، أو لكونهم يجدون في ذلك نوعا من التباهي والأرستقراطية، عندما يمدون أرجلهم بوجه ماسح أحذية لتلقي خدمته. بالرغم من كوني منذ طفولتي كنت أرفض أن يقوم أحد بتلميع حذائي، كوني اكتسبت مبكرا ثقافة يسارية وإنسانية، ترفض التعامل مع أي أحد مهما كان مضطرا بطريقة التسخير والخدمة، وبقيت على حالي هكذا طوال شبابي وحتى أيامي هذه، رافضا الجلوس في المقهى أو على طاولات الأرصفة، أو أفتح باب سيارتي لأمد قدمي لكي يقوم شخص آخر بتلميعها أو دهنها، بالرغم من أن البعض يحاول التحايل والالتفاف، بخلع الحذاء وإعطائه لماسح الأحذية، لكي يظهر في ذلك نوعا من التواضع، أو التعامل العادي الطبيعي مع هؤلاء الناس المضطرين من أجل تحصيل قوتهم اليومي القيام بمثل هذا العمل.
انتهى لقائي مع صديقي بالرد على سؤال زميلي خالد لماذا لا تريد تلميح حذاءك؟ فشكرته بنصف ابتسامة، وحذائي نظيف وملمع، وقلت له: “حان الوقت يا عزيزي لإنهاء الجلسة والعودة إلى منازلنا.
بعد الشرود في أجمل لحظات الشباب في بيتنا في روسيا، أحسست بأن علي توجيه تحية لهذا الشاب الذي يمتهن مسح الأحذية، ولزوجتي التي علمتني فكرة بأن الاعتناء بالأحذية مهمة شخصية خاصة.
فتحية للعادات السوفياتية.