إدوارد موحا.. من مستشار ملكي.. إلى متشرد من ضحايا البصري
عبد الرحيم التوراني
اعتاد أصدقاء إدوارد موحا، وهم صاروا قلة مع الأيام، على أحاديثه المتصلة بموضوع الصحراء المغربية إلى درجة الهوس والانشغال. شخصيا، من جانبي، كلما التقيت بصديقي موحا، أو تهاتفنا تليفونيا، يبادرني بعد السؤال عن الأحوال الخاصة، إلى السؤال عن الأوضاع في الصحراء. وتكون العبارة التقليدية لديه هي : “ما الجديد؟”، ما أخبار سياسة جارتنا الجزائر المرتبطة بتطورات وملابسات القضية. حديثه دوما، كما هي عادته، خليطا من العامية والفصحى والفرنسية، وكما عرفته، ينتقل بسلاسة بين مفردات هذا النسيج اللغوي، مطرزا التعبير كأنما لو كان ينتمي إلى لغة واحدة متناغمة.
قبل حوالي خمس سنوات، جاء من يبحث عن عنوان موحا، تلقيت مكالمة في الموضوع في ذلك الوقت، فاتصلت بموحا قائلا له: “أبشر.. ربما جاءك الفرج، إنهم يسألون عن عنوان سكنك”، رد علي: “ومن يعرف؟ أنا لا أدري.. أنا رجل من دون عنوان”. كان لحظتها في حالة اكتئاب حاد، هو الذي يعاني من ضغط الدم ومن الربو. ثم ابلغني ان شخصية مهمة في أعلى الدولة اتصلت به، وطلبت منه نسخا من المؤلفات التي أصدرها. لكن موحا لا يملك ولا صفحة واحدة منها. واعتبرت انا إنه استحقاق متأخر سيستفيد منه مغبون ضمن مسلسل الإنصاف والمصالحة المتواصل بأشكال وصيغ جديدة؟ ولكن المتصل اختفى ولم يعرف ما هدف الاتصال. رغم ان الامر جعل موحا متشائلا لعل وعسى يعاد الاعتبار الى هذا الرجل وتنتهي معاناته.
لم تستطع الأعوام والسنون أن تنال من عنفوان إدوار موحا ومبادئه ومن حماسته الوطنية، بل لم تقهره حتى ظروفه المعيشية الدونية، التي يصعب على غيره ممن تمرس على مستوى مرفه من العيش التكيف معها. فبعدما بلغ إدوارد موحا إلى مرتبة سامية، كان فيها لسنوات مستشارا لجلالة الملك الراحل الحسن الثاني، الذي عينه عاملا بوزارة الداخلية في أوائل سنة 1987، وكان خلالها مرجعا مهما في موضوع قضية الصحراء المغربية، خصوصا على مستوى التدبير الاستراتيجي العسكري، إذ مارس إدوارد موحا حرب العصابات في الصحراء زمن الاستعمار الاسباني، وكان مؤسس أول حركة تحرير في الصحراء، حركة (“الموريهوب”/ الحركة الثورية للرجال الزرق)، قبل أن يؤسس أحد أبناء عمومته (المصطفى الوالي السيد) حركة البوليساريو، وبعد التحاق إدوارد موحا بأرض الوطن أسس “الأوزاريو”، منظمة الصحراويين المنحدرين من الصحراء، ثم جبهة التحرير والوحدة. ويعد إدوارد موحا أول صحراوي ألقى خطاباً أمام الأمم المتحدة باسم الصحروايين. كما قام بكتابة عدد من المؤلفات والكتب باللغة الفرنسية في موضوعه الأثير والمفضل، قضية الصحراء المغربية، استقبلتها كبريات دور النشر في باريس ومدريد. نذكر منها:
– بوح صحراوي، منشورات ألبين ميشيل، باريس، 1983. – مرتزقة لبلد وهمي، منشورات ألباتروس، باريس، 1984. -الصحراء الغربية وحرب بومدين القذرة، منشورات جان بيكوليك، باريس، 1990. – العلاقات الإسبانية المغربية، منشورات ألكازارا، مالقا، 1992. – العلاقات الفرنسية المغربية، منشورات جان بيكوليك، باريس، 1995.
ومن ضمن الكتب التي ألفها إدوارد موحا كتاب نشرته دار نشر فرنسية بباريس. كرسه بالكامل للرد على الكاتب الفرنسي جيل بيرو صاحب كتاب “صديقنا الملك”، وهذا الكتاب الذي كان أثار حفيظة الملك الراحل. ويروي أحد الحاضرين في مجلس العاهل الحسن الثاني، وكان من بينهم الجنرال عبد الحق القادري والجنرال حسني بنسليمان، أن الملك لما قدمت له النسخ الأولى من كتاب إدوارد موحا الذي يرد فيه على جيل بيرو، التفت إلى مجالسيه منشرحا، وقال لهم بالفرنسية ملوحا بالكتاب:
– “ها هو مغربي حر…”.
ولا يزال العديد من الطلبة المؤتمرين في إطار مؤتمر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، يتذكرون المناشير التي وزعت عليهم وهم مجتمعون في كلية العلوم التي احتضنت المؤتمر الخامس عشر لمنظمتهم، وكانت مناشير لمنظمة “الموريهوب”، لكن رياح المؤتمر كانت تهب في اتجاه آخر.
سريان انتقام إدريس البصري من قبره:
لكن، كيف انتقل رجل مثل محمد الركيبي، وهذا هو اسمه الحقيقي، من الأدوار العليا إلى “البادروم”؟
كيف يمكن للمرء أن بستسيغ حكاية أن واحدا كان مستشارا لجلالة الملك، يصبح متشردا في البلاد، يعيش في غرفة صغيرة، بشقة في حي شعبي يتقاسمها مع بسطاء ومهمشين آخرين؟
كيف؟ والدولة تؤمن تقاعد البرلمانيين والوزراء حتى لا يواجهوا متاعب الحياة بعد مغادرتهم مناصبهم العليا والسامية؟
من أجل الحصول على جواب شاف، انتقل قبل ثلاث سنوات أحد أكبر مخرجي الأفلام الوثائقية في العالم، المخرج الفرنسي جان بيير كرييف، مقتفيا أثر إدوارد موحا، بعدما قام صاحب هذه السطور بنشر مقال على صفحتين في إحدى الأسبوعيات، حول إدوار موحا، وكان العنوان من حجم الإثارة: “قصة إدوارد موحا وما جرى له، أو حكاية عن الجحود والغبن المخزني: من مستشار لجلالة الملك إلى فقير يكتري غرفة مع الجيران”.
وصل المخرج الفرنسي برفقة طاقم التصوير إلى الحي الشعبي البيضاوي في يوم ربيعي، وعلى مدى أسبوع تقريبا، استجوب وسجل وصور مع المستشار الملكي القديم، ما بين سطيحة المقهى الذي ألف موحا أن يحتسي فيه فنجان قهوته الصباحية، والأزقة القريبة من سكنه، وشوارع وسط المدينة، خاصة شارع محمد الخامس قرب السوق المركزي.
وبعدما كان إدوارد موحا وعد جان بيير كرييف بالسماح له بتصوير سريره بالغرفة المعتمة والمغبرة التي يقيم فيها، سيتراجع، رغم إلحاح الفرنسي. إن كبرياء الصحراوي لا تفارقه حتى النهاية، لذلك يحافظ موحا على هندامه ولا يتنازل عن كرامته. وقد انتبه سكان الحي الشعبي كيف أن جارهم الطارئ، الرجل الصامت، الأسمر، الطويل القامة، هو شخصية غير عادية. لكن إدوارد موحا ظل متكتما حول سره، كان يسهب ويطيل لما يسأل في الموضوع الجزائري وقضية الصحراء، يتكلم عن صداقاته وعلاقاته بالنخبة الحاكمة هناك، من بومدين وبوضياف وبوتفليفة إلى الجنرال الجزائري عبد القادر لمساهلي المسؤول عن البوليساريو. يتكلم بإسهاب عن صلاته بمنظمة الألوية الحمراء وبمنظمة إيتا الاسبانية وبالجيش الإيرلندي الجمهوري وبالحزب الشيوعي الاسباني، وغيره من الأحزاب ومن الحركات الثورية التي عرفتها أوروبا في سبعينيات القرن الماضي، يردد أسماءه الحركية، مثل أحمد رشيد والأسماء الأخرى التي تحرك بها عبر المطارات. لكن عند الوصول إلى ما جاء الفرنسي ربما من أجله، يتردد وتتحول فصاحته الفرنسية إلى تمتمة، ويغلق المنافذ والموضوع بسرعة. وربما شكل هذا أحد الأسباب التي جعلت الفيلم الوثائقي لم يبث إلى حدود الآن، على القناة الفرنسية – الألمانية “أرتي”، كما وعد المنتج والمخرج جان بيير كرييف.
ولعل التقرير السري الذي أعده أدوارد موحا وسلمه للجهات العليا، في نهاية العقد الأخير من سنوات القرن الماضي، لما كان يعمل مع أجهزة الدولة، هو السهم الغادر الذي ارتد إلى صدره، وهو تقرير بالفرنسية في أقل من عشر صفحات، يتحدث عن بعض تجاوزات أقوى وزير في عهد الحسن الثاني، وعن استغلال أحد أبناء إدريس البصري لنفوذ والده، ومتاجرته في الممنوعات.
أول رد فعل لإدريس البصري كان التشطيب على اسم موحا من قائمة عمال وولاة صاحب الجلالة، رغم أن التعيين ملكي وبظهير، وبكلمة ملكية خاصة، ألقاها الملك الراحل أمام عامل جلالته محمد الركيبي، منوها بقدراته وجهوده، وهي الكلمة التي لا زالت مدونة بطيات مجلدات “انبعاث أمة” في الخزانة الملكية.
قبل قناة “أرتي” اهتمت القناة القطرية “الجزيرة” بقضية إدوارد موحا، بهذه الصفة سيستقبله الإعلامي اللبناني سامي كليب ليستضيفه في برنامج شهير كان بعنوان “زيارة خاصة”، لكن موحا فضل أن يتكلم أساسا عن قضية الوحدة الوطنية، مهملا الكلام عن مآله وانكساراته. على الرغم من اهتمامه بتطورات الوضع في الصحراء، إلا أنه لا ينسى أحداث الريف، مستذكرا تاريخهم النضالي بالتوضيح إنه خلال السنوات التي سبقت المسيرة الخضراء وما بعدها أيضا، كان له شرف القتال على أرض الصحرء ضد أعداء وحدتنا الترابية، إلى جانب ضباط سامين وضباط الصف والجنود الأشاوس لجيشنا الملكي. كان من بين هؤلاء عدد كبير من المتحدرين من منطقة الريف.
“في المعارك التي شهدتها أقاليمنا المسترجعة كنت شاهدا على بطولات جنودنا من مختلف مناطق وجهات المغرب، ومن ضمنهم جنودنا “أرْيافة”، وكيف كانوا يشرعون صدورهم لرصاص العدو البوليساريو، دفاعا عن وحدة المغرب واسترجاع صحرائنا الحبيبة”.
ولا يهمل موحا الإشارة إلى “الدور البطولي والمقدام، الذي قام بها إخواننا من جهة الريف، رجالا ونساء في مختلف مراحل الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال، بل إن جيش التحرير الوطني تم تأسيسه خلال فترة الحماية في منطقة الريف، وكان يتم إعداده وتدريبه في الريف، ومن بين قادته الكبار مجاهدون من الريف. “لهذا لا يليق بنا، على الإطلاق، أو بأي أحد مهما كان، أن يرمي مواطنينا في الريف بالانفصال، ويتهمهم باطلا بمحاولات تمزيق الوحدة الوطنية”.
لطالما نظر الي صديقي من وراء نظارته السميكة، التي تشي بامتلاء عينيه بحمرة خفيفة، سببها ضغط الدم، وكأني به يفتش عن مدى تأثير ووقع حديثه في نفسي. يشعل الغليون المحترق، يأخذ منه نفسا طويلا، وبعد أن تتلاشى سحابة الدخان المتموجة فوق وجهه ورأسه، يعود إليه بعض الهدوء. يقول لي ملخصا واقع الحال:
– “كم من جرح صغير إذا ترك تحول إلى دمامل أكبر قد تستعصي على العلاج. أنا مع الحراك الشعبي، لكن دائما في إطار واضح تماما، إطار احترام المؤسسات، وضمن شروط الحوار وأسس ومتطلبات العملية الديمقراطية”.
ويشدد على اهمية التعامل مع كل ما يحدث بيقظة وانتباه وذكاء سياسي، وأن نكون إيجابيين ومتفائلين أكثر، فرب ضارة نافعة، “فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا”، (القرآن الكريم).
سنوات طالت وإدوارد موحا يتنظر إعادة الاعتبار إليه، فصاحب أم الوزارات رحل وانتهى، ولا معنى لسريان انتقامه ضد خصومه من الأحياء، حتى وهو في قبره.