أوراق من دفتر منسي: أوزبكستان.. صمود شعب تمرد على السوفيات

أوراق من دفتر منسي: أوزبكستان.. صمود شعب تمرد على السوفيات

عبد العلي جدوبي

مكنتني رحلة استطلاعية قادتني إلى مدينتي “طشقند” و”سمرقند”، انطلاقا من موسكو العام 1987، من الوقوف عن قرب على بعض أهم المآثر الحضارية للمدينتين، والتي تعود إلى حقب تاريخية سحيقة، ومكنتني هذه الرحلة أيضا من التعرف على بعض مظاهر الحياة لدي الشعب الاوزبكستاني.. 

 عند وصولي إلى طشقند التابعة لجمهورية أوزبكستان، ذات الصبغة الفيدرالية ضمن الجمهوريات السوفياتية السابقة، أبهرتني تلك المعالم الحضارية العريقة الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، إذ تعد طشقند واحدة من أهم وأقدم الأماكن التي استوطنها الإنسان، وهي تتجدد باستمرار مند 22 قرنا – كما حددها المؤرخون-، وبالرغم من تعرضها لنكبات عديدة، فقد انبعثت من جديد، وبنت حضارتها رغم كل العراقيل والمضايقات التي تعرضت لها عبر مراحل حكم السوفيات..

وحسب التاريخ المكتوب لأوزبكستان، فإن هذه الجمهورية تعاقبت على حكمها أمبراطوريات وسلالات، إلى أن فتحها العرب المسلمون في القرن الثامن الميلادي، واعتنق الإسلام غالبية سكانها.

ولم تتخلص أوزبكستان من كل أشكال المضايقات من طرف الكرملين، إلا بعد موت ستالين، حيث تنفست المؤسسات الأوزبكستانية الصعداء، واصلت عمليات البناء والتشييد، انطلاقا من حضارة ظلت شامخة على مر العصور والتي تمردت على الاستبداد الذي مارسته حكومة موسكو ضدها..

 لقاءات في طشقند

 في طشقند التقيت بالدكتور الشيخ عبد الغني عبد الله إمام المسجد الكبير، ويتولى رئاسة تحرير مجلة (المسلمون) والتي تصدر بعدة لغات وتوزيع في عدد من بلدان العالم الاسلامي..

حديثي مع الدكتور عبد الغني عبد الله تمحور حول قضايا المسلمين في الجمهوريات الإسلامية السوفياتية، قال بأن المدن في جمهورية أوزبكستان، أخذت طابعا إسلاميا في سمرقند وطشقند وخورازم، وهي مدن أنجبت العديد من الأئمة والعلماء، كالبخاري والنسايي والزمخشري والترمدي والبيروني وغيرهم من العلماء والمفكرين، كما أن البلاد شهدت في الآونة الأخيرة حركة سياحية نشيطة، وباتت وجهة رئيسية لمحبي الآثار التاريخة الاسلامية. 

وبخصوص علاقات الشعوب الإسلامية بالكرملين، قال الدكتور عبد الغني إنها كانت علاقات تاخد منحى غير ودية ، لكنها ليست تشكل تهديدا لنا.. هذه العلاقات – يضيف المتحدث- كانت موضوعا لعدد من الباحثين ممن أصدروا مؤلفات حول قضايا المسلمين في الاتحاد السوفياتي، مع أن هناك تقصير في الإعلام العربي بهذا الموضوع!

في اليوم الموالي كان لي موعد مع وزير الثقافة في حكومة أوزبكستان السيد منصوروف. قال لي في مستهل حديثه حول طشقند اأها المدينة التي تؤرخ لعظمة رجالها العلماء، المدينة التي تحكي عن ماضيها التليد، توثق لحاضرها في الثقافة والفنون وفي فن العمارة، وأيضا من خلال منجزات في البنية التحتية للبلاد، ويضيف الوزير أن طشقند تعد سابع مدينة تضم شبكة مترو سيد العام 1977، بمشاركة العديد من المهندسين والفنانين التشكيليين، فباتت تبدو كتحفة فنية بالمدينة.. كما أنها المدينة التي تضم العديد من المآثر التاريخية الهامة، والتي صنفتها منظمة اليونسكو ضمن التراث العالمي..

 متاحف .. مسارح تزين فضاء المدينة

 خلال زيارتي إلى المتحف الحكومي للآداب، أخبرني مدير المتحف السيد رحمانوف أن مدينة طشقند تتوفر على 15 متحفا، وعلى العديد من المسارح المنتشرة في الأحياء الرئيسية، ليصل عددها إلى تلاثماية دار للعرض. وهناك العديد من المكتبات والجامعات.. 

ويحتوي المتحف أيضا على 17 ألف مخطوطة، وأزيد من خمسين ألف كتاب..

 وقادني السيد رحمانوف إلى زيارة معهد الاستشراق، التابع لأكاديمية العلوم، والذي يضم العديد من المخطوطات الهامة، وتتصدر أوزبكستان دول العالم من حيث توفرها على العديد من المخطوطات الناذرة؛ وبالمكان نفسه توجد جامعة طشقند الإسلامية، ومعهد الإمام البخاري، والمكتبة الوطنية.

 أما عادات وتقاليد السكان فهي مزيج من حضارات الأوزبيك، تختلف من منطقة لأخرى.. ومن الأمور التي تدعو للتأمل تلك الخطوط العربية المكتوبة على جدران الأضرحة والمساجد والمآثر التاريخية؛ طلبت مني السيدة المرافقة واسمها “تقسيم تسمير”، الدكتورة في علم اللسانيات، وهي تنتسب إلى أكاديمية العلوم؛ طلبت مني أن أقرأ لها إحدى الآيات القرآنية المكتوبة بخط يبدو أنه قريب إلى الخط المغربي، وكانت غاية في الانشراح لما قرأت لها الآيات القرآنية، حيث دونتها في مذكرتها  الصغيرة..  

سمرقند، مدينة تختال في لون الذهب

 وجهتي الثانية في هذه الزيارة كانت مدينة سمرقند، فعلى امتداد الطريق عند مدخل المدينة، تمتد حقول القطن وأراضي زراعية شاسعة.. من فوق ربوة عالية، تظهر مآثر المدينة في منظر رائع. أعمدة حجرية حمراء تزيدها أشعة الشمس لمعانا ورونقا وجمالا..

 المدينة تبدو وقت غروب الشمس وكأنها تختال في لون الذهب.. عند تجوالي بالمدينة، أثارت انتباهي مجموعة من الأبواب القصيرة لمدرسة، يدخلها الطالب منحنيا! وفهمت الغاية من ذلك الانحناء الذي يعني احترام المدرسة والمدرس وتحية لهما قبل الدخول..

 الطالبة “فرمان ياشار” قالت لي إن الأوزبك حافظوا على هذا التقليد وعلى كل العادات، مشيرة إلى أنه لايستطيع أحد مهما كان تغيير عادات وتقاليد وطقوس شعب الأوزبيك..في إشارة إلى الكرملين.

 مطعم “مغولي”!! 

خلال فترة الغذاء، اقترح علي صديقي المرافق “شادي ديار” الذهاب إلى أحد  المطاعم وسط المدينة، ما أدهشني شكل المطعم من الداخل، وكأنه قصر مغولي! هناك أفرشة لفرو الحيوانات موضوعة على الأرض، ورؤوس حيوانات محنطة تطل عليك من كل زوايا المطعم.. طاولات خشبية طويلة، وبالسقف تتدلى أكوام من الثوم! وسلة زهور فوق كل طاولة.. الطبق الرئيسي مكون من الأرز وقطع الجبن وقطع صغيرة من اللحم وتوابل محلية مختلفة.. موسيقى وكأنها منبعثة من جهاز به خلل في البث!! سألت “شادي يارا” عن نوعها؟ أجابني ضاحكا بأنها موسيقى “مستوردة “.. وأضاف: لدينا موسيقى محلية رائعة ألفها الرواد الموسيقيون القدامى.. وهناك أيضا نماذج متعددة من أنماط الموسيقى العابرة، عبر الأشرطة المسجلة القادمة من كل حدب وصوب من خارج أوزبكستان..

 بالشارع الرئيسي للمدينة، هناك مطاعم وحانات على غرار الطراز الأروبي، تقدم بالإضافة إلى الوجبات من الأطعمة، وصلات موسيقية يقدمها مغنون، تتخللها لوحات من الرقص على النمط الشرقي.. 

عند مدخل هذه المطاعم /الحانات تستقبلك سيدة امتلكت جمالا أخاذا، تأخذك إلى داخل المكان لاختيار المكان المناسب لك.. موسيقي عازف آلة البيان تملأ فضاء المطعم بأنواره الخافتة، تضلله الشموع..

 أحد الأدباء كان على صواب حينما وصف سمرقند بالزهرة اليانعة التي يعبق أريجها فضاء المدينة..

إشارة : انضمت أوزبكستان نحو 200 سنة كجزء من الامبراطوريات الروسية، ثم انتقلت بعد ذلك إلى جمهوريات الاتحاد السوفياتي، قبل أن تظهر كدولة مستقلة عندما انهار الاتحاد السوفياتي العام1991، وهي ذات نظام علماني ديمقراطي، يحترم حرية التعبير وممارسة العبادات، كما ينص عليه دستورها.

Visited 12 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد العلي جدوبي

صحفي مغربي