عندما طرد محمد اليازغي “الأم فاما” من الحزب

عندما طرد محمد اليازغي “الأم فاما” من الحزب

عبد الرحيم التوراني

تحل بعد أيام (19 مارس 2022) الذكرى الثامنة عشرة لرحيل المناضلة المغربية فاطمة اعزاير، المشهورة باسم “أمي فامة”، والتي كان الجميع يناديها بـ”أمي”، كما كانت هي تنادي المناضلين الشباب بـ”ابني” و”ابنتي”. وحقا، تجسدت في هذه المرأة الاستثنائية، التي لم ترتبط بزواج ولم تخلف أبناء، كل معاني الحنان والأمومة الصادقة، مع الشجاعة والإقدام والثباث والصمود. 

منذ صباها انخرطت “فامة” في خلايا المقاومة المسلحة من أجل طرد المستعمر الغاشم، وتعرضت للاعتقال والتنكيل. بعدها انضمت لحزب الاستقلال وارتبطت بجناحه اليساري، الذي أسس قادته الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بزعامة المهدي بنبركة والفقيه محمد البصري، فعرفت من جديد التوقيف والسجون والتعذيب. 

في سنوات الرصاص كرست “فامة” كل أوقاتها وجهودها لحشد التضامن مع المعتقلين السياسيين ومساعدة أسرهم وأبنائهم. كانت تجول الدروب والأحياء البعيدة والمدن والقرى من أجل هذه الغاية الإنسانية النبيلة، ومن كثرة تنقلاتها بين البيوت، أهملت ونسيت أن تؤسس بيتا لها، حتى اشتهرت بقولها “أنا امرأة تسكن جلبابها”. واستطاعت “الأم فامة” أن تنجز ما عجزت عنه المؤسسات والهيئات المنظمة، لما مكنت العديد من أبناء الشهداء والمعتقلين السياسيين من متابعة دراستهم حتى نجح جلهم في نيل مستويات تعليمية وشهادات دراسية لولوج سوق العمل وكسب حياته.

 أما في العمل الحزبي، فظلت “الأم فامة”، رغم تقدم سنها امرأة شابة الروح والفكر، تشجع دائما المناضلين في الشبيبة الاتحادية وفي التنظيمات اليسارية عامة، واستمرت امرأة مناضلة مبدئية لا تعترف بنهج “السياسات التكتيكية” التي تشعر أنها تحيد عن المبادئ التي استشهد في سبيلها الشهداء، وبالإيمان بها زج بالمناضلين في الزنازن والسجون والمعتقلات السرية وفي المنافي. لذلك ستجد المناضلة “فامة” نفسها معرضة للطرد من صفوف حزب الاتحاد الاشتراكي، لكونها نطقت بكلمة حق مساندة لمن اتهمتهم القيادة الحزبية بالانتماء لتيار “الاختيار الثوري”، الذي أسسه الاتحاديون بالمنافي “من أجل تصحيح المسار الذي تحول إليه الاتحاد بدءا بتغيير الاسم وتقديم تنازلات سياسية كبرى، على رأسها ترك المناضلين أسرى لدى النظام والسماح في المنفيين، والاكتفاء بالشعارات”.

كانت قرارات الطرد والإبعاد هاته مقدمة وتمهيدا لقرار أكبر وأخطر، تم الإفصاح عنه في 1983، بطرد من كانوا يسمون بجماعة عبد الرحمان بنعمرو وأحمد بنجلون، من أسسوا لاحقا حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي.

وللإشارة، قد خصصت مجلة “الاختيار الثوري” افتتاحية عدد 44 الصادر بمارس 1989، لقضية طرد “الأم فامة” من الحزب (نشرت “السؤال الآن” نص الافتتاحية ضمن “ذاكرة ووثائق في وقت سابق).

 وكان طرد هؤلاء المناضلين مقدمة لقرار أكبر وأخطر، تم في ماي 1983 بإبعاد من كانت الصحافة تطلق عليهم “جماعة عبد الرحمان بنعمرو وأحمد بنجلون”.

***

واستجابة لتساؤلات وردت من بعض القراء والمتابعين، بشأن تفاصيل “واقعة طرد الأم فامة”، اتصلنا بمناضل ممن شمله قرار الحزب المشار إليه، وهو الرفيق يزيد البركة، بصفته كان قريبا أكثر من “الأم فامة” منذ صغره، وظل على صلة بها حتى رحيلها. وقد أبنها في حفل ذكراها الأربعينية بكلمة مؤثرة.

 يقول يزيد البركة لـ”السؤال الآن”: 

“كانت الكتابة الاقليمية قد حضرت  خمسة أسماء أعضاء في الكتابة الاقليمية للطرد بتحريض من المكتب السياسي، بعد أن كان هؤلاء يعترضون على تطبيق قرار سابق للقيادة الحزبية، يقضي  باتخاذ اجراءات ضد الشبيبة، تارة بالطرد، وتارة أخرى بإغلاق المقرات أمامهم. وكانت التهمة التي قدمتها الكتابة اللإقليمية هي الانتماء لمنظمة “الاختيار الثوري”، التي تأسست خارج المغرب، وكان أعضاؤها لم يوافقوا على تغيير اسم الحزب (من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات االشعبية)، ولم يشاركوا في المؤتمر الاستثنائي في يناير 1975. 

وكان هذا الاتهام قد جرى تداوله في الكتابة الإقليمية، لكنه لم يتم الحسم في الادعاءات. غير أن الكاتب الإقليمي مع بعض الأعضاء، دعوا إلى اجتماع طارئ للمجلس الإقليمي، ليحسم في الأمر، وعرضوا عليه الموضوع. وكان النقاش جاريا، هناك من يتهم، وهناك من يعتبر هذا الاتهام لا يستند على أي أساس، ويرى أنه يتعارض مع قوانين الحزب”.

 وعن ملابسات اتخاذ القرار يضيف البركة: 

“الذي حصل، هو أن إحدى المناضلات من أعضاء الكتابة الإقليمية كان اسمها مدرجا ضمن لائحة المتهمين بالانتماء للاختيار الثوري، قدمت مداخلة انفعالية، قالت فيها: “نعم، نحن من الاختيار الثوري، ونفتخر بالسير على درب المهدي بنبركة ومبادئه”. وكانت تعني  خط المهدي بنبركة الذي يسمى في الأدبيات الحزبية بـ”لاختيار الثوري”، وليس المنظمة أو التيار، على ما أظن، وهذا ما فهمه معظم الحاضرين من أعضاء المجلس الإقليمي. غير أن أصواتا طغت على النقاش بغوغائية وصيحات عالية على أن المتدخلة اعترفت  وشهدت على نفسها وعلى رفاقها. 

 – وماذا حدث إثر ذلك؟

– حينها مباشرة، اعتبر من كان يترأس الاجتماع، وهو الكاتب الإقليمي، بأن “الاعتراف كاف وهو سيد الأدلة، وأن المجلس الإقليمي يوافق على الطرد”. لكن اسم “الأم فامة” لم يكن ضمن لائحة المتخذ في حقهم القرار؟ 

– نعم، كانت “الأم فامة” جالسة ضمن الصفوف الخلفية، وبقيت طيلة أطوار الاجتماع صامتة تتابع النقاش، إلى أن تم النطق بالطرد، هنا نهضت “فامة” معترضة على القرار الجائر، قائلة: “إنكم أنتم من يجب أن تطردوا من حزب المهدي، وأنتم من تستحقون التوقيف ليس هؤلاء.. أنا أعرفهم واحدا واحدا منذ أن كانوا صغارا”؟  وسبب رد فعل “الأم فامة” القوي والمثير، هو أنها فهمت أن الضجة الغوغائية يقصد من ورائها الطعن في الاختيار الثوري للشهيد المهدي بنبركة.  على إثر هذا الاحتجاج من “فامة”، تقدمت عضو من الكتابة الإقليمية آمرة الكاتب الإقليمي بإضافة اسم “الأم فامة” إلى قائمة الأعضاء المطرودين، وكانوا خمسة أعضاء. 

ويتابع اليزيد البركة بالقول:

 “هكذا أصبحت “فامة” مطرودة معنا بسبب  جملة في المجلس الاقليمي”.

وجوابا عن سؤال:  هل تعتقد أن السبب يكمن فقط في جملة احتجاجية نطقتها “فامة”، خصوصا وأن أصابع الاتهام كانت توجه لعضو المكتب السياسي المكلف بالتنظيم محمد اليازغي، بأنه هو من كان يحرض على التخلص من المناضلين الذين لا يسايرون “خطه السياسي”؟ 

أوضح اليزيد البركة: “في الحقيقة هذه الجملة كانت مبررا للاستهلاك الحزبي آنذاك”

ثم يستدرك: 

“لكن عمق الموضوع هو أن قيادة الحزب قررت تغيير الخط السياسي من دون أن تتحمل ما تركه الخط السياسي السابق من آلام وفواجع، خاصة بعد اغتيال الشهيد عمر بنجلون. وكانت “فامة” تحرجهم، وتلح عليهم في تقديم الدعم لأسر المعتقلين السياسيين التي عاشت مآسٍ، وأن يلتفتوا إلى تشريد أبناء الكثير من تلك العائلات، خاصة في المناطق البعيدة عن محور البيضاء- القنيطرة، وكان عدد من الحزبيين يتهرب من “فامة” ويغلق باب منزله دونها.  ولكن رغم قرار الطرد، فقد حظيت “الأم فامة” بتعاطف كبير وصيت واسع حتى خارج الحزب من باقي اليسار، وحتى من شخصيات ديمقراطية وإنسانية، كانت لا تتردد أبدا في تقديم العون، وقد استطاعت “فامة” أن تكون بجانب الكثير من أبناء الشهداء، حتى تحصلوا على قدر من التعليم يؤهلهم أن يعملوا”.  

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *