محمد البحتوري: تفاصيل صغيرة
المصطفى اجماهري
في 26 أبريل 1985 توصلت برسالة خطية من ذ. إدريس الناقوري، بصفته الكاتب العام لاتحاد كتاب المغرب (مازلت أحتفظ بها)، يخبرني فيها بقبول طلب عضويتي لاتحاد كتاب المغرب. وكنت إلى حدود تلك السنة قد راكمت عددا لا بأس به من الكتابات، من بينها صدور مجموعتي القصصية “الحارة” ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق، فضلا عن مساهمتي بالكتابة في عدد من المجلات الأدبية المغربية والعربية.
وعليه، فقد اعتبرت أن قبول عضويتي جاء وقتها لترميم قرار سابق مجحف يعود لسنة 1983 كان قد قضى في شأن طلبي بالتأجيل.
لم أكن الوحيد في حالة التأجيل، إلا أنني شعرت ببعض الحيف، خاصة وأن زملاء أتقارب معهم في السن والتجربة قبلت عضويتهم آنذاك. والحال أن مسألة العضوية زمنئذ لم تكن تخضع فقط لشروط أدبية خالصة، بل كانت تتأثر بجوانب ذاتية وأخرى ذات طابع سياسي، بالنظر إلى حالة الاستقطاب الحادة الحاصلة وقتها في صفوف الكتاب والمبدعين.
في ذلك الوقت من نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات لم يكن قد أنشئ بعد فرع لاتحاد كتاب المغرب بالجديدة. فكنا نحن فقط ثلاثة أدباء شباب بهذه المدينة الصغيرة نجتمع في مقهى “لاماركيز” المقابلة للمسرح البلدي، لمناقشة إنتاجاتنا ومتابعة المستجدات الأدبية عبر الملاحق وبعض المجلات الأدبية. وأقصد بالثلاثة : الناقد صدوق نور الدين، والشاعر محمد نجيم وأنا. وغالبا ما كان يلتحق بنا، حينما يسمح وقته، القاص محمد البوحتوري. هذا الأخير، وكان يكبرنا سنا، جاء من وادي زم أستاذا لمادة الفلسفة ومسؤولا إقليميا عن فرع حزب وطني. وكان كلما أتى فصل الصيف تتعزز جلستنا في المقهى بالصديق الشاعر محمد بلحاج آيت وارهام قادما من مراكش.
في تلك الظرفية تحديدا، من بداية الثمانينيات، كنت قد كتبت مقالة بمجلة “الطليعة الأدبية” العراقية حول “إبداع الشباب وهموم النشر في المغرب”، أعدت نشره في عدد من جريدة “أنوال” تحت عنوان مختلف شيء ما، واستشهدت في إحدى فقرات المقال بقولة للشاعر المغربي محمد بنيس. لا تحضرني الآن بالضبط تلك الفقرة المستشهد بها ولكنها، بصفة عامة، كانت تتحدث عن تبعية الثقافي للسياسي في المغرب. ويبدو أن تلك الفقرة بالذات المستشهد بها لم ترق بتاتا للراحل محمد البحتوري. إذ عبر لي عن عدم رضاه عنها، منوها، من جهته، بأهمية العمل الحزبي الشريف وبضرورة إسناد العمل الثقافي من طرف الأحزاب اليسارية. وقد ناقشنا الموضوع في أحد لقاءاتنا بمقهى “لاماركيز” لولا أن الصديقين محمد نجيم وصدوق نور الدين، وهما يعيشان نفس وضعيتي، قد أيدا ما جئت به في المقالة. من جهتنا اعتبرنا الموضوع منتهيا ثم افترقنا مساء ذلك اليوم البعيد، دون أن نستطيع إقناع الراحل البحتوري بوجهة نظرنا المتمثلة في حرية الكاتب في التعبير عن رأيه كما يشاء.
والذي حصل، أنه بعد مرور أيام، أخبرني الصديق الشاعر إدريس الملياني، عضو المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب وقتها، بقرار تأجيل قبولي في الاتحاد إلى وقت لاحق، موضحا أن هذا القرار اتخذ بإيعاز من “ل”. توجهت إلى مقهى “لاماركيز” وأخبرت الإخوة بما حصل. وهنا كان تعليق القاص محمد البوحتوري، والذي بالمناسبة لم يطلب يوما عضوية الاتحاد، مفاجئا لنا نحن الثلاثة. كان تعليقه بأنه فعلا كان ينتظر مثل هذا القرار وأنه في كل الأحوال تحصيل حاصل. وحينما غادر الأخوان المقهى وبقيت أنا وإياه لوحدنا حاولت أن أستجلي موقفه أكثر، فاقترح علي أن أكتب اعتذارا أتراجع فيه عن اصطفافي مع رأي الشاعر محمد بنيس، فلربما ذلك، حسب رأيه، قد يدفع عضو المكتب المركزي المذكور، ليتراجع عن اعتراضه. عندها فقط عرفت الحقيقة الغائبة: وهي أن الأخ البحتوري، بالنظر إلى علاقته الشخصية والحزبية مع “ل”، فقد أطلعه على مقالي وأثار انتباهه إلى التعليق الذي لم يرقه.
طبعا رفضت فكرة الاعتذار لأنها بلا معنى، وأيضا باعتبارها تدخلا في حريتي الشخصية. وأذكر أنني قلت للأخ البحتوري:
– على كل حال، أنا لست المهدي بنبركة ولا علال الفاسي، فلماذا تعطون لرأيي كل هذه الأهمية.
في صيف سنة 1983، سألتقي صدفة بعضو المكتب المركزي للاتحاد “ل” مارا أمام المسرح البلدي وسط مدينة الجديدة. انتهزت الفرصة وأثرت معه الموضوع، ببعض الانفعال من جهتي، حيث انتقدت موقفه غير الموضوعي في اجتماع المكتب. بدا عليه بعض الاستغراب في البداية، ثم سرعان ما أكد لي أن السبب فعلا هو الرأي الذي عبرت عنه. ولحظتها تذكرت ما تعلمته في درس الفلسفة للأستاذ سالم يفوت من ازدواجية الوعي لدى كثير من المثقفين والسياسيين المغاربة حيث يحدثك البعض بالساعات عن الحداثة والتقدمية دون أن تجد لها صدى في سلوكه اليومي.
أما رد الفعل الثاني من طرفي فكان أن انسحبت من خلية الموظفين التابعة للحزب المذكور، بعدما كنت أحضر لاجتماعاتها الأسبوعية كل خميس تحت رئاسة أستاذ من ثانوية ابن خلدون.
كانت تلك سحابة صيف مرت في سماء الجديدة، سرعان ما انمحت في الهواء. وتعززت حلقتنا بمقهى “لاماركيز” بأسماء جديدة من بينها الناقد الحبيب الدايم ربي، والكاتب محمد مستقيم، والشاعر عبد الرحيم كنوان وغيرهم.
نفس ما حصل لي مع الأخ البحتوري سوف يحصل، في وقت لاحق وبشكل آخر، للناقد الحبيب الدايم ربي مع الراحل. لكن يبقى القول بأن مثل هذه السلوكيات قد تحدث أحيانا في بعض مجموعات المشتغلين بالكتابة كما في غيرها من المجموعات الإنسانية. وغني عن الإشارة بأن الراحل محمد البحتوري كان قاصا مرهف الحس ومناضلا ترك بصمات واضحة في المشهد الثقافي والسياسي المحلي بمدينة الجديدة إبان السبعينيات وبداية الثمانينيات. كان، رحمه الله، شخصية مهووسة بالكتابة. يكتب قصصه القصيرة بكثير من المعاناة ويقرأها في حلقاتنا بمقهى “لاماركيز”. وكان من طبيعته أن يكتب في وريقات مختلفة الأشكال والأحجام، حتى أنه أحيانا كان يستعمل مناشف المقهى للكتابة حينما لا يجد أوراقا صالحة. تندرج متونه القصصية في تيار الواقعية الذي ساد وقتها، تقريبا، بشكل مطلق. حتى أن بعض معالم المدينة قد خلدها في قصصه كشجرة الموقف بحي “بوشريط”، وهي شجرة، ما زالت موجودة إلى اليوم، يستريح تحت ظلها العمال المياومون في انتظار إيجاد شغل. بقي موضوع الشجرة يشغل باله إلى أن كتب عنه روايته اليتيمة “شجرة النجد”.
وللأسف فإن اسم محمد البحتوري، المتوفى في مطلع سنة 2011، لم يدرج في أنطلوجيا القصة القصيرة المغربية الصادرة عن منشورات وزارة الثقافة سنة 2005. ولا نعرف لذلك سببا علما بأن بعض أسماء القصاصين الذين كان قد غيبهم الموت قبل صدور الأنطلوجيا تمت الإشارة إليهم.
كان البحتوري ينشر إنتاجاته خاصة بجريدة “المحرر” ومجلة “الأقلام” العراقية. ومن غريب الأمور التي حصلت وناقشناها معه بحدة في لقاءاتنا بمقهى “لاماركيز” تلك المتعلقة بتعامل بعض المنابر مع إبداعاته. ذات مرة، كان الراحل قد نشر قصة بمجلة “الأقلام” العراقية وحين أرسل نفس القصة لجريدة “المحرر” نشرت بصفحة “على الطريق” المخصصة للمبتدئين، وليس في الملحق الثقافي الأسبوعي. وقد تكرر الأمر على هذه الشاكلة ربما ثلاث أو أربع مرات. قلنا له يوما بشكل مباشر: “يا أخ بحتوري، لماذا لا تتصل بمحرر صفحة “على الطريق” لتضع معه النقط على الحروف حتى يراجع موقفه من إبداعك”. رغم ذلك كان الراحل يتحاشى توجيه اللوم للمشرف على القسم الثقافي بتلك الجريدة، معتبرا نفسه مثقفا يساريا ومناضلا تقدميا غايته من نشر أعماله أن تقرأ بين الشباب دونما أي اعتبار لشكليات النشر.
تلك مجرد تفاصيل صغيرة، لكن كانت لها آثار تشغل البال.