المصطفى روض: مغامرات صحفي من الحي المحمدي إلى دمشق ونيقوسيا وسانتياغو

المصطفى روض: مغامرات صحفي من الحي المحمدي إلى دمشق ونيقوسيا وسانتياغو

عبد الرحيم التوراني

المصطفى روض، صحفي من جيل الصحفيين المغاربة العصاميين، من وجدوا أنفسهم من دون تخطيط مسبق منغمرين في “مهنة المتاعب”، لما كان هذا الوصف يليق حقيقة بمهنة الصحافة في زمنها الورقي. غير أن “المتاعب” التي كانت محدقة أكثر بمن يمتهن الصحافة في مغرب “سنوات الرصاص”، يمكن إيجازها في التوقيف والاعتقال، خصوصا إذا كان يعمل بصحافة اليسار.

 نشأ روض ابن مدينة الدار البيضاء بأحد أحيائها الهامشية، يتيم الأب مع أخته الصغيرة، تحت رعاية والدتهما المكافحة التي كانت تعمل طباخة في بيت عائلة أوروبية.

 في سنة 1970 اضطر المصطفى روض للانقطاع عن الدراسة، وهو بعد في الصف الأول من المرحلة الإعدادية، ليجد نفسه مبكرا في حضن البطالة والتسكع. إلا أن طبيعته الشخصية والنفسية القلقة لم تتحمل هذا الواقع المأزوم، وجعلته تحت وطأة تساؤلات وجودية، ساقته إلى الاستغراق في التأمل حول أوضاع أحياء الصفيح المرمية خارج المدينة وعلى هامش الحياة، والتساؤل عن واقع الحرمان الذي تعيشه أسرته، مع باقي جيرانهم من سكان الأحياء الفقيرة، التي يطلق عليها “أحزمة البؤس” المنتشرة بأطراف العاصمة الاقتصادية. 

طبعه الانطوائي أدى به إلى مؤانسة الكتب والقراءة، ولم يكن له أصدقاء كثيرون كأقرانه. إلا أنه في 1972، وبفضل أحد أصدقائه من “درب السعد”، فتحت له الصدفة مجالات جديدة، أهمها أن هذا الصديق  عرّفه على أستاذته مدرسة الفلسفة بثانوية الإمام مالك، التي لمست في الشاب مصطفى استعدادا للانخراط في العمل النضالي، فعملت على استقطابه لخلايا منظمة “إلى الأمام” الماركسية السرية التي كانت تنتمي إليها، رغم كونها من طبقة غنية ومرفهة، إذ هي ابنة عقيد في القوات المسلحة الملكية. واستطاعت الأستاذة بشخصيتها الكاريزماتية وبأسلوبها التأثير في الشاب الخجول، وساعدته على بلورة وعيه السياسي والفكري، بتحويل قراءاته الأدبية والرومانسية إلى الاهتمام بالكتابات السياسية والفكرية، خاصة منها المتصلة بالثورة الفلسطينية، وبالأفكار القادمة من الصين والاتحاد السوفياتي وكوبا. 

بعد تجربته لحياة العيش بالمهجر الاسباني في كطالونيا، حيث أمضى مصطفى روض مدة عامين، (من 1973 إلى 1975)، عاد إلى المغرب ليصبح مراسلا لصحيفة “البيان” التي يصدرها حزب التقدم والاشتراكية (الشيوعي)، حيث كان مختصا في تغطية وقائع ومشاكل أحياء الفقراء والمهمشين بدور الصفيح و العمال في الحي الصناعي وبقضايا الشباب. ولا يزال المراسل مصطفى روض يتذكر أول تحقيقاته المنشورة بـيومية “البيان”، كان بعنوان: “كريان “لاحونة” تحول إلى مبغى”. وقد لاقى الموضوع تشجيعا كبيرا من مديرها و زعيم الحزب الأستاذ علي يعته، كما استفاد روض من ملاحظات وتصحيحات رئيس تحرير “البيان” آنذاك الشاعر أحمد هناوي.

 إلا أنه في سنة 1979 سيتم طرد المصطفى روض من حزب التقدم والاشتراكية. وبعد فترة تلقى اقتراحا لمراسلة أسبوعية جديدة أصدرها جناح قدماء التنظيم الماركسي السري “منظمة 23 مارس”، كانوا يستعدون للعمل الشرعي. بعد أن بادر بنشر أول مقال حول شارلي شابلن في الصفحة السينمائية التي كان يشرف عليها الناقد السينمائي الكبير نورالدين الصايل، غير أن عمله الثاني كان عبارة عن تحقيق صحفي هام حول أحد أحياء المهمشة بالعاصمة الاقتصادية. ترك التحقيق الاجتماعي صدى كبيرا على صعيد فروع منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وعلى صعيد قيادتها، ما جعلها تقترح على محمد باكريم (الناقد السينمائي) الاتصال بروض، حيث كان اللقاء بينهما فرصة توجت بالالتحاق ب”أنوال” كمراسل. وكان معروفا عن الصحفي المصطفى روض ولعه بالسينما وبالكتابة حولها، حيث انخرط بـ”نادي السينما الجديدة” الذي كانت أنشطته تنظم بقاعة سينما “بوليو” بحي عين السبع، وكان عضوا في مكتب النادي السينمائي ونائبا لرئيسه آنذاك أستاذ الفلسفة عبد السلام أزدم، وهو نفسه الفنان التشكيلي المعروف اليوم، وهي السنة التي نال فيها شهادة البكالوريا كمرشح حر، بعد انقطاع لأعوام عن الدراسة. 

كانت هيأة “أنوال” تستقبل بارتياح مقالاته وتحقيقاته الاجتماعية أيضا، فقد أنجز تحقيقا عن “دوار الرحامنة” بناحية سيدي مومن في الدار البيضاء ، حدث ذلك عام 1983، أي قبل عشرين سنة كاملة من الأحداث الإرهابية التي عرفتها الدار البيضاء في 16 ماي 2003، والتي كان وراءها شباب متطرف من هذه الأحياء الهامشية بالذات.

 ورغم حداثة التحاقه بصفوف منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، التي تصدر “أنوال”، فقد ارتأت قيادة المنظمة بعثه لاستكمال دراسته بسوريا، وقد أشرف على الموضوع القيادي طالع سعود الأطلسي، ولا ينسى روض المساعدات المادية التي قدمها له كل من المناضل محمد السمهري والمناضل محسن عيوش، قبل سفره. 

في دمشق، بموازاة دراسته بقسم الفلسفة بجامعة دمشق، وباقتراح و مساعدة من المغربي حسن الذهبي من أطر “حركة 23 مارس” المقيم بسوريا، والذي كان على صلة بأحد أطر الحزب الشيوعي العراقي، التحق روض للعمل الصحفي ضمن هيئة تحرير مجلة “الحرية” الفلسطينية. استقبله رئيس التحرير داوود تلحمي عضو المكتب السياسي، المعروف بمقالاته الشهيرة التي كان يوقعها باسم (وائل زيدان)، وتم قبوله بعد اختباره بتحرير مقال عن المغرب حظي بتقدير تلحمي، وتقدير رئيس القسم الدولي والعربي الشاعر زكريا محمد، والشاعر العراقي جمعة الحلفي. وجرى إثباث عنوان مقال روض بغلاف المجلة. 

في دمشق شغل روض مهمة الكاتب العام للالتحاد الوطني لطلبة المغرب، ومسؤولا عن خلية مغربية لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي بسوريا. كما نسج علاقات مع أبرز الهيئات الثقافية والمنظمات السياسية لحركة التحرر الوطني العربي وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية. وبذلك أصبح في قلب الديناميكية السياسية والثقافية للمشرق العربي. كما أشرف على تأسيس مكتب “أنوال” بالشرق الأوسط. حيث قام بتغطية الأنشطة السياسية والثقافية، وأنجز عدة حوارات صحفية مع قادة الفصائل الفلسطينية ومثقفيها وقطاعاتها النسائية لفائدة الأسبوعية المغربية. 

كان مصطفى روض يوقع مقالاته في “الحرية” باسم مستعار هو: “راوول مْسيليتا”، اتقاء لقمع النظام المغربي، خاصة وأن مجلة “الحرية” كانت تنشر مواضيع تصنف النظام السياسي بالمغرب ضمن الأنظمة الرجعية حليفة الإمبريالية، وتنتقد بقوة ممارسات النظام الملكي، وطبعا لم تكن المجلة توزع بالأكشاك المغربية إلا لفترات قصيرة بسبب المنع الذي كان يطالها.

أما إمضاء “راوول مْسيليتا” فهو اسم مركب، الأول تحريف للقبه العائلي، كما كان يناديه به أصدقاؤه الإسبان لما كان مقيما بكطالونيا، والثاني يعود للقب أطلقه عليه المشجعون له، لما كان يمتاز به في مراوغاته بلعبة كرة القدم. وسبق له أن وقع بهذا الاسم مرتين في جريدة “أنوال” قبل “الحرية”. 

من الأسماء التي عمل بجانبها في المكتب المركزي لمجلة “الحرية”، الكائن بحي المزرعة قرب ساحة عرنوس المحاذية لحي الصالحية، والتي منها يتفرع شارع المهدي بن بركة المؤدي إلى حي أبو رمانة الراقي، يذكر روض أسماء الشعراء غسان زقظان، وزكريا محمد، وراسم المدهون، والروائية ليانة بدر، والروائي والكاتب العراقي فاضل الربيعي، والشاعر جمعة الحلفي، والكاتب داوود تلحمي، والسوسيولوجي جميل هلال، و سامر عبد الله، وتيسير خالد، ومحمد مشارك، و هبد الهادي الشروف. و من المتعاونين: الشاعر السوري ممدوح عدوان، والشاعر العراقي سعدي يوسف، والناقد فيصل دراج، والمفكر هادي العلوي، والدكتور عبد الحسين شعبان. و كان ياسر عبد ربه الأمين العام المساعد السابق هو المسؤول السياسي عن القطاع الإعلامي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.

 في دمشق أقام مصطفى روض في ثلاثة أمكنة، بالحي الجامعي، وبمنزل المفكر سلامة كيلة في حي المهاجرين، وكيلة هو ابن شقيقة المفكر ناجي علوش والذي رافقه روض لفترة، وبمنزل بمخيم جرمانة، وضعه رهن إشارته صديق فلسطيني. 

ولأن “الحرية” كانت تتم طباعتها في قبرص، فقد تولى روض فترة مهمة توصيل أفلام الطباعة إلى المطبعة في نيقوسيا، بسبب جواز سفره المغربي، الذي يتيح له السفر من دون ترخيص من السلطات السورية، كما كان مفروضا على الفلسطينيين. رغم ذلك لم تخل أسفار روض القبرصية من مشاكل مع البوليس السوري ناتجة عن خلافات النظام السوري مع منظمة التحرير الفلسطينية. 

بعد أربع سنوات، في 1988، وباقتراح من محمد الحبيب طالب، القيادي في منظمة العمل، سيعود روض إلى المغرب لكنه لم يستطع الانضمام لهيأة تحرير جريدة”أنوال” بسبب وضعيتها المالية، وظل فترة يعاني العطالة، غير أنه في نفس العام، استثمر لقاءه بالشاعر الفلسطيني أحمد دحبور في مدينة أكادير، ليسلمه رسالة إلى صديقه جميل هلال مدير الدائرة الإعلامية لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيس مجلة “الفكر الديمقراطي”، الذي ما أن قرأ رسالته، حتى تأثر بمضمونها و بعث له فورا عقد عمل كمراسل للمجلة من المغرب، و بأجر  مقدم لمدة ثلاثة أشهر قبل مباشرة العمل، واستمر يعمل فيها إلى أن توقفت المجلة بعد تداعيات حرب الخليج.  

غير أن روض لم يعان طويلا من العطالة هذه المرة، إذ التحق بـ “أنوال” من جديد باقتراح من الكتابة الوطنية، وعاد لينشر تحقيقاته ومقالاته في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والقومية والبيئية والهجرة والحوارات إلى أن توقفت الجريدة في أعقاب الانشقاق الذي وقع داخل المنظمة صيف عام 1996.    

 في سنة  2011 سيخوض روض تجربة حياتية جديدة، لم تكن بوازع مغامرة صحفية جديدة، بقدر ما كانت في البداية فكرة لمشروع فتح مطعم يقدم وصفات من المطبخ المغربي والعالمي في دولة الشيلي بأقصى أمريكا اللاتينية، التي سافر إليها باقتراح من صديقه عبد القادر الشاوي. بعد حوالي خمسة أشهر من الإقامة بالعاصمة سانتياغو، لم يجد روض شريكا لتحقيق مشروعه، وسيتلقى عرض عمل بـ”مركز محمد السادس لحوار الحضارات” بمدينة كوكيمبو شمال الشيلي، وذلك بفضل الأستاذ الشاوي الذي تم تعيينه سفيرا للمغرب في الشيلي. بعد ست سنوات، نجح فيها روض في الاندماج بالمجتمع الشيلي، وصارت له صداقات إنسانية وعلاقات ثقافية مع المثقفين والفنانين بهذا البلد الذي فتحت له فضاءاته المتنوعة محفزات لكتابة الشعر باللغة الإسبانية، التي تعلمها وأتقنها بشكل عصامي، ما مكنه من إنجاز ديوان عنوانه “تفاحة من كلام” تم طبعه في الشيلي. وسيعود من جديد إلى مدينته الدار البيضاء، وهو اليوم يدير موقعا إلكترونيا يحمل اسم: “مدونة روض برس”، لكن قلبه في الشيلي، حيث يفكر في العودة للعيش والإقامة بها.  

Visited 39 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن