يوم وزع المهدي بنبركة صندوق “العلم” على العمال (2-2)
عبد السلام البوسرغيني
لم يكن ما حدث من شقاق وتصدع في حزب الاستقلال، بصفته القوة السياسية المهيمنة على الصعيد الوطني، قد أثر على شروع حكومة عبد الله إبراهيم في تنفيد المخطط الاقتصادي الذي تم الاتفاق على تطبيقه مع الملك الراحل محمد الخامس، وهو مخطط واسع استهدف تزويد البلاد بمؤسسات ومقاولات عمومية لتخليص الاقتصاد الوطني من هيمنة رأس المال الفرنسي، فكان أن تم تحويل البنك المخزني المغربي، الذي كان خاضعا للبنك الفرنسي (باري بايي با)، إلى بنك المغرب، وتحويل العملة المغربية من الفرنك إلى الدرهم وفصلها عن منطقة الفرنك. كما تم تحويل شركة السكك الحديدية إلى المكتب الوطني للسكك الحديدية، في عملية شبيهة بالتأميم، وتم تأسيس بنك الإنماء الاقتصادي، وصندوق الإيداع والتدبير، والبنك المغربي للتجارة الخارجية، الذي كان من المؤسسات التي تحولت إلى القطاع الخاص، بحيث أصبح من أكبر البنوك على الصعيد الإفريقي وينتشر بفروعه في مختلف أنحاء العالم،ويرأس هذا البنك اليوم السيد عثمان بنجلون أحد أكبر أغنياء المغرب.
لست هنا بصدد استعراض ما أنجزته حكومة عبد الله إبراهيم بالنسبة للاقتصاد الوطني، وهو كثير شمل أيضا ميدان الطاقة. وهذا ما ألب عليها الأوساط الرأسمالية المغربية، التي تحالفت مع الرأسمالية الفرنسية بالمغرب، وعملوا معا على إزاحة وإسقاط هذه الحكومة، لكي يتحول مسار الاقتصاد الوطني المغربي في الاتجاه الذي يخدم أهداف تلك الأوساط. ومن جهة أخرى، فإنه لم يكن خافيا أن ولي العهد الأمير مولاي الحسن كان يطمح في أن يمارس الحكم مباشرة لتدبير شؤون البلاد، وهو ما لم يكن متاحا له مع وجود حكومة تعمل مباشرة تحت إمرة والده. ويبدو أن محمد الخامس خضع لإرادة ولي عهده، الذي كانت له مبرراته لتتولى المؤسسة الملكية الحكم مباشرة، وليس عن طريق حكومة، ربما كان لأعضائها وأنصارها من القادة السياسيين توجهات لا تتطابق مع توجهات القوى السياسية التي تحالفت مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن، الذي تولى الملك خلفا لوالده، واستمر في الملك من أوائل سنة 1961 إلى منتصف سنة 1999.
لنرجع إلى سنة 1958، لنتعقب ما كان يقوم به الزعيم اليساري المهدي بنبركة، ففي هذه السنة كان رحمه الله قد حقق إحدى أمنياته التي تمثلت في ورش “طريق الوحدة”، الذي كان يستهدف من ورائه تكوين جيل من المتطوعين المتمرسين على العمل، والمتكونين كأطر، لما كان يتصوره أو يتخيله من مشاريع البناء، إذ كان المتطوعون في ورش “طريق الوحدة” يتلقون تكوينا ثقافيا بواسطة عروض ومحاضرات يقدمها مناضلون ومثقفون، كان المهدي بنبركة يسهرشخصيا على تنظيمها، ويحرص على أن تنشر في جريدة “العلم”، التي كان يتردد على مطبعتها ويبدي تعاطفه مع العاملين بها. وقد أتاحت لي زياراته لمقر الجريدة الاحتكاك به والاستفادة من توجيهاته التي كان يحرص على تقديمها لكل من حواليه.
ولقد استغل عمال مطبعة “العلم” تعاطف المهدي معهم، فقدموا له شكوى تمثلت في عدم استجابة مدير الجريدة عبد الجليل القباج لطلبهم الاستفادة من قرض لمواجهة متطلبات عيد الأضحى، الذي كان على الأبواب، فكانت الاستجابة منه على الفور، إذ استدعى المكلف بصندوق مداخيل الجريدة، واسمه سليمان، وقد غاب عني لقبه العائلي، فطلب منه الإتيان بكل ما في الصندوق وقدمه لمندوبين عن العمال ليوزعوها عليهم، وأعطى تعليماته بأن يكون ما قدم إليهم منحة العيد، تقديرا منه رحمه الله لما يقدمونه من خدمات لفائدة جريدة الحزب.
لقد أتاح لي انتسابي إلى أسرة “العلم” أن أحتك بالفقيد المرحوم المهدي بنبركة، من خلال زياراته المتكررة للجريدة، وأتاح له هو شخصيا التعرف على نشاطي في الجريدة، وكان ذلك سببا في ترشيحه لي لأنتسب إلى أسرة جريدة “التحرير”، وقد استدعاني لأصاحبه إلى الدار البيضاء في سيارته قصد الحضور في اجتماع كان أول فرصة أتعرف فيها على المجاهد عبد الرحمان اليوسفي، وعلى الفقيه محمد البصري. وبانتسابي لجريدة “التحرير” التي انتقلت من أجل العمل بها من الرباط إلى الدارالبيضاء، بدأتُ حياة جديدة في عالم الصحافة النضالية، التي كانت تمثلها هذه الجريدة، والتي استمر إشعاعها مع جريدة “المحرر”، وكان فرسانها من المناضلين والمجاهدين الذين تركوا ذكراهم الخالدة في تاريخ المغرب المعاصر، وأذكر من بينهم على الخصوص محمد عابد الجابري، ومحمد باهي حرمة، والشهيد عمر بنجلون، ومحمد الحبيب الفرقاني، ومحمد الوديع الأسفي، ومصطفى القرشاوي (رحمهم الله جميعا)، والشاعر أحمد صبري شفاه الله.
أتيت على بعض ما اختزنته الذاكرة عن تلك الفترة الخالدة من تاريخنا المعاصر، التي كتب لي أن أعيش أحداثها وأن يكون لي حظ الاحتكاك ببعض رموزها، ممن ذكرت أسماء بعضهم، لأضيف إليهم في نهاية مقالي اسم المناضل الكبير المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، الذي لمست من التعامل معه في جريدة “المحرر” مدى تواضعه وإخلاصه لهذا الوطن، وهو الرجل الذي أجمعت الأمة المغربية، من خلال الجنازة العظيمة التي شيع أثناءها جثمانه الطاهر إلى مرقده الأخير، على تخليد اسمه من بين الرجال العظام لهذا الوطن العظيم. (انتهى)
الدارالبيضاء 21 مارس 2022