23 مارس 65.. وولد “الخالة حليمة”

23 مارس 65.. وولد “الخالة حليمة”

ع.ت. 

في مثل هذا اليوم (23 مارس)، كنت التقيت برفيق الطفولة “نون”، فاتجهنا إلى الشاطئ وجلسنا على رصيف مقهى مطل على البحر. بعدما ملأ صديقي صدره بالدخان، وأنهى فنجان قهوته الأول وطلب الثاني، دفن سيجارة أخرى وسط أخواتها بالمرمدة البلاستيكية، ليغيب لحظة بنظراته بعيدا صوب الأفق الأزرق، وكأنه يشاهد أول مرة سعة المحيط وأمواجه المتلاطمة.  

حاولت أنا ألا أخرجه من استغراقه، إلا أنه التفت إلي قائلا:

  أتعرف أين كنت غارقا اللحظة؟ أتصدق أنه في ثوانٍ قليلة، عادت بي الذكرى إلى ما يزيد عن نصف قرن؟

 ثم حكى لي الحكاية التالية: 

– كانت لدي خالة، سيدة “ديكوردية”، امرأة ذكية، صبورة وقوية، من اللواتي يطلق عليهن وصف “النساء الاستثنائيات”، إلا أنها لم تكن معروفة. أكيد أن أمثالها كثيرات، وطبعا ليست وحدها الاستثناء.  

في الحقيقة حليمة، (وهذا اسمها) لم تكن خالتي، بل كانت خالة والدتي، كانت أختا لجدتي من جهة الأب. لكننا اعتدنا مناداتها بـ”خالتي حليمة”، وأعتقد أن هذا هو الأصح. 

كانت “خالتي حليمية” لما تزورنا، بعد أن تسلم وتطمئن على أحوالنا، تعتذر من والدتي كي تعفيها من شرب فنجان شاي أو قهوة أو تناول أي شيء، وتقول إنها قصدتها كي ترتاح بعض الوقت. هنا كانت الوالدة تطلب منا الهدوء، أو الخروج للعب مع أقراننا في الخارج، فـ”لالة حليمة” منهكة ومريضة وتريد أن ترتاح.  

وكانت تظل نائمة عندنا حوالي ساعتين، بعدها تستيقظ، تتوضأ وتصلي صلاة طويلة. عرفت لاحقا أنها كانت تؤدي صلوات الظهر والعصر والمغرب مرة واحدة. 

كنت أعتقد أنها هاربة من صداع أولادها، إلا أني علمت أنها كانت تغادر بيتها من الصباح إلى العصر، تفتش عن ولدها البكر السي محمد، الذي “خرج ولم يعد”، وقد اختفى ذات يوم من آخر أسابيع شهر مارس 1965. لم تترك الخالة حليمة أي مخفر للأمن أو مستشفى ومستعجلات أو مشرحة أموات، بل إنها ترددت حتى على مقابر المدينة أيضا تسأل هل دفن بها شاب بالمواصفات التي صارت ترددها وكأنها تلقي قصيدة زجلية: (ولد طويل مفروز بين الاولاد.. حنين وزين ومنقاد…).

 ظلت تكرر جولتها كل يوم، ولما أكملت دورتها على الأماكن التي كانت تسأل بها، عادت للأماكن نفسها من جديد. مر شهر وشهران، وعام وعامان وثلاثة، والخالة حليمة لم تتعب في بحثها عن ولدها المختفي، إلا بعد أن هددوها في “كوميسارية المعاريف”، أنها إن لم تتوقف عن إزعاجهم بسؤالها عن ابنها، فإن باقي أولادها سيلقون المصير نفسه. هنا خافت المرأة المغبونة، وكان السي محمد هو الولد الوحيد لها ضمن بنتين أصغر منه.  

تذكر ثريا، ابنتها الكبرى، أنه لم يمر يوم دون أن تذكر ولدها وتبكيه. وقالت راضية الصغرى: صرنا نخاف على أمنا أن تصاب بجنون، إن لم تكن جنت فعلا، فهي تكاد لا ترى النوم ليلا ونهارا. 

واظبت الخالة حليمة على الاحتفال بعيد ميلادها ابنها المختطف. تقول: 

– بعد نهاية رمضان هذا العام سيكمل السي محمد عامه الرابع والعشرين،.وهكذا ظلت تحسب السنوات والأعوام. وقبل أن يطفئ السي محمد شمعته الثالثة والثلاثين في الغياب (1982) توفيت أمه حليمة. ماتت ولم تتقبل فكرة من أخبرها أن فلذة كبدها قتل أو مات في خضم أحداث 23 مارس 1965 بالدار البيضاء، بل كانت ترد عليهم:

– “أنا الأعرف بولدي، إن السي محمد ولد صغير السن، من أين له إدراك شؤون السياسة، كل ما كان يشغل بال ولدي هو دراسته واجتهاده كي يحصل على شهادة البكالوريا…”. 

 كان يقول لها: “سأهدي إليك هذه الشهادة، هي لك أنت يا أمي العزيزة”. وكانت هي تقول له إنها ستقيم له عرسا بالمناسبة. ومرة تتذكر أنه سألها عن رأيها في تسجيله لدراسة القانون بكلية الحقوق، فسألته بدورها إلى أين ستفضي به هذه الدراسة؟ فأخبرها أنه يمكن له أن يصبح محاميا، فتوسلت منه ألا يفعل، لأنها لم تنس احتيال محام فاسد وكلته ملف قضية والده الذي توفي في حادث شغل، وقد سرق منهم جل المبلغ المالي الذي حولته شركة التأمين. 

يتذكر صديقي “نون” يوم الكشف عن المقبرة الجماعية، في العهد الجديد، التي دفن بها ضحايا انتفاضة 23 مارس 1965، ولم تعلم بنتا الخالة حليمة بالحدث إلا مؤخرا. تذكرتا حزن والدتهما وبكتاها مع أخيهما السي محمد، كأنها ماتت من جديد، وكأنه اختفى يومها. ولم تستمعا لمن حثهما على طلب تعويض لجبر الضرر عن اختفاء شقيقهما وعذاب والدتهما جراء ذلك الاختفاء القسري”. 

واسيت صديقي، وخلصنا معا، إلى أن حالة ولد الخالة حليمة غير محصورة، وربما أكبر مما يتصور، وحكيت له باختصار قصة شاب، ابن صاحب مطبعة صغيرة بحي مرس السلطان، أصابته رصاصة عندما كان يطل من نافذة مواربة بمنزلهم، يشاهد العساكر المسلحين، الذين نزلوا إلى شوارع الدار البيضاء في انتفاضة 20 يوينو 1981، لما أصيب ذلك الشاب خاف أهله أن يأخذوه إلى المستشفى، وفضللوا الاستنجاد بممرض من جيرانهم. لم يمت الشاب المصاب إلا أنه بقي أعمى ومختلا. وحالته وحالة الخالة حليمة وولدها، مثل حالات عديدة بقيت غائبة وغير مسجلة.     

Visited 35 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة